الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قضايا ساخنة
الديمقراطية التوافقية... قراءة نقدية
نشر في الصحافة يوم 16 - 10 - 2012

اطلعت على نص الورقة التي أعدها أ.د الطيب زين العابدين بعنوان "الديمقراطية التوافقية طريقنا للاستقرار السياسي" وقبل أن أسترسل في الحديث أود أن أتقدم بالشكر والتقدير للأستاذ الدكتور على جهده في البحث عن مخرج للأزمة الوطنية العامة التي يعيشها الوطن وهذا هو ما ينبغي لكل مواطن مستنير أن يفعله... إعمال الفكر وبذل الجهد وبلورة الرأي بطريقة منطقية مكتوبة يمكن الإمساك بها والتفاعل معها سلباً أو إيجاباً... فقد شبعنا من ثقافة العموميات الشفهية لزوم "الونسة" في الشأن الوطني العام.
تتكون الورقة من الأجزاء التالية:-
* مقدمة مختصرة عن التاريخ السياسي الحديث للسودان منذ الاستقلال وحتى الآن.
* مشكلات النظام الديمقراطي في السودان.
* ما هي الديمقراطية التوافقية.
* لماذا الديمقراطية التوافقية في السودان.
* التدابير القانونية لتطبيق الديمقراطية التوافقية.
* المراجع باللغة العربية والانجليزية التي استعان بها كاتب الورقة.
يقول أ.د الطيب إن مفهوم الديمقراطية التوافقية قد ظهر في عقد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عقب الحرب العالمية الثانية لتجيب على سؤال محوري: كيف نجعل النظام السياسي ديمقراطياً ومستقراً خاصةً في المجتمعات التي تحفل بالصراعات على أسس عرقية وثقافية ودينية؟ وهي مفهوم جديد يطرح بديلاً للديمقراطية التقليدية التنافسية التي راجت في الدول الغربية حيث المجتمعات متجانسة سكانياً ومتطورة اقتصادياً.ويضيف أ.د الطيب أن أكثر من كتب وروج لهذا المفهوم هو البروفيسور آرند لايبهارت أستاذ العلوم السياسية الممتاز بجامعة كلفورنيا واستخدم بروفيسور آرند مصطلح "الديمقراطية الإجماعية" كمرادف للديمقراطية التوافقية.
وكما جاء في الورقة فإن الديمقراطية التوافقية تستند على أربع ركائز رئيسية هي:-
* تحالف حكومي عريض تتمثل فيه كل المجموعات السياسية ذات الوزن المقدر في البرلمان.
* تمثيل نسبي واسع يستوعب مختلف المجموعات السياسية والاجتماعية عند توزيع مقاعد البرلمان ومناصب الخدمة المدنية.
* الاستقلال المناطقي عبر نظام فيدرالي أو نحوه.
* حق النقض للأقليات في القرارات الإدارية والسياسية الكبيرة التي تهمها.
وبالتالي يصبح غير وارد أن تؤدي الديمقراطية التوافقية بهذا المفهوم إلى أغلبية حزب واحد أو حزبين كما هو الحال في الديمقراطية التنافسية.
ويتساءل أ.د/ الطيب قائلاً "إذا كان النظام الديمقراطي التعددي هو الأفضل لأهل السودان وأن الحكم العسكري أو الشمولي غير مقبول لديهم بدليل ثورتهم الشعبية عليه مرتين في 1964 و1985 فلماذا إذاً لم تدمِ الديمقراطية أكثر من أحد عشرة سنةً في حين تطاول الحكم العسكري لأربعين عاماً؟...الخ"
ويضيف أ.د/ الطيب مجيباً على السؤال الذي طرحه بأنه لا بد من أسباب موضوعية تسببت في ضعف النظام الديمقراطي وسقوطه مرة بعد أخرى... ولخص تلك الأسباب فيما يلي:-
* طبيعة تكوين السودان باتساعه الجغرافي مع ضعف وسائل الاتصال والمواصلات ووعورة الطرق بين أقاليمه والتنوع العرقي والثقافي وتخلف مناطقه وعدم التوزيع العادل للسلطة والثروة مما أدى إلى صعوبة حكمه مركزياً بواسطة حزب واحد أو حزبين مؤتلفين.
