بدا مدهشا لكثير من الناس وبعض بني جلدتنا من الصحفيين تأكيد المبعوث الرئاسي الاميركي الى السودان وجنوب السودان برينستون ليمان قبل يومين أمام مركز ابحاث الأطلسي أن ادارة الرئيس باراك أوباما ترفض بشدة اسقاط نظام الحكم في الخرطوم بالقوة،واعتبار ذلك “خطا أحمر" وأنه حزين على توتر علاقات واشنطن مع الخرطوم،وأن الولاياتالمتحدة تسعى الى إصلاح وتحسين علاقاتها بالسودان، شريطة قيام الخرطوم بتبني الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في البلاد. لا يمكن قراءة الموقف الأميركي تجاه السودان خلال الفترة الأخيرة بمعزل عن مسيرة علاقات البلدين ،على الاقل في الحقب السياسية المختلفة، وكانت السياسة الأميركية تقوم على مبدأ الاعتماد على الأنظمة العسكرية والتي تعتبر من وجهة نظرها حليفاً يمكن التعامل معه بسهولة، كما حدث خلال فترة ابراهيم عبود ثم المرحلة الثانية من عهد جعفر نميري بعد ضربه الحزب الشيوعي بفشل المحاولة الانقلابية في 1971وتحوله من المعسكر الشرقي الى الغربي، حيث عززت الولاياتالمتحدة في هذه الفترة وجودها السياسي والأمني والاقتصادي في البلاد. عند مجئ الحكومة الديمقراطية برئاسة الصادق المهدي تدنت المعونات إلى أقل من خمسة وعشرين مليون دولار في عام 1985م، واعترف نورمان أندرسون السفير الأميركي الأسبق في الخرطوم بأن الحكومة الأميركية خفضت مساعداتها بشدة للحكومة الديمقراطية، وجاء ذلك في مذكراته فيما بعد، والتي كشف فيها السفير أن حكومته كانت بالفعل تفضل إسقاط الحكومة المنتخبة. تعكس هذه الرحلة أن العلاقات الأميركية السودانية تتسم بالاضطراب وعدم الاستقرار،وتحكمها المصالح أكثر من غيرها،وتلعب مجموعات الضغط الأميركية دورا مؤثرا في صياغتها وتوجيهها. وفي أكتوبر من العام الماضي، أعلنت إدارة أوباما عن حزمة جديدة من الإجراءات والوعود “خريطة طريق" مثلت تحولاً جذرياً في توجهات الإدارة تجاه الخرطوم، وتعهدت واشنطن بتطبيع كامل إذا اعترفت الخرطوم بنتيجة استفتاء تقرير مصير الجنوب، وإذا تم التوصل إلى حل شامل لأزمة دارفور. هذا العرض أثار رد فعل غاضب من طائفة من أنصار أوباما والسياسيين والناشطين، رأوا فيه تهاوناً أكثر من اللازم مع الخرطوم، والمعروف أن أوباما وكلينتون كانا قد وجها انتقادات لاذعة لإدارة بوش أثناء الحملة الانتخابية عندما تسربت أنباء في أوائل عام 2008 بأن الإدارة أعدت خطة من هذا النوع لتطبيع العلاقات مع الخرطوم وعلى أسس مقاربة. الواقعية والبراغماتية ظلت نهج صقور كل إدارة أميركية منذ أيام كلنتون، بعد أن جربوا كل السبل الأخرى مع السودان، وقد كانت سوزان رايس، رأس المتشددين في إدارة كلنتون، هي التي أشرفت، رغماً عنها، على سياسة التعاون المخابراتي مع الخرطوم، وهي عين السياسة التي تابعتها إدارة بوش الأكثر تشدداً، والتي رعت فيما بعد اتفاق نيفاشا وأعدت مذكرة جنيف لخارطة طريق التقارب مع الخرطوم. فالإدارات الأميركية عمرها قصير، ومواردها محدودة مثل عمرها، وتريد نتائج ملموسة قبل الانتخابات، وصقور الإدارات يعرفون قبل غيرهم أن ما كانوا ينادون به في المعارضة من تدخل عسكري أو ضربات جوية في السودان لا يمكن أن يكون خياراً عملياً، كما أن العقوبات ظلت مفروضة منذ عقدين من الزمان دون أن تأتي بنتيجة. هناك عامل آخر رجح كفة الواقعيين في إدارة أوباما التي تستعد للانتخابات الرئاسية التي تبقى لها نحو مائة يوم، وهي حاجة أوباما إلى بناء تحالف دولي عريض لدعم سياسة الإدارة تجاه السودان وكسب نقاط سياسية خلال الحملة الانتخابية. رفض ادارة أوباما لاسقاط نظام الحكم في الخرطوم بالقوة ليس حبا في قادة الحكم وانما خشية من تغيير دراماتيكي في المنطقة غير متحسبة له،كما تدرك أن السودان دولة هشة لا يحتمل هزات عنيفة، وان انفرط عقد الأمن فستتمزق البلاد،وستتأثر بذلك كل دول المنطقة،ولا تريد جبهة جديدة في وقت تنصرف اهتمام العالم الى بؤر أخرى في سوريا وايران والتغيير في دول الربيع العربي. الاتفاق النفطي بين دولتي السودان نزل بردا على أوباما الذي سارع الى تهنئة الرئيسين عمر البشير وسلفاكير ميارديت،فقد منحه كرتا في وقت حرج قبل الحملة الانتخابية ،وأيضا يغازل عبره الصين التي خسرت من العقوبات الغربية على النفط الايراني. اتفاق اديس ابابا مكسب يعوض شيئا مما فقدته بكين من طهران، لذا فإن المرونة الشكلية التي تبدو في موقف واشنطن تجاه الخرطوم تخدم الادارة الأميركية في هذه المرحلة،ولكن اذا رأيت أنياب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم..!!