تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    ماذا قالت قيادة "الفرقة ال3 مشاة" – شندي بعد حادثة المسيرات؟    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(حريات) تنشر ورقة الديمقراطية التوافقية للبروفسير الطيب زين العابدين
نشر في حريات يوم 19 - 09 - 2012

قدم البروفسير الطيب زين العابدين ورقة بعنوان (الديمقراطية التوافقية طريقنا للاستقرار السياسي) مساء الاثنين 17 سبتمبر بمركز مامون بحيري .
وننشر نص الورقة أدناه :
بسم الله الرحمن الرحيم
الديمقراطية التوافقية طريقنا للاستقرار السياسي
أ.د. الطيب زين العابدين
مقدمة
ظل السودان منذ الاستقلال يبحث لنحو ستين عاما عن نظام سياسي مستقر دون جدوى. فقد تعاقبت على حكمه ثلاثة أنظمة ديمقراطية لمدة أحد عشر عاماً فقط وثلاثة أنظمة عسكرية دام حكمها زهاء الأربعين عاماً، وما زالت البلاد تبحث عن دستور دائم ترضى عنه القوى السياسية في المركز والأقاليم ويضع البلاد على طريق الاستقرار والتنمية. كانت الأنظمة الديمقراطية التي اتسم حكمها بالقصر في فتراتها الثلاث (1954-58؛ 1965-69؛ 1986-89) هشة التكوين وضعيفة الأداء، فهي لم تفلح في إرساء قواعد متينة لحكم البلاد تستجيب لتطلعاتأهل الجنوب في الحكم اللامركزي، ولم تبذل جهداً واضحاً في تنمية المناطق المتخلفة مما أدى إلى حرب أهلية طويلة مع الجنوب وإلى نزاعات إقليمية وتمرد مسلح ضد المركز، ولم تتمكن تلك الحكومات من وضع أسس اقتصادية سليمة توائم بين التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية حتى تسير البلاد في طريق النهضة والرفاهية؛ بل إنها لم تستطع في فتراتها الثلاث أن تضع دستوراً دائماً للبلاد بسبب الخلاف بين القوى السياسية على نظام الحكم ومرجعياته الفكرية والآيدولوجية، وأدى الصراع على السلطة إلى أزمات متلاحقة.وبسبب ضعف الحكومات الديمقراطية وزوال هيبتها لم تنجح حتى في حماية نفسها من مغامرات العسكريين الطامحين في السلطة، ولم يهب الشعب الذي انتخبها للدفاع عنها ضد الانقلابات العسكرية التي أطاحت بها لأن أداءها لم يكن مقنعا لعامة الناس. وبالطبع هناك أسباب حقيقية تفسرضعف أداء الحكومات الديمقراطية، منها قصر المدة التي حظيت بها في السلطة وحداثة تجربة الحكم الوطني الذي جاء بعد ستين عاماً من الاستعمار البريطاني الذي عزل الشمال تماماً عن الجنوب وشكّل إدارات أهلية في الأقاليم على أسس قبلية، ولعدم توفر الأغلبية النيابية لحزب واحد في النظامالبرلماني جاءت تكوينات كل تلك الحكومات إئتلافية من عدة أحزاب متنافرة تاريخياً وذات توجهات وطموحات متباينة من خلال ديمقراطية تنافسية، الأصل فيها غلبة حزب واحد على بقية الأحزاب. وعلى حداثتها نشأت الأحزاب السودانية على أسس طائفية أو إقليمية أو قبلية أو عقائدية تفتقد جميعاً النهج الديمقراطي والثقافة الديقراطية ومؤسسية الأجهزة الحزبية، فلم يكن سلوكها أو أداؤها مما يرسخ للنظام الديمقراطي أو يجعله جاذباً للشباب والطبقة الوسطى.ولكن يحمد للحكومات الديمقراطية أن الانتخابات الخمس التي أجرتها في عهدها كانت نزيهة وعادلة ومقبولة إلى حدٍ كبير لكافة القوى السياسية؛ وأن سجلها لم يشوه بانتهاكات واضحة لحقوق الإنسان، ولم تسع لتسييس القوات النظامية أو الخدمة المدنية أو الجهاز العدليأو تستغل موارد الدولة لمصالح حزبية، وإن حاولت الأحزاب العقائدية تشكيل خلايا لها داخل الجيش لتستعين بها في الاستيلاء على السلطة، وهو نهج للحكم كان سائداً في كثير من الدول العربية والإفريقية والآسيوية.