* عدم توفر الشروط والظروف الاجتماعية والثقافية التي يتطلبها نجاح النظام الديمقراطي في السودان بالدرجة الكافية، الوضع الاقتصادي المناسب الذي يمكن السلطة من تحقيق قدر معقول من المشروعات التنموية.
* طبيعة تكوين الأحزاب السودانية وثقافتها السياسية جعلتها ضعيفة الالتزام بالنهج الديمقراطي داخل أجهزتها الحزبية وفي قناعتها بحرية النشاط السياسي للأحزاب المنافسة لها وبقبولها التداول السلمي للسلطة حسب الفترات الانتخابية التي يحددها الدستور.
* العامل الخارجي الإقليمي والدولي الذي شجع ودعم الانقلابات العسكرية والنزاعات المسلحة.
ويطرح أ.د/ الطيب السؤال التالي في مواجهة هذه المشكلات التي واجهت النظام الديمقراطي في السودان قائلاً "ما هي إذن الوسيلة الناجعة للممارسة الديمقراطية التعددية الانتخابية التي يمكن أن تتعايش وتتعاطى مع مشكلات المجتمع السوداني المذكورة سالفاً؟"
يدعو أ.د/ الطيب إلى تبني نظام الديمقراطية التوافقية وفق المفهوم الذي حدده في الورقة على المدى المتوسط في السودان (ما بين عشرين إلى ثلاثين سنة) حتى نضمن استمرار الديمقراطية واستقرارها لمدة مناسبة يعتاد فيها الناس على قبول التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة وعلى المنافسة السياسية المقننة دون تطرف، وعلى ترسيخ السلوك الديمقراطي ونشر الثقافة الديمقراطية بين قطاعات المجتمع المختلفة خاصةً الطبقة الوسطى التي تمسك بالديمقراطية أكثر من غيرها."
أرجو أن أكون قد نجحت في عرض الملامح الرئيسية لورقة أ.د/ الطيب زين العابدين لكي يستطيع القارئ المحترم الذي لم تُتَحْ له فرصة الاطلاع على نص الورقة المساهمة معنا في هذا الحوار.
ألخص في النقاط التالية وجهة نظري الشخصية حول الورقة مع احترامي للأستاذ الدكتور/ الطيب ولكل قارئ محترم يتفق معه في تبني الديمقراطية التوافقية:-
أولاً: في تقديري أن أ.د/ الطيب لم يورد سبباً رئيسياً من أسباب ضعف النظام الديمقراطي في السودان وهو تغلغل الفكر الشمولي في العقل السياسي للطبقة الوسطى في السودان الذي تبلور في مظهرين سياسيين... المظهر الأول هو صناعة الانقلابات العسكرية... والمظهر الثاني هو دعم الأنظمة العسكرية ومنحها الإطار السياسي النظري الذي يجعلها مقبولة لدى عامة الجماهير... فالطبقة الوسطى التي تتقدم صفوتها وتؤثر سياسياً على التطور السياسي للبلاد هي التي صنعت جميع الانقلابات العسكرية في السودان... فالانقلابات العسكرية الثلاثة لم تتم بمبادرة عسكرية خالصة من أي بعد سياسي للصفوة السودانية الحزبية وغير الحزبية... وأقول للأستاذ الدكتور/ الطيب... صحيح أن الجماهير ثارت على نظامين عسكريين ولكنه ليس صحيحاً أنها قد ضاقت بالديمقراطية التعددية وإنما الذي ضاق بها هي