أصحاب الرأي وأهل الفكر في هذا البلد يعتقدون ان نظام الإنقاذ لا يتبع منهجاً ذا سياسات مدروسة في إدارة الشأن العام.. لا سيما فيما يتعلق بالعمل الخارجي.. وأنّه يجنح كثيراً في تعامله بردود الأفعال عوضاً عن الدراسة والتأني و المبادرة والقيام بأفعالٍ كاملة وقائمة بذاتها.. وهم في إعتقادهم هذا يجزمون بأنّ عدم وجود منهج واضح وسياسات مدروسة وحكيمة ومتفق عليها هو الذي يصنع الأزمات المتلاحقة التي تمر بها البلاد.. ولعله من الحكمة بالنسبة لنا أن نتدارس هذا الإعتقاد ونمعن النظر فيه وبقدر عالٍ من التمحيص .. فلا نقبله كله كشأن المعارضين.. ولا نرفضه تماماً كشأن المؤيدين. إنّ استرجاع أحداث التاريخ منذ مجيئ الإنقاذ في العام 1989م.. يجعلنا نتفق مع هذا الإعتقاد الذي ذهب إليه أهل الرأي والفكر.. فإنقلاب الإنقاذ جاء على أنقاض حكومة ديمقراطية ضعيفة ومفككة ولاقدرة لها على الحكم وقراراتها متناقضة وسياساتها غير ناضجة ولم تكن ترقى بأن تكون في مستوى ادارة بلد بحجم السودان (قبل الانفصال) .. ولهذا ارادت الانقاذ أن تترك انطباعاً في أذهان المواطنين أنّها حكومة قوية وتمسك مفاصل الدولة بقبضة من حديد.. غير ان اهل الانقاذ سلكوا الإتجاه الخاطئ.. حيثُ بدأوا في إعلان التحدي للدول الكبرى دون أيِّ مبرر.. وطفقوا يناصبونها العداء دون منطق سليم.. فأنشأوا معسكرات للتدريب العسكري وجندوا لها المجاهدين استعداداً لحسم قضية الجنوب بما يتفق ومنهجهم في الحكم .. وكانت أناشيدهم تقوم على إستعداء الدول (أمريكا وروسيا قد دنا عذابها)( اي الاثنين معا).. وانتقل الامر من معسكرات التدريب الى وسائل الإعلام الرسمية.. حيثُ اصبح برنامج (التعليق السياسي) الذي يقدمه وقتها معلق اطلق عليه المواطنون (النبَّاح) وشكل وقتئذٍ واحداً من أدوات تخريب علاقات السودان الخارجية مع أقرب الأقربين إلينا كالسعودية ومصر وغيرها.. فكان يسبُّ قادة الدول ويسئ الملوك والرؤوساء وينالُ من الوزراء و احيانا الشعوب.. ولكن هذا النهج لم يستمر طويلاً لأن بعض العقلاء في الانقاذ رأوا ان هذا النهج في ادارة شؤون البلاد سيجلب على البلاد كثيراً من المشاكل خاصة وان المنطقة التي نعيش عليها مليئة بالاضطرابات والحكم يدار فيها بنظريات متناقضة واحياناً متناحرة ولم تستغل الإنقاذ التغيرات السياسية التي حدثت في المنطقة العربية ابان حرب الخليج لبناء علاقات السودان.. بل أساءت إستغلالها بصورة غير رشيدة.. فدعمت العراق في مواجهة الكويت والدول الخليجية.. ووقفت مع إيران في مواجهة الدول الغربية.. وكانت النتيجة الطبيعية أن تتقطع علاقات السودان مع كل دول الجوار الإقليمي الأفريقي والعربي.. بعد أن تضعضعت العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأوربية والولاياتالمتحدة.. فعزل السودان نفسه قبل أن يعزله العالم.. وسجن شعبه داخل المساحة الجغرافية لبلده.. فلم يعد في إمكان السودانيين أن يتحركوا بحرية مثل غيرهم من الشعوب عبر مطارات العالم بعد أن تمّ وصمهم بالإرهابيين.. وصار جواز السفر السوداني وصمة في جبين حامليه.. وبعد ذلك بعدة أشهر فرضت الولاياتالمتحدةالأمريكية مقاطعةً إقتصادية على السودان.. ورغم أنّ المقاطعة تبدو آحادية ومن دولة واحدة فقط وهي أمريكا إلا أنّها بصورة عملية تبدو كمقاطعة عالمية وذلك لتأثير الولاياتالمتحدة على الدول الغربية وهي الدول المانحة للدعم والقروض بجانب تأثيرها على آليات التمويل المباشر مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وكان ازاء هذا الوضع المتأزم ان يبحث عقلاء الانقاذ مخرجاً للبلاد من هذا الحصار الخانق الذي بدأت آثاره تنعكس سلباً على البلاد واهلها.. وكانت المفاصلة الشهيرة بين الإسلاميين في العام 1999م..