هاري فيروفن مجلة ثنك آفركان برس 29 أغسطس 2012 إن الهزة التي أحدثها موت رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي الأسبوع الماضي لما تهدأ بعد، فقد اصطف عشرات الآلاف من الإثيوبيين بأديس أبابا لوداع قائدهم للمرة الأخيرة. ولا تزال التركة الضخمة التي خلفها هذا المحارب القديم، الذي أصبح أحد رجالات الدولة الأفارقة، مثار نقاش وسط الدوائر الدبلوماسية بصورة لا تنقطع. وربما يثير اختفاء ملس عن المشهد السياسي نوعاً من الضبابية هنا في إثيوبيا، أكثر مما في الخرطوم وجوبا، العدوين اللدودين اللذين مازالا يحاولان معالجة تعقيدات انفصال جنوب السودان. لقد كان رئيس الوزراء ملس زيناوي الداعم الأساسي لعملية التفاوض بينهما التي استغرقت عامين، بإشراف مبعوث الاتحاد الإفريقي ثامبو أمبيكي. ولا يوجد قائد إفريقي يحظى باحترام الإسلاميين في الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكمة في جنوب السودان على السواء، ويمكنهما الاستماع إليه، أكثر من ملس زيناوي. من الصداقة إلى العداوة يفشل كثير من الأجانب في تقدير مدى عمق العلاقة التي تربط ملس بالقيادات السودانية وتأثير ذلك على رسم سياسته الخارجية في السنوات الأخيرة، وتشكيل دوره بوصفه صانع سلام، فعلاقة ملس بالحركات الإسلامية وأجهزتها الأمنية تعود إلى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، عندما كانت الخرطوم وإثيوبيا تحت حكم منقستو هايلي ماريم، تخوضان حرباً بالوكالة. فقد حصلت الجبهة الشعبية لتحرير التقراي على دعم عسكري من السودان، واستخدمت جبهته الشرقية قاعدة لمهاجمة حكومة الدرك في إثيوبيا، التي كانت تقدم في المقابل الأسلحة لحركة تحرير السودان بقيادة جون قرنق، في وسط وشرق وجنوب السودان. وتصاعد هذا النزاع بعد انقلاب يونيو 1989م الذي وضع الرئيس عمر البشير على رأس السلطة في السودان. وكسب الإسلاميون في الخرطوم نزاعهم ضد الماركسيين اللينينيين في أديس أبا با، عندما أطاح تحالف الجبهة الشعبية الإثيوبية الديمقراطية الثورية الرئيس منقستو في مايو 1991م. وظلت العلاقات بين السودان وإثيوبيا لعدة سنوات علاقات ودودة، على الأقل لأن الجبهة الجبهة الشعبية لتحرير التقراي أوقفت الدعم الإثيوبي للحركة الشعبية لتحرير السودان، وطردت المتمردين من قواعدهم الإثيوبية في إقليم قمبيلا. وكان ملس من الزوار الدائمين للخرطوم، وينخرط في حوارات ليلية مع حسن الترابي حول الدين والسياسة الإقليمية والفلسفة الغربية. ورغم الاختلاف الكبير بينهما من ناحية أيديولوجية إلا أن العلاقة الشخصية بين الشيخ الترابي ورفيقه الإثيوبي حافظت على مستوى من الاستقرار بين الدولتين لم يعهد من قبل لعدة عقود. تسوية الخلافات وتغير وضع الجبهة الشعبية لتحرير التقراي من شريك مقرب للسودان إلى العمل على تغيير نظام الحكم، ووجد هذا تشجيعاً كبيراً من واشنطن. وقد كانت هذه هي البداية الرسمية لتحالف آخر وضع ملس في مركز السياسة الإقليمية، لاعباً دور رجل الولاياتالمتحدة في القرن الإفريقي. وكان نشوب الحرب الإثيوبية الإريترية عاملاً مؤثراً في النزاع السوداني، ألقى بظلاله على ثورة الترابي. ففي الوقت الذي كانت ترزح فيه الخرطوم تحت وطأة ضغط خارجي وتواجه مقاومة داخلية بسبب النزاع بين الترابي وضباطه القدامى، كانت الحرب بين أديس أبابا وأسمرا بين