الصفوة التي كانت تتصيد أخطاء الحكومات الديمقراطية وتبرزها بشكل حاد وتعمل على تكريه الجماهير في الديمقراطية وكل هذا كان يتم بهدف تهيئة الجماهير لقبول انقلاب قادم تخطط له نفس تلك الصفوة التي تدعو للديمقراطية بل قد تقود الجماهير ضد الأنظمة العسكرية إذا ثارت ضدها... عندما وقع انقلاب 30 يونيو 1989م وتم اعتقال جميع قيادات الأحزاب صمت القادة داخل المعتقل خلال الأيام الأولى ولم يتخذوا موقفاً معارضاً للانقلاب لأنهم كانوا يبحثون عن هوية الضباط الذين نفذوا الانقلاب... كل منهم يتوقع أن الانقلاب قد يأتي في صالح حزبه بالرغم من أن جميع الأحزاب ما عدا الجبهة القومية الإسلامية كانت قد وقعت على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية. مثال آخر من تاريخنا السياسي الحديث يدل على تمركز الفكر الانقلابي في العقل السياسي السوداني هو انقلاب 1971... وأسجل هنا للتاريخ أن الحزب الشيوعي السوداني لم يخطط لانقلاب 1971م ولو خطط له لنجح كما نجح انقلاب مايو 1969م... ولكن فعل الحزب الشيوعي ما هو أبشع من ذلك... فالحزب الشيوعي كان قد خرج من انقسام حزبي عنيف أثر عليه سلباً بسبب الفكر الانقلابي فعندما عرض عليه أمر الانقلاب رفض التخطيط له والمشاركة في تنفيذه كحزب ولكن إذا نجح الانقلاب وطرح شعارات سياسية تتفق مع توجه الحزب فسيدعمه... وهذه كانت رسالة كافية للانقلابيين بأن يتقدموا وينفذوا انقلابهم... تبنى الحزب الشيوعي الانقلاب بعد وقوعه فكان ذلك خطأً سياسياً قاتلاً بمعنى الكلمة... فلو كانت الرسالة للانقلابيين أن الحزب الشيوعي سيقف ضد الانقلاب إذا نفذ وسيقاومه متحالفاً مع القوى السياسية الأخرى وجماهير الشعب السوداني لما تجرأ الانقلابيون على تنفيذه وحتى إذا نفذوه فكان الحزب الشيوعي سيضع حجر الأساس لمقاومة الفكر الانقلابي وكسر الحلقة الخبيثة.
إن الفكر الشمولي ليس أمراً عابراً في المجتمع السوداني وإنما جزء من العقلية السودانية القبلية التي تجعل داخل كل منا "شيخ قبيلة" وينمو حجم شيخ القبيلة داخلنا كلما أتيحت لنا فرصة لممارسة السلطة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الإدارية أو الثقافية أو التربوية على جميع المستويات بدءاً من السلطة الأبوية داخل الأسرة ومروراً بالنادي والجمعية والمنظمة وانتهاءً بالحزب والدولة... وهذه مسألة لا علاقة لها بالتعليم بالمعنى التقليدي فحتى لو نال الشخص أرفع الدرجات العلمية فسيظل شمولياً عقلاً وسلوكاً حتى ولو ادعى الديمقراطية ودافع عنها... إنها مسألة تطور طويل المدى يرتبط بتغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية جذرية عميقة... وهذه التغيرات تحدث عبر صراع مستمر له أبعاد متعددة منها الشخصي الخاص ومنها العام.