والتي انتهت بإبعاد عراب الانقاذ الاول الذي كان يدير كل صغيرة وكبيرة في الدولة ولايعصى له قرار ولاتعصى له كلمة.. و حينها حاولت الإنقاذ الثانية استرجاع علاقاتها الخارجية مع دول الجوار الإقليمي.. وبالفعل نجحت في بعض مساعيها.. وأكثر تلك المساعي باءت بالفشل حيثُ أتسع الفتقُ على الرتق.. ودخل طرفا المفاصلة في صراع محموم على القواعد الشعبية للحركة الاسلامية.. جعل الحكومة تغض الطرف عن تحسين علاقات السودان الدولية.. وهو الصراع الذي استنزف الموارد والوقت وشغل كل الإسلاميين بالداخل والخارج.. كما أنّ النهج لم يتغير.. حيث يتم التعامل بصورة مزدوجة مع مؤسسات الدولة.. فوزارة الخارجية ورغم أنّها مسؤولة بصورة حصرية ومباشرة عن سياسة السودان الخارجية.. إلا أنّ بعض الاطراف الحكومية وأطراف في الحزب الحاكم مازالت تتدخل في تلك المهمة الحصرية وتؤثر عليها سلباً.. وهو ما يشير الى أنّ الإنقاذ (بشقيها في الحزب والحكومة) وحتى يومنا هذا ما زالت تنتهج ذات النهج غير المدروس في التعامل مع علاقات السودان الخارجية.. وقد عبر وزير الخارجية الأستاذ على كرتي اكثر من مرة (إنّ تصريحات بعض المسؤولين تضر بعلاقات السودان الخارجية ضرراً بليغاً).. فبعض المسؤولين الحكوميين لا يستطيعون ضبط تصريحاتهم في المخاطبات الشعبية ويتعاملون وكأنّهم في جُزرٍ معزولة لا يسمعهم أحد.. في حين انّ وسائل الإعلام تنقل أحاديثهم بصورة مباشرة الى أقصى اقاصي الدنيا.. وتأتي ردود الافعال على تلك التصريحات وفي ذات اللحظة قبل أن يغادر المسؤول منصته التي قال فيها تصريحه ذاك.. وبالطبع هذا أمر يحتاج الى مراجعات عميقة في العمل الديواني الحكومي وفصل عمل الحزب عن الدولة.. لأنّه ليس من الحكمة أن تنفق الدولة مليارات الجنيهات على السفارات والقنصليات لتحسين صورة السودان بالخارج ثمّ يأتي من يهدم كل ذلك بتصريحاتٍ لا يلقي لها بالاً. إنّنا نعتقد أنّ الرئيس البشير يمكنه أن يعالج تلك الأفعال القاتلة.. فهو - وبحكم الدستور - المسؤول الأول عن تخطيط السياسة الخارجية.. فيمكنه أن يمضي وفق ذلك الحق الدستوري بخطى واثقة لبناء سياسة خارجية رشيدة تستهدف المصالح العليا للسودان.. وأن يستعين في ذلك ببعض ابناء هذا الوطن الذين لهم باعٌ طويلٌ في مجال العمل الدبلوماسي ولهم علاقات بالكثير من قادة العالم.. ونقترح أن يتم تكوين لجنة عُليا من الخبراء الوطنيين تحت الإشراف المباشر لرئيس الجمهورية.. لإصلاح علاقات السودان الخارجية.. ووضع أسس إستراتيجية لبناء علاقات متينة مع العالم تستهدف المصالح الوطنية العليا.. وتُسكت كل الاصوات النشاز التي تؤثر سلباً بتصريحاتها وتصرفاتها على علاقات السودان مع العالم.. ولا نعتقد بأنّ أحداً من أبناء السودان سوف يبخل على وطنه بخبراته إذا ما تمّ استدعاؤه.. ونذكر هُنا على سبيل المثال الدبلوماسي القدير رحمة الله عبد الله.. الذي كان سفيرنا في الهند وكانت له علاقات مميزة مع القادة الهنود خاصة الزعيم الراحل جواهر لال نهرو.. الذي كان يكاتبه في كثيرمن الامور ويأخذ برأيه في الكثير من القضايا.. وعندما تولت ابنته رئيسة الوزراء الراحلة انديرنا غاندي رئاسة الوزارة خلفاً لوالدها.. جلست الى رحمة الله وقالت له إنّها وجدت في مكتبة ابيها مكاتبات بينه وابيها تناولا فيها الكثير من قضايا العالم وتبادلا فيها العديد من الآراء القيِّمة والجديرة بالإعتبار وطلبت منه ان يستمر التعاون الذي كان مع والدها معها.. وهنالك ايضاً الدكتور منصور خالد الذي عمل مندوباً للسودان في الاممالمتحدة وتعرف على جورج بوش الاب حينما كان وزيراً للخارجية ونشأت بينهما علاقة وطيدة.. وحينما قرر جورج بوش أن يرشح نفسه لمنصب الرئيس الأمريكي.. كتب الى الدكتور منصور خالد يسأله عن رأيه.. وهذا يوضح مدى الثقة التي نالها د.