كم تستهوينا ذكريات رمضان، خاصة نحن المهاجرين من أبناء السودان في فجاج الأرض الواسعة والنائية القصية عن مراتع الصبا، ووطن الجدود، بلد النور ووطن الأحلام الأولى. السودانيون صاموا في كل أنحاء الأرض أو العالم أو الكرة الأرضية، قل ما شئت لوصف كوكبنا الدري الذي نعمره بالحروب لا بالسلام، وبالفوضى لا بالنظام، وبالضجر لا الابتسام. عندما أستعرض صيام «الإعلاميين السودانيين» كأيوب صديق في لندن وقبله الطيب صالح وإسماعيل طه وعبد الرحمن زياد والزبير الطيب في واشنطون، وحسن عبد الوهاب في ألمانيا، أو بابكر عيسى في الدوحة، أو طلحة جبريل في الرباط، أجد اختلافاً في المواعيد، وانعداماً لصوت الأذان، فهم لا يفطرون في أغلب دول الغرب والبلاد غير المسلمة على إمساكية مكتوبة بتحديد مواعيد الصلوات الخمس، وبعضهم لا يملك إلا الحدس، وربما القرب من أي من مواقع الجاليات المسلمة، والإفطار معهم هو الوضع المثالي، وبالمناسبة فقد لا حظت أن السودانيين، بقدر ضجيجهم وانفعالهم مع قضايا وهموم الوطن الحبيب، إلا أنهم يشكلون غياباً تاماً عن المراكز الإسلامية الشهيرة في لندن وواشنطون وباريس وغيرها من حواضر العالم، ويبدو أن «طيبتنا» وزهدنا وتربيتنا الصوفية الخجولة تجعلنا «لا نريد علواً في الأرض» فتركنا الجمل بما حمل لإخوتنا الشوام والمغاربة واليعاربة والمصارية «كما يسميهم الخليجيون» دون أن نظفر بسوداني واحد ناشط في هذه المراكز الإسلامية، ناهيك عن الوصول لا إلى «البرلمانات الغربية القومية أو المحلية في تلك البلاد الحرة التي لا تحجر السياسة والدعاية والدعوة للنفس، وخذوا أمثلة من المغاربة في فرنسا حيث وصلوا إلى أعلى المراكز، وها هي «رشيدة داتي» عضو في البرلمان الأوربي ممثلة لفرنسا، بعد أن تبوأت منصب وزيرة العدل في فرنسا، وهي ذات الأصول المغربية، وغيرها كثير، أما جماعتنا أبناء السودان، فيبدو أن طموحهم لا يتعدى الجانب الشخصي، أو أن الحياة في تلكم البلاد الباردة قد استلبت منهم حرارة الطموح، أو ربما لإحساس السوداني المستمر بأن هذه الغربة مؤقتة، وأنه راجع غداً للبلاد، وأن هذه المنافي والمغتربات ليست إلا محطة مؤقتة، ولذلك فهو لا يبالي بالبقاء هنا، ولا يسعى لأن يكون له صيت أو موقع، فلا يشتري المسكن أو السيارة أو ما يدل على بقاء، فيفقد مزايا متعددة، وفي الوقت نفسه تتراكم عليه السنين وهو في نقطة «اللاعودة واللإقامة»، وصدقوني هذا هو تفكير الغالبية العظمي منا نحن المغتربين، فنحن «كلنا» نعتبر غربتنا رحلة سريعة، وأن العودة للسودان أقرب من الغد القريب، ولكن تتراكم السنين دون أن ندري، فمتى الاستفاقة؟ ومتى يجب أن نعيش الحياة في الغربة مثل الشوام والمغاربة والمصارية الذين فهموا الحكاية ولسان حالهم يقول: «إننا نعيش في الاغتراب كأننا نعيش أبداً، ونفكر في العودة، وكأننا سنعود غداً»، وكل سنة وأنتم وبلادنا الحبيبة شعباً وقيادة في خير وعافية وأمان.