إذا انتقلنا إلى المظهر الآخر للفكر الشمولي المتمثل في دعم الصفوة لأنظمة الحكم العسكرية... أعتقد أنني لست في حاجة إلى التفصيل... فبدءاً من مشاركة السيد/ أحمد خير في حكومة نوفمبر 1958م وهو الرجل الديمقراطي الليبرالي أحد قادة مؤتمر الخريجين ومروراً بجيوش أهل اليسار واليمين والوسط الذين أبدعوا في إطالة عمر النظام المايوي... وانتهاءً بأهل الإنقاذ وحزب المؤتمر الوطني الذي ضم خليطاً من الاتجاهات الحزبية وغير ذلك من البدع السياسية لكل مَنْ يرى أن الشمولية هي الأفضل والديمقراطية هي الفوضى بعينها... في كل ذلك نجد أن محور المسألة هو استعجال النتائج وعدم الصبر على بطء التطور الديمقراطي الذي قد تأتي نتائجه الإيجابية بعد عقود أو حتى بعد قرن... هذه سمة من سمات العقلية الشمولية... لذلك هذه الصفوة هي التي أطالت عمر الانقلابات العسكرية وأضعفت أنظمة الحكم الديمقراطية وأشاعت بين الناس أن الديمقراطية لن تحقق لهم شيئاً وأصلح لهم هذه الأنظمة الشمولية حتى ولو قيدت حرياتهم وأطعمتهم وكأنهم قطيع من الماشية... بالرغم من أن الواقع السوداني يثبت أن الشمولية قد قيدت الحريات وفي نفس الوقت عجزت عن إشباع الناس.
ثانياً: تحدث أ.د/ الطيب عن التعددية العرقية والثقافية كأحد الأسباب الموضوعية التي أدت إلى ضعف النظام الديمقراطي وأقول إن التعددية العرقية والثقافية في حد ذاتها ليست سبباً موضوعياً لضعف النظام الديمقراطي فها هي الهند تمارس الديمقراطية منذ منتصف القرن الماضي ولم تعرف الانقلابات العسكرية... وأعتقد الإشكالية تكمن في عدم قدرتنا على إدارة التعددية العرقية والثقافية بالشكل الصحيح والسليم الذي يجعلها عاملاً إيجابياً وليس سلبياً.
هذا بالإضافة إلى أن النزاعات والصراعات التي عرفها السودان خلال تاريخه الحديث كانت لأسباب سياسية واقتصادية وليس لأسباب عرقية وثقافية ولكنها استغلت لإضفاء هذا الطابع لأغراض سياسية تتعلق بالسلطة الحاكمة... فحرب الجنوب لم تأخذ هذا البعد العرقي الثقافي إلا بعد أن زجت الإنقاذ بالبعد العربي الإسلامي... ونزاع دارفور لم يأخذ طابعه العرقي الثقافي إلا بعد أن حاولت الإنقاذ استقطاب بعض القبائل بهدف إدارة النزاعات لصالحها... وها هو السيناريو يتكرر في جنوب كردفان والنيل الأزرق بأشكال مختلفة.
ثالثاً: إن الربط التعسفي بين العروبة والإسلام في السودان قد أدى إلى تشوهات واضحة في المجتمع السوداني كان لها تأثيراتها السياسية المباشرة وغير المباشرة... ففي جميع الدول الإسلامية الإفريقية والآسيوية التي بها أغلبية مسلمة لم يتم الربط بين العروبة والإسلام كما حدث في السودان وأدى ذلك إلى هيمنة الثقافة العربية وأدى هذا بدوره إلى احتقار الثقافات الأخرى للمجموعات البشرية بل كان وما زال هناك إنكار لأن هناك أصلاً ثقافة في السودان غير الثقافة العربية... بل تطور الأمر إلى بلورة نظرة اجتماعية عنصرية سرية غير معلنة تمارسها بعض المجموعات التي تدعي العروبة بالرغم من أن انتماء السودان للعروبة هو انتماء ثقافي وليس عرقياً بالمعنى الحرفي ولكن البعض يتوهم النقاء العرقي العربي.
