مع بداية شهر سبتمبر من كل عام تنشط حركة النقل الى الولاية الشمالية، وهذا التوقيت يضاهي في حركته أيام الأعياد، حيث يعتبر موسماً لشركات نقل الركاب والبضائع. ويشهد هذا القطاع ازدهاراً كبيراً وملحوظاً في هذا التوقيت، وهذا ما تكشف لنا خلال زيارة سجلتها «الصحافة» أخيراً إلى هناك، حيث واجهتنا صعوبة كبيرة في الحصول على تذاكر البصات السياحية، وهو الأمر الذي اثار دهشتنا لجهة ان التوقيت الذي سافرنا فيه كان في بداية شهر سبتمبر ولم يصادف مناسبة أحد عيدي المسلمين، ولكن عبد السميع وهو مضيف باحد البصات السياحية بدد دهشتنا حينما كشف لنا عن سر «الزحمة» والإقبال الكبير على السفر الى الشمالية، مشيراً إلى أن بداية حصاد محصول البلح تقف وراء الهجرة العكسية الى الشمالية، وقال إن هذه المناسبة تمثل عيداً للكثير من اهل الولاية، ليلتقط منه الحاج نوري عبد السميع اطراف الحديث ويشير الى انه ورغم استقراره في الخرطوم قبل عشرين عاما إلا انه ظل يحرص على العودة سنوياً الى الولاية في موسم حصاد البلح، وزاد: قبل عقد ويزيد من الزمان كان الوصول الى الولاية الشمالية يمثل مغامرة غير مضمونة العواقب، وذلك لأنه يجسد كل انواع المعاناة والرهق، ورغم ذلك كنا نسافر ونتحمل مشاقه من اجل التمتع بأيام حصاد البلح التي تمثل موسماً نستعيد فيه ذكريات الماضي ونلتقي فيه بالاحباء والاهل والاصدقاء. من أمري لوادي حلفا تمتد مزارع النخيل على ضفتي النيل، لذلك اشتهرت الولاية بانتاج أجود انواع التمور وابرزها البركاوي، القنديل الجاو، ومعلوم أن محصول البلح يحتاج لدرجات حرارة مرتفعة للنمو، ويتأثر سلبا بالامطار، لذا لا يتمنى اهل الشمالية هطولها لانها تتلف المحصول، وخلال تجوالنا بمناطق بدين، مقاصر، كرمة، دلقو والبرقيق وجدنا ان الولاية لبست حلة زاهية وهي تستعد لاستقبال موسم حصاد البلح او «الفنتي» بلهجة المحس، ولاحظنا أن هناك حركة نشطة في اسواق الولاية خاصة كريمة ودنقلا. وقال لنا تاجر بدنقلا يدعي عثمان إن موسم حصاد التمر يسهم في ارتفاع مبيعات الكثير من السلع ومدخلات الإنتاج. وقال إنهم يستعدون له منذ وقت مبكر، مبيناً أن جوالات الخيش والمناجل والسلع الغذائية تعد اكثر المبيعات التي تحظى بقوة شرائية، وحول كيفية حصاد البلح أشار لنا سليمان إبراهيم وهو مواطن بجزيرة بدين إلى أن نظافة المناطق المحيطة بأشجار النخيل من الحشائش وغيرها هي اولى خطوات عملية الحصاد، وتأتي لتسهيل عملية جمع البلح بعد قطعه «حشه» أو سقوطه من الأشجار، وقال إن النظافة تطول موقعاً آخر يوضع فيه البلح بعد حصاده، ليتم فرزه وتسهم حرارة الجو المرتفعة في تجفيفه، وقال إن البعض يفضل نقله الى المنازل، مشيراً الى انه بعد ذلك يتم وضعه في الجوالات لترحيله الى الاسواق بام درمان والفاشر. ومن خلال تجوالنا في عدد من بساتين النخيل الواقعة على ضفاف النيل بعدد من الجزر بالولاية الشمالية، لاحظنا أن هناك وجوداً مكثفاً للنساء من كل الأعمار والاطفال، وفسرت لنا سكينة وهي تقطن بمدينة ارقو الامر، مشيرة الى ان الاسر بالشمالية مرتبطة بالزراعة، وهناك قلة في الايدي العاملة، كاشفة أن النساء خاصة في موسم حصاد البلح يساعدن في عمليات الحصاد بطرق مختلفة، وتحديداً تلك المتعلقة بالنظافة وصناعة الطعام، وقالت إن هذه المناسبة تمثل لهم عيداً جميل التفاصيل، وذلك لأنه يشهد عودة الكثير من الأسر التي هاجرت الى الخرطوم ليس لاخذ نصيبها من المحصول، ولكن للتمتع بايام الحصاد الجميلة، ويقول حاج عثمان ان انسان الشمال رغم تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد الا انه مازال يضع للنخيل مكانة خاصة في دواخله، واردف قائلاً: لو ذهبت الى مناطق الشايقية والدناقلة والمحس والحلفاويين تجد ان للنخيل رمزية ومكانة كبيرة، ليس لأنها تنتج لنا محصولا يدر دخلاً جيداً، بل لشموخها ومقاومتها مختلف تقلبات الطقس وتصاريف الدهر، ويشير الى ان موسم حصاد البلح يعني ان هناك العديد من الزيجات التي ستكتمل، ويعني أن الكثير من الشباب سيجد المال الذي يعينه على الهجرة خارج السودان او يساعده في ولوج عالم التجارة، وقال إن موسم حصاد القمح بات في السنوات الاخيرة قبلة للكثير من الايدي العاملة من مختلف انحاء السودان، معتزاً بهذا الأمر الذي اعتبره يصب في تقوية النسيج الاجتماعي بالبلاد، وقبل أن نودعه تحسر الحاج عثمان على فقدانهم أسواق دارفور بسبب الحرب، وتمنى أن يعود لأرض القرآن الاستقرار والأمن، وقبل أن نغادره أصرَّ على أن نتناول هديته التي كانت عبارة عن «كيس » مليء بالبلح جميل المذاق.