ينادي المسلمون بضرورة تطبيق شرع الله وإقامة الدولة المسلمة دون الدخول في توصيف لتلك المصطلحات ومدلولاتها أو حتى الحديث عن الحد الأدنى لما يجب أن يتوفّر من مكونات تلك المصطلحات «شريعة، دولة إسلامية» حتى يصدق على ذلك المجتمع بأنه مجتمع مسلم قد قام بواجب تطبيق الشريعة ولو على مستواهُ الشخصي أو على مستوى حكومتهِ، ولكن فقط تجدنا نسمع بمطالبات مستمرة ب«تطبيق الشريعة» وإقامة «الدولة المسلمة»، ولاشك أن الأمر يحتاج منا لحوار يتناول قضايا هي في تقديري تعين على إيضاح تلك المسألة متمثلاً في حديث فقهي عن معاني ومدلولات تلك المصطلحات التي ننادي بها «شريعة، دولة إسلامية» مما يجعلنا نسأل ما المراد بشريعة؟ وهل الأمر فيها يقتصر على مايعرف بالحدود الإسلامية «حد السرقة، حد الزنا، حد الخمر، حد الحرابة ... إلخ»؟ وهل هذا هو المطلوب تطبيقه من معاني شريعة؟ أم أن الشريعة يدخل فيها كل أحكام الدين؟ مما يتطلب إعادة النظر في مفهوم شريعة وتطبيقها. جاء من ضمن ما جاء في تعريف كلمة «شريعة» وفي لسان العرب: ان الشريعة لغة هو«الموضع الذي ينحدر منه الماء» وإصطلاحاً أي شرعاً "الشريعة هي ماشرعه الله تعالى لعبادهِ من الدين مثل الصوم والصلاة والحج وغير ذلك، وإنما سمي «شريعة» لأنه يقصد ويلجأ إليه كما يُلجأ إلى الماء عند العطش ومنه قوله تعالى: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها»، وقوله تعالى: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا». ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: «إن الشريعة كما في القاموس وشرحه: هي ماشرعه الله تعالى لعباده من الدين أو ما سنهُ من الدين وأمر به كالصوم والصلاة والحج والزكاة وسائر أعمال البر ومنها قوله تعالى: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر» وإشتقاقها من «شرع الشئ» بمعنى بينه وأوضحه أو هو من الشرعة والشريعة بمعنى الموضع الذي يوصل منه إلى ماء معين لا إنقطاع له ولا يحتاج وارده إلى آلة» أ ه. فإذا ما اتفقنا وبعد الرجوع إلى معنى كلمة «شريعة» إصطلاحاً أن هذه الكلمة «شريعة» لا تعني فقط مايلي الحاكم من أحكام يجب عليه القيام بها وإنما هي تعني كل ماشرعه الله لعباده من الدين من صلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك بل ماذكرناه من معاني لشريعة من صلاة وصيام وزكاة وحج يدخل دخولاً أولياً فيها فهذا ينبغي أن يُفهم منه أن كثيراً من أحكام الشريعة بل غالبها هو مطالب به المجتمع المسلم لا الحاكم إذ لايُتصور أصلاً تطبيق لهذه المعاني بدون وجود لمجتمع مسلم يقوم بذلك، بل يمكننا أن نقول ان قدراً عظيماً من الشريعة مطبق وموجود من خلال ممارسة المجتمع لشعائره الدينية مما يتطلب إعادة النظر في الخطاب بمطالبة التطبيق للشريعة ليكن «فلنطبق مانقص منها» أو «لنأتي بما نقص منها» وهو الذي يلي الدولة أو الحكومة من أحكام والدولة لا تقاد بالسياط إلى أن تجعل من نفسها «دولة مسلمة» وإنما المجتمع هو الذي يقودها إلى ذلك فلا يصدق مسمى «دولة إسلامية» على حكومة وإن كانت تطبق الحدود بأجمعها في حالة تصوّرنا لعدم وجود مجتمع مسلم داخل هذه الدولة فالأرض دائماً تشرف بشرف المكين وبأهلها تغلو الديارُ وترخُصُ، وقديماً قالوا: وما حُب الديار شغفن قلبي ** ولكن حُب من سكن الديار ولذلك يستغرب الإنسان هذا الفصل في عدم استصحاب دور المجتمعات في إرساء قيم الدين والإسلام ليبقى الحديث فقط عن قوانين إسلامية للعقوبات، لا يهنأ المسلم أبداً بعيش إسلامي ولو كان في بلد كل أهله يمارسون الشعائر الإسلامية من صلاة وحج وصيام وزكاة وزواج وطلاق وبيوع، فلا يهنأ أبداً بعيش إسلامي في تقديره إلا إذا ما شاهد رجالا من الشرطة يطاردون فتاة غير متحجبة فيُوسِعونها ضرباً بالسياط، فإذا ما كان ذلك موجوداً فعندها يطمئن ذلك المسلم بأنه يعيش تحت ظل دولة إسلامية ليحصر الأمر كله في قوانين إسلامية في حين أن المسلمين مطالبون وقبل ذلك كله بدعوة الناس إلى الإيمان والفضيلة، فالإيمان مقدَّم على الأحكام ولابد من العمل على تكوين رأي عام في كل قيمة وقضية إسلامية فالرأي العام معلوم أنه أقوى سلطاناً من القوانين وذلك لأن المجتمع وقتها هو الذي يتولى الرقابة على القيم أكثر من تولي القوانين لذلك فالقوانين لم تنشأ لإقامة مجتمعات مسلمة وإنما لحماية قيم تلك المجتمعات ولتطارد القلة المتفلتة من تلك المجتمعات لا أن تطارد الكثرة منها. علماً بأننا نحن المسلمين الأفضل في حقنا بأن نستر أنفسنا حتى ولو زنى أحدُنا أو شرب خمراً ولانسلم أنفسنا لإقامة الحد علينا فقط علينا اللجوء إلى الله تعالى بالتوبة النصوح كما أن الشرع أمرنا بمعالجة الأمور التي تستوجب حداً قبل أن نرفعها إلى السلطان لأنه بعد رفعها لامجال للتسوية فيها آنذاك ما يؤكد أن الأصل أن يعيش الناس بعيداً عن القوانين مااستطاعوا إلى ذلك سبيلا إلا ما إضطرّت إليه من ذلك. إذن علينا أن نقول بل يجب أن نقول اننا نعيش في دول إسلامية لطالما أن مجتمعاتها تطبق معظم ما يدخل في مسمى شريعة وكذلك أننا نطبق قدراً عظيماً من الشريعة الإسلامية ولكننا نتوق ونطمح في إرساء ماتبقى من قيم وتعاليم إسلامية سواء كان ذلك على مستوى الحكم والحاكم أو على مستوى الشعوب مما يتطلب الدقة في التعبير عن مطالبنا، فلا يقل أحدنا اننا لسنا بدولة إسلامية أو اننا لانطبق الشريعة. ومما يقتضيه هذا الفهم كذلك أو ذلك التقرير من إيضاح لتلك المفاهيم أن يعمل كل معارضي الشريعة أيضاً إلى تغيير خطابهم في الإعتراض ومطالبتهم بإقصاء الشريعة وذلك لبناء اعتراضهم أو احتجاجهم على مفهوم خاطئ أسسهُ المسلمون، وما بُني أو قام على خطأ لاشك أنه هو الآخر على خطأ يحتاج إلى إعادة نظر أو تصويب. والله من وراء القصد