كل هذه الممارسات الاجتماعية الخفية كان لها تأثيرات سياسية سالبة أججت الصراعات والنزاعات وولدت أحقاداً وسط مجموعات عديدة... وأرجو أن لا يعتقد البعض أن هذا كان ينطبق على جنوب السودان قبل انفصاله... فهذه الممارسات القبيحة ما زالت مستمرة في السودان الحالي... فما زال هناك مَنْ يتقمصون شخصية العرب "الأشراف" وينظرون بشيء من الدونية لكل من هو زنجي الأصل حتى ولو كان مسلماً من أهل دارفور او الأنقسنا أو جبال النوبة أو غيرهم.
رابعاً: إن الدعوة للديمقراطية التوافقية استناداً على حجة إشراك الجميع في السلطة مهما صغرت كياناتهم حجة غير مقبولة لأن جميع الأحزاب التي نفذت أو دعمت انقلابات عسكرية كانت إما داخل السلطة أو قريبة منها أو يمكنها الوصول إليها عبر صناديق الاقتراع... وبالتالي إشراك جميع الأحزاب في السلطة بأوزانهم المختلفة لا يمنع الانقلاب على النظام الديمقراطي لأن الإشكالية الرئيسية كما ذكرت لا تكمن في عدم المشاركة في السلطة وإنما في التوجه الشمولي الغالب الذي لا يقتنع بالنظام الديمقراطي حتى ولو تظاهر بقبوله.
خامساً: قال أ.د/ الطيب ما يلي نصه في الصفحة رقم (10) من الورقة:-
"وأحسب أن الديمقراطية التوافقية تنسجم مع تعاليم الإسلام الذي يجعل الإجماع المصدر الثالث للتشريع بعد القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويدعو للشورى الملزمة في الشأن العام، ويؤسس شرعية الحكم على البيعة التعاقدية بين الحاكم والمحكومين، ويعرض الحكام للمحاسبة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويساوي بين الناس أمام القاضي المستقل، ويأمر بإنصاف وإحسان معاملة المستضعفين من الناس مثل الرقيق والموالي والخدم والمرأة والأقليات الدينية...الخ"
لا أدري هل قصد أ.د/ الطيب بهذه الفقرة تعزيز أم إضعاف رؤيته التي طرحها حول الديمقراطية التوافقية... فإذا كانت الديمقراطية التوافقية تنسجم مع ما ذكره أ.د/ الطيب في الفقرة أعلاه فإذن لا علاقة لها بالديمقراطية إلا بالاسم فقط... فما علاقة الإجماع بالديمقراطية التعددية بالمعنى الليبرالي الحقيقي سواءً أكانت تنافسية أو توافقية... وما معنى الشورى الملزمة... وملزمة لِمَنْ؟ وما هو المعنى السياسي للبيعة التعاقدية... فكيف نطلب من غير المسلم البيعة وكيف يقبل الحاكم غير المسلم البيعة... وما هي العلاقة بين النصيحة والمحاسبة... فهل الحاكم الذي ينصح يمكن مساءلته ومحاسبته... وما معنى النصيحة؟ بعض شيوخ الإسلام في السعودية يقولون بأن النصيحة للحاكم يجب أن تكون "سرية" وليست علنية بمعنى أنك إذا أردت أن تنتقد وزيراً أو رئيساً فعليك أن توسوس له في أذنه ولا تنشر نقدك إعلامياً... ثم ما هو التعريف السياسي للمعروف والمنكر؟... وكيف يكون القاضي مستقلاً وهو مقيد بالحكم بموجب قانون ديني واحد فقط؟ وما هو التعريف السياسي للمستضعفين الذين شملوا الرقيق والموالي والخدم والمرأة والأقليات الدينية؟ إنه إقحام لمفاهيم دينية لا علاقة لها بالسياسة ولا بالديمقراطية من قريب أو بعيد إلا إذا أردنا أن نتحدث عن ديمقراطية دينية في دولة "الخلافة الإسلامية".
