انتفاضات الربيع العربي التي أطاحت خلال عام واحد ثلاثة أنظمة في كل من تونس ومصر وليبيا، مع تغييرات مهمة في النظام اليمني، يمكن القول إنها تأتي في سياق المصير المشترك للمنطقة العربية. وهي منطقة أفسدها الاستبداد لقرون طويلة، بحيث يمكننا القول أيضاً إن الاستبداد في هذا الجزء من العالم المسمى عربياً هو بنية تخترق وجود تلك المجتمعات بطريقة رأسية وأفقية، الأمر الذي سينعكس بالضرورة في المخاض الطويل والعسير الذي ستسلكه هذه الشعوب نحو الحرية والديمقراطية. والاستبداد هنا يختلف عن الديكتاتورية، لجهة بنيته التي تتغلغل في نسيج المجتمع وتتجلى بوصفها ذهنية لثقافة عامة، وتتمظهر في العلاقات البينية المختلفة في نسيج المجتمع من قمة الهرم السياسي إلى قاعدته الاجتماعية، أي أنه علاقة تنتظم الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والحاكم والمحكوم والقوي والضعيف، بنظام قائم على الإكراهات والقمع والأوتوقراطية. وبهذا الاعتبار سيكون الخروج من ذلك الاستبداد عسيراً وطويلاً. فهنا لا يكفي إسقاط النظام فحسب، بل لا بد أن تصاحب ذلك عمليات طويلة متعددة المسار نحو إعادة بناء وترسيخ قيم الحرية والمساواة والعدالة في مختلف الجبهات التي ضربها ذلك الاستبداد. إن التحولات التي تضرب المنطقة العربية وهي تحولات ذات طبيعة تاريخية ستستدعي الكثير من المحطات التي تتدافع حولها قوى المجتمع وتتجاذب مصائرها السياسية عبر تمارين أولية في الفعل الديمقراطي. وبطبيعة الحال فإن الخروج من الاستبداد سينطوي بالضرورة على آثار وبقايا كامنة من معيقات التحول الديمقراطي، بحيث تفعل تلك البقايا فعلها عبر العديد من التصورات المؤدلجة التي تطرحها جماعات شعبوية تحاول ركوب قطار الديمقراطية من خلال أساليب أداتية وإجرائية ربما تكشف في النهاية عن فجوات خطيرة تنشأ نتيجة الوهم المتمثل في الخلط بين الديمقراطية باعتبارها أسلوب حياة، والديمقراطية بوصفها نظام حكم، ما سيؤدي إلى تشوهات كثيرة نتيجة لذلك الخلط. فليس ديمقراطياً من يدعو إلى الديمقراطية، ولا يقبل نتائجها وشروطها. وهكذا يمكننا أن نختبر مدى الاهتزازات التي ستصاحب مخاض انتفاضات العرب. فهذه الثورات تأتي في سياق مختلف وزمن مختلف، فهي قد جاءت عبر رافعة غير سياسية في انطلاقتها الأولى من خلال الشباب العربي الذي أطلق حراكاً حراً في شوارع تونس والقاهرة، استخدم فيه الوسائط الإلكترونية مثل الفيس بوك والتويتر، ليجد نفسه حيال تحولات وضعته وجهاً لوجه أمام ثورة أدت في النهاية إلى إسقاط النظام. وجميع ثورات الربيع العربي كانت في بداياتها دعوة إلى الإصلاح الحقيقي، لكن ردود فعل الأنظمة الاستبدادية العنيفة أدت بها مع تجدد القمع والعنف إلى رفع سقف المطالب حتى انتهت إلى ضرورة إسقاط النظام. ويمكننا القول أيضا أن القمع والفساد وامتهان الكرامة الإنسانية بطريقة مكشوفة ولقرون طويلة، أدى في النهاية إلى انفجار تناقضات المجتمع الذي وصل منها لدرجة لم يعد يخسر معها شيئاً، بعد أن سلبت منه تلك الأنظمة كل شيء. إن فرادة الربيع العربي تكمن في أنه أحدث ثورات من العدم تقريباً، فلم تكن ثمة قواعد موضوعية للثورة، كما كان حال الأوضاع الطبقية وما صحبها من تنظير وعمل سياسي في الثورات الكلاسيكية لأوروبا والعالم. وقد كان سقوط نظام بن علي عبر تلك الثورة الشعبية في تونس أكبر حافز على تجديد التجربة في أمكنة أخرى. فهذه المرة وقعت المعجزة، وصار بالإمكان إعادة الأمر في كل من مصر وليبيا. ولهذا السبب تحديداً أي اليقين المطلق بثقة الشعب في إسقاط النظام بعد أن حدث ذلك أكثر من مرة، يخوض الشعب السوري انتفاضته الشجاعة في وجه نظام استبدادي عرف الشعبُ تماماً قدرته على ارتكاب المذابح التي لم يتورع عنها في حماة عام 1982م التي راح ضحيتها عشرات الآلاف في تلك المدينة السورية ذلك العام. ومع ذلك مازال الشعب السوري مصَّراً على مواصلة الثورة لسبب وحيد هو أن ما يسعى إلى تحقيقه قد حدث وتحقق أكثر من مرة في تونس ومصر وليبيا. إن فظاعة الاستبداد، فضلاً عن كونه بنية ذهنية أفقية في المجتمعات المتخلفة، تكمن أيضاً في ردود أفعاله المتمثلة في العنف الأعمى والقمع العاري والامتهان المفضوح لكرامة الإنسان وحقوقه، على ما نرى الآن في المدن والبلدات السورية، وبالأمس في المدن الليبية أيضاً. وهكذا ستكون لهذه الثورات في المنطقة العربية فرادة نابعة من مواجهة ذلك الاستبداد الذي بقدر ما تختزن بعض معانيه تحاول جاهدة الخروج منه.