«التاريخ علم ينتمي إلى الماضي من حيث موضوعه، ولكنه مرتبط بالحاضر والمستقبل من حيث هدفه ووظيفته الاجتماعية وتبدو - اعادة قراءة التاريخ في كل عصر - في هذا السياق ضرورة حيوية بحثاً عن العناصر التي تفسر الحاضر أو ترشد للمستقبل» د. قاسم عيدت قاسم - إعادة قراءة التاريخ (التاريخ) لا يعيد نفسه، ولكن أحداثه وتداعياتها - تبيح النظر - متى كان ثاقباً لاستخلاص (الدروس) ومعرفة (احتمالات الوقائع): هل ثمة ما يشير إلى (النهضة) أو على الأقل بداياتها أو ثمة ما يدعو للحيطة والحذر من تآكل ودمار. دار في ذهني شريط طويل من تاريخ هذا الوطن الجميل وأنا أشق مع بنتيَّ د. منى والمهندسة سها (شريان الشمال) باتجاه (سد مروي) بدعوة كريمة من (الأستاذ خالد عثمان) - ومساعده جمة من (الأستاذ يوسف موسى)، ولم تكن تلك هي الزيارة الأولى. فقد سبقتها زيارات كثيرة ذات طابع رسمي أو اعلامي أو ثقافي لكنها المرة الأولى التي تكون فيها الزيارة والسيارة مما أتاح شيئاً من التأمل في (حركة الزمان) و(المكان) وعلاقة ذلك بالانسان في هذا الشريط من (الصحراء والنيل) والذي مازالت في جوفه الكثير من الأسرار: ظل كتاب البروفيسور الامريكي (ويليام ادامز)، (النوبة رواة افريقيا) يدمدم في خاطري ويزعزع مسلمات كثيرة في وجداني. يثبت (الدكتور محجوب التجاني محمود) الذي قام بترجمة الكتاب مدخلاً ممتازاً (صفحة *) «لقد خاض أهل النوبة ما قدر لهم في ذلك تاريخاً حافلاً بالصراع وبكافة أشكاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتخيروا من طرائقه الثقافية ما اتسق مع ارثهم ومكونهم الحضاري الفريد عبر رواق من الاتصال والهجر والهجرة فالانقطاع ثم الوصل تارة أخرى، يشكلون تجربتهم الخاصة مدُوُّنهم الزمني وسجله التاريخي الطويل: تلاحمت معالم تلك الصورة الغنية بالأحداث والمواقف مع أنباء العالم الكبرى التي تفاعلت معها النوبة أيما تفاعل: (الاسلام) - ومن قبله (المسيحية) ومن قبلها عوالم (الوثنية) وحضارات (الرومان) و(فارس) ومن قبلها (الاغريق) وترويها في عمر الزمان (الاشورية) و(الفرعونية) وما فقدت (النوبة) فكرتها: هؤلاء قوم غزوا (مصر) وأعادو من جديد (سلطان عبادتها) ثم عادوا إلى مسقط رأسهم وما ذابوا». امتد (الزمان) 806-751-ق.م (كاشنا) -320م - ماليكا راجار وامتد المكان عبر (كرمة) و(نبتة) و(مروي). واحتشد عبر (المكان) و(الزمان) - أقوام من (أعراق) تمازجت - وثقافات تلاحقت - لتضيء قبساً جديداً تميز بالتوهج والألق. (2) تداعت في الخاطر.. أحقاب من (الزمان) - وأسئلة ليست حائرة عن (المكان) وظل (الانسان) محلاً عندي للدهشة والسؤال وربما الحيرة.. كيف كان صراع الحياة - أهو (الحوار الناعم) أم (المواجهة الشرسة) - ومضى سؤالي عميقاً ماذا عن (الأسماء).. (أسماء) (الأشخاص) و(المدن) و(القرى).. في شريط النيل الضيق.. عند لفته من (أبو حمد).. باتجاه (دنقلا) (قنتي.. منصوركتي.. تنقاسي وشيخها (عدلان) - الباسا - مساوي - الغُريبة - الكُنيسة.. (لماذا غيروا اسمها للصفا) - القُرير/ أبو دوم - أشوش - السقاي - نوري - دويم ود حاج - التقاويت - سمعريت - أرتوموقه/ أوسلي/ كورتي - أم بكول وشبأ» سؤال مشروع.. هل قاومت (ثقافة النوبة).. بعض (النفوذ العربي) - فاستماتت - في أن يظل اسمها ماثلاً (تا.. نا.. قس.. التقاويت (ويبدو النفوذ البجاوي) وارداً - شِبا).. وهي قريبة من سبأ.. وسوبا.. وبعض منازلها التي تعلو الصخور ليست بعيدة عن (ثقافة اليمن المعمارية) - (أشوش).. (نوري).. حتى وان غنى (الكابلي) في أوبرتيه - لها.. فهي محل سؤال أهي ذات أصل عربي.. أم ثمة تصحيف.. وبعد.. فلم أمنع نفسي - من فضول - في النظر إلى سحن وملامح البشر (الشايقية - الحسانية - الهواوير - البديرية.. وغيرهم - الملامح النوبية - الملامح العربية - الملامح المزدوجة.. وربما بعض أتراك وبعض مماليك بعض فلاحين وكنوز وليس بعيداً - عن كل ذلك - ممارسة الحياة الاجتماعية - في السلوك واللغة.. وطريقة الانفعال والتعبير عنها - ولقد يهم كثيراً أن أثبت - بعض - ما أورده نكولز 1913 عن سكان الشريط الضيق من أهلنا (الشايقية) وهم العنصر الأكثر حيوية في المجال الاقتصادي والثقافي - يرى (ترمنجهام) الاسلام في السودان - ص88، أنهم ربما كانوا أصلاً من (البجا) - ويعني ترمنجهام فرضيته على أساس ما رواه (المقريزي) عن (ابن سليم) من أنهم قد هاجروا ليستقروا في بلاد (النوبة) وليحتفظوا بلغتهم الخاصة ولا يجاريه (نكولز) في هذا الاستخلاص - يرى (ماكمايكل) (تاريخ العرب في السودان ج1 - ص213 - أنهم - أو أغلبهم كانوا بقايا من (الأتراك) و(الألبان) و(البشناق) الذين كانوا يؤلفون الحاميات والحرس في (بلاد النوبة) منذ غزو (السلطان العثماني) ION - وهو رأي ضعيف رفضه أغلب الباحثين (كراوفورد) و(د. محمد عوض محمد). - يستنتج (ڤيرت) الرحالة الألماني 1840-1841 أنهم من محاربين تمردوا على (الفرعون العماتيك) وهم مازالوا في جهتم العسكرية في (الجنوب) ويورد (ڤيرت) عدداً من الشواهد التي تدل على ذلك (وأيده ماكمايكل في ذلك - ما ثورة اليروايات الوطنية - من الأصل العربي الصريح - لقبيلة الشايقية. وإذا كان الدكتور (عبد المجيد عابدين) قد أورد ذلك في مقدمة ترجمته لكتاب (نكولز) فان الممكن في ظل تداخل الهجرات وصراعات - الزمان والمكان - أن تكون (قبيلة الشايقية).. مظلة كبيرة.. تحقق مقولة الوحدة في التنوع. (4) كان الشريط - وهو مازال جارياً - والسيارة تعبر بنا (الشريان) - يعود بي إلى (ستينيات القرن الماضي) حيث يسجل موسم اعلان امتحانات الشهادة السودانية.. أكبر قدر ممكن لأولاد الشمالية.. فكانوا أوائل تلك اللجان - ولم تنج من شطارتهم مدارس وادي سيدنا وخور طقت وحنتوب.. وامتد ذلك إلى المدارس المصرية - (الثانوية المصرية) - (جمال عبد الناصر) - و(القبطية) و(الانجيلية).. ومازالت تفسيرات هذه (الشطارة) تركز على (البلح).. الذي لم يظهر مفعوله في من (أكلوه) من غيرهم: شطارة فطرية.. هيأتهم ليكونوا نخباً.. تصول وتجول في حكم وادارة السودان.. ومازالت كثير من (امالة كلماتهم) ترن في أذنتي = غِمتي.. آ.. سجم.. أى.. يا سجمان.. وغيرها ومازال بعض تلك (شنطهم الحديد) يحمل لزعة.. وبعض ملح» ولقد عنَّا لي أن أهاتف - من قلب تلك الديار الجميلة بعض أصدقاء