سادساً: إن الأسباب الموضوعية لضعف النظام الديمقراطي في السودان التي ذكرها أ.د/ الطيب هي أسباب عميقة ترتبط بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمجتمع السوداني وستظل قائمة على المدى الطويل كما أشار إلى ذلك أ.د/ الطيب في الورقة نفسها... وفي تقديري أن الديمقراطية التوافقية لن تعالج هذه الأسباب لأنها ستواجه ما واجهته الديمقراطية التنافسية... فإذا منحنا الديمقراطية التنافسية تلك السنوات التي اقترحها "عشرين أو ثلاثين عاماً" فسنرى نتائج إيجابية واضحة تتعلق بثبات ورسوخ النظام الديمقراطي فكيف نحكم على أن الديمقراطية التنافسية قد فشلت في السودان وهي كما ورد في الورقة قد مورست لفترة أحد عشر عاماً خلال أكثر من خمسين عاماً وحتى تلك الفترة القصيرة لم تكن مستمرة وإنما مقسمة على ثلاث فترات أطولها وصلت تقريباً إلى أقل من خمس سنوات وهي فترة الديمقراطية الثانية. إن المنطق السياسي يقول بأننا في البدء يجب أن نعمل على توفير مقومات النظام الديمقراطي التعددي الحر ثم بعد ذلك وفي ظل النظام الديمقراطي الحر وعبر الممارسة الفعلية قد نصل إلى المفاضلة بين أنواع الديمقراطيات التعددية المختلفة... فالدول التي أوردها أ.د/ الطيب كمثال لتطبيق الديمقراطية التوافقية هي في الأصل تتوفر بها مقومات الديمقراطية التعددية الحرة... فالقاعدة التي ينطلق منها النظام الديمقراطي التعددي الحر أياً كان نوعه هي واحدة... فكيف لنا أن نحدد نوع الديمقراطية التعددية الحرة ونحن أصلاً لم نصلْ إلى تلك القاعدة الأساسية؟
سابعاً: ذكر أ.د/ الطيب في الصفحة رقم 21 من الورقة ما يلي نصه:
"وينبغي الاستفادة من فرصة وضع دستور جديد للبلاد لتبني مفهوم الديمقراطية التوافقية وأن تتسع المشاركة في صناعة الدستور لكل القوى السياسية والاجتماعية والحركات المسلحة ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة وأن تكون صناعة الدستور الجديد آلية للمصالحة والتعافي وتحقيق السلام في أنحاء البلاد"
في تقديري أن هذه الفقرة هي خلاصة الورقة فالأستاذ الدكتور/ الطيب يعتقد أن هذا النظام الشمولي الحاكم حالياً يمكن أن يتطور إلى نظام ديمقراطي حيث ربط بين العملية السياسية المفتعلة حالياً لصياغة دستور وإمكانية تبني مفهوم الديمقراطية التوافقية... فإذا كان مفهوم الديمقراطية التوافقية كما طرحه أ.د/ الطيب في الورقة وكما فهمته هو نوع من أنواع الديمقراطية التعددية الحرة فلا مجال لما يدعو له في هذه الفقرة المذكورة أعلاه لأن الديمقراطية التعددية بجميع أنواعها لا تولد إلا في رحم الديمقراطية التعددية نفسها... وأقول للأستاذ الدكتور/ الطيب إن الدستور الديمقراطي الحقيقي ليس رص كلمات جميلة بل وديمقراطية المدلول وإنما هو أحد أدوات النظام الديمقراطي التعددي الحر التي تصنع في ظل النظام الديمقراطي التعددي الحر نفسه وليس في ظل نظام شمولي... وأخشى أن يستغل طرح أ.د/ الطيب ويتحول إلى "ديمقراطية شمولية منضبطة" كما يدعي بعض الشموليين... فكل ما ذكره أ.د/ الطيب في الورقة من ترتيبات يمكن تطبيقه الآن فوراً... دستور... حكم اتحادي... فصل بين السلطات...الخ ولكن بمحتوى فارغ ليست له قيمة سياسية... فهل هذا هو المقصود؟