عامي 1998 و2000م تعيد رسم حدود التحالفات الإقليمية. فطبّع ملس، الذي يعد براجماتياً في علاقاته الدولية، صلته بعمر البشير وهي خطوة ظل يقدرها البشير على الأقل لأنها ناصرته في مواجهة الترابي. وقد ألغيت العقوبات التي فرضت على السودان بعد محاولة اغتيال حسني مبارك، كما حثت إثيوبيا السودان والحركة الشعبية على تسوية نزاعهما من خلال التفاوض. لقد كان ملس على وعي بالآثار السالبة التي تخلفها الحرب الأهلية في السودان على السياسة الداخلية في إثيوبيا، فشجع على الوصول لاتفاقية السلام الشامل، وحث أطراف الحرب على تسوية مسألة الجنوب تسوية عادلة في إطار السودان الموحد. وخلال الفترة بين 2005م و2011م بدأ دور إثيوبيا يتزايد في سياسات دول الجوار. وبإجراء الاستفتاء في جنوب السودان في يناير 2011م الذي أدى لانفصاله عن الشمال، أصبح ملس شريكاً للسودان في الحفاظ على السلام. المفاوض الخبير اكتسب رئيس الوزراء الإثيوبي معرفة بالسياسة السودانية ونفسية السياسيين السودانيين خلال السنوات الأخيرة من عمره، كما لم يكتسبها أي شخص آخر. فقد حارب إلى جانبهم كما خاض حروباً ضدهم مرات عديدة خلال العقدين الأخيرين. وكان اختيار إثيوبيا اختياراً منطقياً لاستضافة منبر الاتحاد الإفريقي حول النزاع السوداني والمحادثات حول ترتيبات ما بعد الانفصال منذ النصف الأول من عام 2010م. فبينما كانت يوغندا وكينيا ومصر وليبيا دولاً تتسم بالانحياز، وتفتقد المعرفة العميقة بالمسائل الأساسية في النزاع، كان ملس يتمتع بتقدير كبير في الاتحاد الإفريقي ووسط السودانيين، بوصفه رجل دولة في الإقليم يستحق الثقة. وأحاط برئيس الوزراء فريق من السياسيين والمستشارين والدبلوماسيين المحنكين، أصحاب الكفاءات، منهم خليفته هايلي مريام دسالقين ووزير خارجيته سيوم مسفن ذو المقدرات الكبيرة، فساعدوه على المساهمة في الحفاظ على اتفاقية السلام الهشة بين الخرطوم وجوبا. وقد تم إنقاذ عملية التفاوض أكثر من مرة بفضل التدخل الإثيوبي حينما هددت مشكلة اقليم أبيي المضطرب بتوقف المفاوضات، كما أعيد نشر قوات حفظ السلام الإثيوبية للحفاظ على السلام. ماذا تبقى أمام السودانيين؟ ويؤكد السودانان على إرادتهما في عدم تأخير عملية المفاوضات أو اعتبار موت ملس سبباً في تغيير حسابات جبهة تحرير التقراي. وتشاركهم في هذه الأفكار الصفوة في الجبهة نفسها. فستواصل الدبلوماسية الإثيوبية ضمان دور مميز لإثيوبيا في السياسة السودانية يشمل قيادة جهود الوساطة بجانب ثامبو أمبيكي والولاياتالمتحدة. وكان تأثير ملس الأكبر في عملية التفاوض بين السودان وجنوب السودان يتمثل في الحيوية التي يشيعها في المفاوضات. وحتى إذا واصلت الخرطوم وجوبا قبولهما بالدعم الإثيوبي للمحادثات واعترافهما بنتائجها السابقة، فلا توجد شخصية أخرى تملك النفوذ السياسي الدولي والمعرفة الداخلية بالسودان والمهارة الدبلوماسية التي يتمتع بها ملس إلى حد كبير. وسيستمر الوسطاء في تقديم أفكارهم الجديدة للرئيسين سلفا كير رئيس جمهورية جنوب السودان وعمر البشير الرئيس السوداني من أجل إحداث اختراق والتوصل للحل السلمي والدائم لكل المسائل العالقة، مثل النفط والمياه والحدود والترتيبات الأمنية، لكنهم يفتقدون الضمان الذي يمكن أن يقدمه شخص خاض حرباً ضد كل من الدولتين، ثم أصبح أحد المؤمنين بالسلام في السودان.