أعزاء.. فهاتفت (عبد المنعم خضر جكنون) من عند (نوري).. و(عبد المطلب الفحل) من قرب تنقاسي.. فصحح لي أنه من (الزومة).. ولكن (تنقاسي).. بها.. والد آل شامي المرحومين سيد أحمد الحاردلو وصادق شامي - وكان طبيعياً - أن يتداعى تفكيري لمحاولة ربط حركة التغيير السياسي والثقافي والاجتماعي بحيوية النخب المثقفة في (الشايقية).. هذا مقال آخر - لكنني تذكرته وأنا استعيد ما كان يقوله أستاذي خلف الله الرشيد رحمة الله عليه.. من أن «وميض.. أهل السودان.. يجئ من البركل». وكان لزاماً علينا أن نزور (البركل) - ويورد (أدامز) - ص257 «ينهض (جبل البركل)، جبل النوبيين المقدس مثل محراب مارد فوق السهل الفيضي للنيل. أن قمته امتداد عظيم مشيد من الحجر والحصباء يبلغ عدة أفدنة في مداه وإلى الشمال ينحدر نحو الأسفل بما يقارب التدرج نحو سطح الصحراء العاري. أما الوجه الذي يقدمه جبل البركل نحو النيل - رغماً عن هذا - فهو يقرب من قمة رأسية أعلى 300 قدم: لقد شيد رمسيس الثاني - في ظل هذا الطود العظيم المعبد الذي ظل ماثلاً قروناً متتالية بوصفه المركز الروحي للنوبة (معبد آمون). (5) للأرض عبق تاريخ استثنائي - وللزمان توقيع مزدهر - وللانسان معضلة في تحقيق النماء - ويبدو - (سد مروي) - كصناعة سودانية متقدمة - عنواناً أصيلاً - للتغيير باتجاه النهضة - فها هي الأرض تضيء.. وليمتد الضياء شرقاً في (اثيوبيا) - وغرباً في (تشاد).. ولتعلن أسماء سودانية.. عن قدراتها في الفعل الجاد.. فهل ترحل قرى الشريط الضيق.. بقدرات أهلها.. باتجاه المستقبل. سد مروى: نشيد في سماء الوطن - يقدم السلام الجمهوري لبعانخي وتهراقا وكاشتا...!! ملاحظات غير عابرة ٭ حين قال أحد (القيادات الجنوبية) - عند زيارته (للشمال).. أنه لو كان (بالشمال) غابات.. لتمرد أهل (الشمال): كان الرجل صادقاً.. لكن الأكثر صدقاً أن أهل (الشمال) ممَّن هاجروا للعاصمة.. قد صنعوا التغيير.. ومازال أهل الشمال البسطاء.. في انتظار المزيد من أسباب النهضة.. أو على الأقل بعض عطاء أهلهم. ٭ يبدو أنني أخطأت في نطق (تنقسي)، فقد زرت (تنقاسي) باعتبارها كذلك وكان الفرق كبيراً.. وكان طبيعياً ألا أجد (صديقختمي صديق المفتي) أو (عبد الرحمن سوار الذهب) أو (محمد حسن سنادة) أو.. أو ممن درسوا معنا في ثانوية جمال عبد الناصر أو في جامعة القاهرة فرع الخرطوم. ٭ استطاع (الشايقية) بذكاء وحنكة.. وفن أن ينقشوا في عقول ووجدان الآخرين صورة ذهنية شائقة.. للمنطقة ولأهلها.. فالكلمة حنينة وللطنابير شجو غريب.. وريحة اللبن وروث البهائم.. وثغاء الماعز.. والفجرية ونهنهة الأم.. ونداء الآذان.. حضور في (حس) كل سوداني.. ولم يكن (الكابلي) بعيداً عن النبوءة.. حين ردد في اصرار: يالحلة.. تنوري.. فها هو السودان قد استضاء بكهرباء سد مروي.. ويا حليل.. زمان سجل فيه أستاذنا الكبير حمد عثمان يس وبعض رفاق لهم - من (الأفندية) - أماسيهم. ٭ في مروي.. ويا رحم الله مولانا.. خلف الله الرشيد.. ومولانا أبورنات.. هل نفكر قليلاً.. في مكوناتهم العقلية والوجدانية - ما بال شلوخ (الشايقية) - رجالاً ونساء.. تسجل غياباً...