سابعاً: يحاول البعض تخويفنا بأن الوطن في خطر وأنه سيتفتت وأنه يجب سريعاً البحث عن صيغة للتوافق والمصالحة والإجماع الوطني... وأقول إنها صيغة "اللملمة والغطغطة" التي مارسناها طوال تاريخ السودان الحديث وجمدنا خلالها التطور السياسي والفكري في السودان ووصلنا إلى ما نحن عليه الآن... فنحن الآن نواجه قضايا كان من المفترض أن تطرح بوضوح وتعالج عبر الصراع الواضح والمكشوف منذ مطلع الاستقلال... الآن أقول علينا أن لا نتخوف من الصراع الدائر في المجتمع السوداني بمختلف جوانبه واشكاله لأنه إيجابي على المدى البعيد ويجعلنا نواجه قضايانا ونعالجها مهما كانت المعالجة قاسية ومؤلمة... الأحزاب التي نتحدث ليل نهار عن ضعفها يدور داخلها صراع وحراك سياسي وفكري إيجابي للغاية بما في ذلك الحزب الحاكم نفسه فلماذا نحاول تجميد هذا الصراع... وحتى النزاعات والخلافات بين المناطق المهمشة والمركز فيه جوانب إيجابية عديدة مهما كانت قسوته... العواصف الاجتماعية التي تضرب المجتمع السوداني أيضاً نبهتنا إلى جوانب عديدة كان مسكوتاً عنها لعقود مضت... كل هذه المظاهر وغيرها من مظاهر الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمجتمع السوداني تصب في اتجاه التطور إلى الأفضل إذا نظرنا إلى الجزئيات الصغيرة وابتعدنا عن عقلية استعجال النتائج الكلية النهائية... فهل نريد تطوراً جذرياً للواقع السوداني بدون أية تكلفة حقيقية... إنه أمر مستحيل.
إن الشرط الرئيسي لما ذكرته من ترك الصراع يأخذ جميع أبعاده لضمان حدوث التطور الحقيقي للمجتمع هو ان توجد سلطة حاكمة وطنية قادرة على إدارة هذا الصراع بوعي وبرؤية محددة تدرك كيف تدفعه إيجابياً وليس تغطيته تحت شعارات هلامية مثل "الوفاق الوطني" و"الإجماع الوطني" و"المصالحة الوطنية" وللأسف السلطة الحاكمة حالياً في السودان ليست مؤهلة لذلك وأقصى ما يمكن أن يقال في هذا المجال إنه من المقبول - حسب وجهة نظري الشخصية- حدوث مساومة تاريخية شرطها الرئيسي أن يقبل الأخوة في حزب المؤتمر الوطني التنحي عن السلطة والجلوس مع القوى السياسية الأخرى خارج السلطة واختيار حكومة انتقالية لا تقل فترتها عن أربع سنوات تكلف بمهام محددة تتعلق بتهيئة المناخ الديمقراطي التعددي الحر والإعداد لانتخابات حرة لانتخابات جمعية تأسيسية تضع دستوراً ديمقراطياً تعددياً حراً... في ذلك الوقت يمكن أن يطرح أ.د/ الطيب رؤيته حول نوعية الديمقراطية التعددية ويقدم مفهوم الديمقراطية التوافقية... أما طرحها الآن ودعوته لربطها بالدستور الذي تتم صياغته الآن سيحولها إلى مسحوق سياسي تجميلي جديديضاف إلى مسحوق الدستور التجميلي فتصبح السلطة الشمولية أكثر جمالاً ورونقاً على خشبة المسرح السياسي المحلي والإقليمي والدولي دون أن تعالج القضايا الأساسية والرئيسية للمجتمع السوداني.
مع احترامي وتقديري وشكري للأستاذ الدكتور الطيب زين العابدين الذي أتاح لنا فرصة هذا الحوار والدعوة المفتوحة للمزيد من الحوار لمصلحة الوطن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.