منصور في الدوائر الأمريكية.. ويحكي شهود عيان أنّ د.منصور كان جالساً في الصفوف الأمامية حينما تمّ تنصيب جورج بوش الاب رئيساً للولايات المتحدة.. وهناك ايضا السفير المتقاعد نوري خليل الذي كان يشغل منصب سفير السودان في الاتحاد الاروبي في فترة الثمانينيات التي كانت فيها علاقات السودان مع دول العالم وايضا السفير مأمون ابراهيم حسن الذي كان سفير السودان في الكويت والذي شغل فيما بعد منصب الامين العام للمنظمة العربية لضمان الاستثمار وقد شغل المنصب لربع قرن من الزمان وايضا السفير امين عبداللطيف الذي كان همه الاول في اي مكان عمل به هو التكامل الاقتصادي وايضا الدكتور حسن عابدين الذي ازال كثيراً من العوائق عندما كان سفيراً لبلاده في لندن.. إنّ تكوين من أمثال هؤلاء الدبلوماسيين يمكن ان تعيد التوازن لعلاقات السودان الخارجية وتحسن من سيرته في المحافل الدولية.. وبالتأكيد سينعكس ذلك إيجاباً على الإقتصاد وعلى رفاه المواطنين. إنّنا نقول مثل هذا الكلام لأنّنا نرى بأمِّ أعيننا الحال الذي وصلت اليه علاقات السودان الخارجية سواء كانت مع دول الجوار أو بقية دول العالم.. ونشعر بذلك كلما احتاجت الخرطوم لأصدقائها ليدافعوا عنها في المحافل الدولية.. فالسودان لا يملك مظلة دولية تقيه شر المؤامرات التي تنسجها بعض الدول التي ترى اننا نهدد مصالحها وامنها .. وفي هذا السياق حتى علاقاتنا مع الصين التي اكتشفنا عدم عمقها وجديتها عندما رفضت ان تقف الى جانب السودان وزادت قناعة كثير من السودانيين ان علاقتنا مع الصين كانت محكومة بتدفق البترول لا اكثر ولا اقل.. وحينما توقف تدفق النفط بسبب المشكلات المزمنة مع حكومة الجنوب.. ادارت لنا ظهرها و صارت بكين غير متحمسة للدفاع عن الخرطوم في المحافل الدولية.. وبذلك لم يعد لنا اصدقاء في العالم ليقفوا معنا في قضايانا لأن العلاقات في العالم لا تقوم على العواطف بل على المصالح والاحترام المتبادل.. وبالطبع لا توجد دولة في العالم بلا مظلة تستظل تحتها.. فالسياسة الخارجية لا تنظر للتكتلات بصورة احتفالية دون أن تجني فوائد محسوسة من وراء تلك التكتلات.. فإنضوائنا تحت مظلة الإتحاد الافريقي أو الجامعة العربية يصبح بلا معنى لو أنّنا لم نجد منهما الدعم والمساندة في المحافل الدولية السياسية والاقتصادية. إنّنا نعتقد أنّ النظر للسياسة الخارجية بطريقة (رزق اليوم باليوم) لا تجدي.. لهذا يجب وضع استراتيجية دبلوماسية تضع قطار السودان الخارجي في المسار الصحيح.. حتى لا يستمر التخبط في علاقاتنا الدولية أكثر من ذلك.. وحتى نستفيد من موقع السودان الجغرافي ومن تاريخه الحافل بالعمل الدبلوماسي المجيد.. والذي سبق فيه كل الدول في المنطقة بإعتباره من اوائل الدول التى نالت استقلالها في افريقيا جنوب الصحراء . اننا نأمل ان يجد مقترحنا هذا آذاناً صاغية والا يعتبره البعض نوعاً من الانبطاح وهى كلمة اعتاد ان يرددها البعض كلما نطق العقلاء من اهل الحكم قولاً رشيداً وحكيماً.