من الاسئلة التي حيرت المراقبين السياسيين في الداخل والخارج هو سؤال (كيف يمكن تحقيق الاصلاح بكافة ضروب الحياة في السودان)؟؟.. وذلك بعد ان تفرق أهل السودان طوائف وقبائل وشيعاً.. لا يكادون يلتقون على هدف واحد يمهد لهم الطريق نحو مستقبل آمن يوفر لهم ما يتطلعون إليه من حياة حرة. بل تكاد تكون مكونات المجتمع السوداني كلها لم تتفق على شيء بقدر ما اتفقت على أن لا تتفق. فهم - وللاسف - يختلفون حول القضايا الأساسية التي لا احسب أن امةً من الامم أو شعباً من الشعوب يختلف حولها.. فقد اختلفوا قبل عشرات السنوات منذ بداية الحكم الوطني - على خيارهم الخاص هل يكون استقلالاً عن الحكم الثنائي أم وحدة مع مصر!!!.. وفي ذلك الحدث الأشهر برزت الانانية والفردانية في أقبح اشكالها.. فالزعيم الذي نادى بالوحدة مع مصر - وهو الزعيم الازهري - وعاد وعدل عنها بعد ان تبين له ان معظم الشعب السوداني يريد الاستقلال ولا يريد وحدة مع مصر.. ووقتها كان السيد عبد الرحمن المهدي هو القائد المتزعم الاول لخط الاستقلال عن مصر.. ولكنّه تآمر مع السيد على الميرغني (خصمه التاريخي والداعي للوحدة مع مصر ليس بسبب يتعلق بمصلحة الوطن، وذلك بعد ان اثبتت تطورات الاحداث ان القوى الحديثة التي يقودها الزعيم الازهري قد بدأت تسحب البساط من تحت اقدام الطائفية التي يستندون إليها ما اكد للناس ان هذا الموقف من تلك الزعامات الطائفية كانت تعمل للإطاحة بالأزهري.. وقد أثبتت تلك الحادثة بصورة قاطعة أن الزعامات تعمل لمصالحها الآنية الخاصة بدلاً عن مصالح الوطن الاستراتيجية.. ولهذا ليس غريباً أن يصبح التاريخ السياسي من بعد ذلك قصصاً تُحكى عن تقديم المصالح الشخصية والحزبية على الوطنية.. وعاد الضرر في البدء على من آثروا المصلحة الآنية على المستقبلية وقدموا الهدف التكتيكي على الاستراتيجي.. فحزب الامة - على سبيل المثال - كان يسمى حزب الكتلة الصماء.. من شدة تكاتفه وقوة تماسكه ولكنه الآن تفرق الى سبعة أجنحة مختلفة كل جناح يكيد للجناح الآخر.. وتفرقت الكتلة الصماء ايدي سبأ.. والحزب الاتحادي الديمقراطي الذي حاز على لقب حزب الحركة الوطنية.. انقسم الآن الى ستة أجنحة متصارعة.. وتفرقت الحركة الاسلامية الى خمسة أجنحة.. والحزب الشيوعي الى اربعة أقسام.. ولازال السودانيون يتفرقون وينقسمون ويختلفون.. فأي حزب يختلف مع الاحزاب الاخرى يلجأ للسلاح وإلى صناعة انقلابه العسكري.. ومن القضايا التي اختلف حولها السودانيون.. كانت قضية الجنوب هل يبقي موحداً ضمن الدولة الأم أم يذهب لحال سبيله واستمر الاختلاف والجدل.. السياسيون يلوون أعناق الحقائق.. ويهدرون الوقت في قضايا انصرافية حتى ذهب الجنوب وكوّن دولته المستقلة.. ومن المحزن المبكي أن الخلاف وصل الآن الى كل مكونات المجتمع ولنا مثال واضح ما يحدث في نادي الهلال العريق حيث يدب صراع عنيف بين مكوناته بصورة تدعو للأسف وما الخلافات داخل فريق الهلال ببعيدة عمن يتابع وسائل الإعلام. وبالطبع هذا حالٌ لا يعجب أحداً من الناس.. فكانت ردود الأفعال لبعض الناس هي الهجرة من البلاد.. وآخرون لجأوا لمكوناتهم القبلية والجهوية وكونوا أحزابهم ومليشياتهم الخاصة للحصول على حقوقهم وحتى حقوق الآخرين... وبعضهم وضعوا أيديهم فوق رؤوسهم حيرةً وغبناً وهم يمنون أنفسهم بعودة الاستعمار الانجليزي مرة اخرى للبلاد عوضا عن كل الحكومات الوطنية وهم يتساءلون في قرارة انفسهم: ما الذي دفع بالامور الى هذا المستوى من التردي؟؟.. وإلى هذا الدرك السحيق من الاختلاف..؟ إنّنا إزاء كل هذا نتساءل معهم: الى ماذا يعود هذا الفشل السياسي والاقتصادي وفي كافة مناحي الحياة الاخرى؟؟.. رغم اننا جربنا كافة اشكال الانظمة الديمقراطية والشمولية وجربنا حكم الحزب الواحد وحكم الفرد الواحد؟؟.. ففشلت كل تلك الأنظمة في التقدم بالبلاد مقدار شبرٍ واحد الى الأمام.. فإلام يعود الفشل؟؟ هل يعودُ الى المجتمع؟؟.. أم يعود الى تلك الأنظمة؟؟. إنّنا نعتقد أنّ المشكلة الرئيسة هي أنّ الحركة السياسية السودانية لم تؤطر لبناء (أمة سودانية) تتكون من مشارب مختلفة وجهاتٍ متباينة وقبائل متعددة، أمة تحظى بالتنوع ومحترمة وفي ذات الوقت تكونُ ذات أهداف موحدة وغايات متفق عليها، ولكن بدلاً عن ذلك سعت الحركة السياسية بكل اشكالها واحزابها وراء الكسب الحزبي السريع والمكاسب الشخصية العاجلة، وأفرطت في استخدام التعصب الحزبي والنعرة الجهوية والعنصرية، بل وانّ بعضهم استغل الدين لتحقيق أجندة سياسية فخرج بالدين من مقصوده كجامع للأمة الى مُفرِّق لها، والبعض جوّز ما لا يجوز في سبيل ترسيخ حكمه.. فالأحزاب السياسية هي الطليعة الأولى والبناء المجتمعى الأعلى والأكثر تقدماً ورقياً من المكونات القبيلة والجهوية، فالأحزاب يجتمع الناس فيها على اساس البرامج السياسية التي تخدم الامة ولكنّ القبائل تجمع الناس على النعرات العرقية، لهذا كانت الأحزاب أكثر تقدماً من المكونات الاخرى.. وبهذا المفهوم المتقدّم فإنّ المهام التي كانت تقع على عاتق الاحزاب كبيرةٌ وخطيرة، حيثُ كان عليها أن تسعى لتحويل التكوينات البدائية في المجتمع كله الى امة منصهرة ومنسجمة.. بيد أنّ الذي حدث على أرض الواقع هو أنّها سعت الى تشتيت الشعب وتفريقه الى قبائل وجهويات واصبحت الاحزاب تناصر فرداً على فرد اخر داخل القبيلة ومجموعة على مجموعةٍ أخرى داخل الجهة المعينة. والسؤال عن دور الشعب في هذا الامر يصبح سؤالا اعتباطياً فشعبنا منقسم على نفسه.. ولا يملك الارادة الكافية لفرض اجندته على الحاكمين.. والمراقبون لتطورات الاوضاع ينظرون اليه بحيرة .. وهي حيرة تحمل طعم العلقم وتجعل الذين عاشوا في ازمنة مختلفة افضل من هذه يتحسرون على تلك الأزمان.. التي لم تكن بأيّ حال جزءاً من الحل بل كانت تعميقاً لأزمة البلاد. ومن بيننا من يعتقد أن ما يحدث للسودان بفعل عوامل خارجية ومؤامرات غربية.. ونحن لا ننكر ذلك ولكن نعلم أيضاً أنّ الاجانب لم يجدوا لهم طريقاً للدخول الى ارضنا الا عبر خلافاتنا.. أما الذين يتساءلون عن الازمة.. هل هي ازمة اقتصادية؟؟.. ام سياسية؟؟.. ام فكرية؟؟.. ام اخلاقية؟؟.. فإنّنا نقول لهم عليهم ان يعلموا أنّها مزيجٌ من كل ذلك. إنّ مشاكل السودان لم تحير ابناءه فقط.. بل حيرت كل العالم.. لانّه متى ما هدأت الامور وحُلَّت مشكلة من المشكلات القديمة المتراكمة إلا وتطرأ مشكلة جديدة لدرجة انّهم اصبحوا يسخرون من السودان إذا هدأت الاحوال لقليل من الوقت ويقولون (غداً ستطفو مشكلة جديدة الى السطح).. ومن المؤكد انّ مصدر اهتمام المجتمع الدولي هو أنّه معنيٌّ بما يجري في السودان وغيره من دول العالم الثالث حيث يعلم المجتمع الدولي عبر حكوماته ومنظماته انّ عليه مسؤوليات إنسانية تترتب على أيِّ حروب وأزمات أمنية.. وصراعات جهوية وقبلية.. وهي صراعات أخذت اشكالا متعددة لكنّ ابرزها هو استعمال العنف والسلاح للوصول الى اي هدف. إنّنا نعتقد أنّ المخرج من كل هذا هو إعادة صياغة المجتمع السوداني لتحقيق الاهداف الاصلاحية الكبرى.. فبغير إعادة الصياغة هذه لن نصل الى مبتغانا؟؟.. فهي ولا شكّ ستؤدي الى توحد الامة وتماسكها الداخلي وتمترسها خلف أهدافها والذي يمثل اللبنة الأولى في النهضة والتقدّم، فلم تنهض أمةٌ من الأمم على الفرقة والشتات ولم تصل دولة الى مبتغاها بقبائل وجهويات وطبقات متناحرة بل ومتقاتلة.. ومن الصعب على ايِّ شعب أن يسلك الطريق الصاعد المؤدي للتقدم والرفاهية ما لم يتوحد ويهيئ الساحة لأوضاع افضل تؤخذ فيها الحقوق وتوزع فيها الواجبات على اساس المواطنة أولاً ثم الكفاءة ثانياً، فإذا لم تستطع طلائع الامة من اهل العلم والمعرفة أن تفعل ذلك فان الحال سوف يستمر إلى أسوأ من ما هو عليه ولن يتقدم الوطن قيد انملة الى الأمام.. وقد يبرز في هذا السياق سؤال على درجة عالية من الأهمية وهو من الذي سيقود عملية الاصلاح؟؟.. وما هي مشروعيته؟؟.. وما هو مداها؟؟.. وهي أسئلة تظل بلا إجابات.. وسيظل حالنا كمن يقبع ساكناً بلا حراك يتمنى نزول (المهدي المنتظر) ليملأ السودان عدلاً وتنميةً كما ملأ جوراً وفقرا. وأخيرا، رغم اننا نعلم ان صيحاتنا هذه تذهب ادراج الرياح، إلا اننا لن نكف عن الصياح طالما كان في العمر بقية، لان ذلك واجب علينا ولن نتراجع عنه مهما كانت الاسباب.