وتعاقبت على حكم البلاد ثلاثة أنظمة عسكرية دام حكمها لنحو أربعين عاماً (1958-64؛ 1969-85؛ 1989-2012)، جاء الحكم العسكري الأول نتيجة لتسليم السلطة لقيادة الجيش في نوفمبر 1958م من رئيس الوزراء المدني (عبد الله خليل) الذي أوشك أن يفقد منصبه بسبب تشكيل تحالف جديد داخل البرلمان كان سيطيح به، وكان الثاني انقلاباً عسكرياً من القيادات الوسطى في الجيش المتأثرة بالتجربة الناصرية ودعوتها للاشتراكية والقومية العربية، وجاء الانقلاب الثالث نتيجة تدبير وتنظيم من الحركة الإسلامية السودانية (الجبهة الإسلامية القومية) المتأثرة بفكر الأخوان المسلمون في مصر. وشاركت الأحزاب السياسية بدرجات متفاوتة ولمدد قصيرة في تأييد ودعم الحكومات العسكرية، ولكن القرار السياسي بقي بيد الإنقلابيين العسكريين باستثناء فترة الإنقاذ الأولى إذ سيطرت القيادة المدنية للجبهة الإسلامية على مقاليد السلطة؛ وفي كل الحالات انقلبت العصبة العسكرية على الأحزاب والقيادات التي جاءت بها للحكم أو دعمتها لتمسك بالسلطة كاملة وتضعها في يد قائد فرد أبعد عن السلطة حتى من شاركوه من الضباط في صنع الإنقلاب. وقد كان المناخ السياسي في عمومه بالدول العربية والإفريقية مواتياً للحكومات العسكرية والأنظمة الشمولية نسبة لهشاشة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني،ولضعف أداء الحكومات الديمقراطية التي جاءت عقب الاستقلال، والتي واجهت مشكلات اقتصادية وسياسية ونزاعات إثنية لم تستطع معالجتها بالقدر الكافي.
وقد كان من سمات الأنظمة العسكرية التي حكمت السودان لأربعة عقود، أنها تبدأ عهدها بتعطيل الدستور وحكم القانون وتحجر على الحريات العامة وتحظر نشاط الأحزاب السياسية والاتحادات المهنية والنقابات العمالية المنتخبة وتقيد حرية الصحافة، وتقمع المعارضين المدنيين عبر القوة المفرطة بواسطة أجهزة الأمن والشرطة والمحاكم الاستثنائية وتدابير الطوارئ والأحكام العرفية والفصل من الخدمة العامة، مما أدى إلى إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وتعطل بذلك التطور الديمقراطي في البلاد الذي بدأ واعداً عند مطلع الاستقلال. وعرف الحكم العسكري بتجييره للقوات النظامية والأجهزة العدليةوالخدمة المدنية لمصلحة السلطة العسكرية القائمةبدلاً من مصلحة البلاد القومية، وبإحالته للصالح العام كل من يشتبه فيه من ضباط القوات النظاميةأوقيادات الخدمة المدنية أو السلك القضائي بأنه معارض للنظام. وبلغت تلك الإجراءات التأمينية ذروتها في عهد سلطة الإنقاذ التي توفرت لها كوادر مؤهلة في شتى قطاعات الدولة حتى تماهت الحدود بين أجهزة الدولة والحزب الحاكم، وأصبحت سياسة “التمكين” لعناصر الحزب في أجهزة الدولة منهجاً رسمياً معلناً على رؤوس الأشهاد.وأدت تلك السياسات الإقصائيةإلى ضعف المؤسسية وتدني الأداء في أجهزة الدولة بدرجة كبيرة بسبب تقديم الولاء للنظام على الكفاءة، وإلى انتشار الفساد في الخدمة المدنية لأن أهل الولاء الذين تسنموا القيادة كانوا فوق المحاسبة.
وانتهجت جميع الحكومات الإنقلابية العمل العسكري حلاً لمشكلة الجنوب، على الأقل لفترة من الزمن حتى استيأست منه حاولت اللجؤ إلى معالجة سياسية بنصف قناعة،مما وسع الشقة بين أهل الشمال والجنوبوقاد لخسائر هائلة في الأرواح والممتلكات،وأدى في النهاية إلى انفصال جنوب السودان في يوليو 2011 في عهد الحكم العسكري الأخير؛ وفقد السودان بذلك ثلث مساحته وربع سكانه وثروات معدنية وزراعية ومائية هائلة. وكانت الفترات العسكرية مرتعاً خصباً للفساد والرشوة واهدار المال العام والمحسوبية واستغلال النفوذ، والتفاوت المريع بين الصرف على الأجهزة الأمنيةالتي يستند عليها النظام والصرف على التنمية والخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن. وضاق الشعب ذرعاً بالحكم العسكري فهب ضده بقواه المدنية والسياسية واستطاع الإطاحة به مرتين، الأولى في ثورة أكتوبر المجيدة ( 1964) ضد حكم الرئيس ابراهيم عبود، والثانية في انتفاضة جماهيرية مشهودة في (أبريل 1985) ضد حكم الرئيس جعفر نميري. ولا زال الحكم العسكري الحالي رغم طول بقائه في السلطة يعاني من النزاعات العسكرية الجهوية والاحتجاجات الجماهيرية ومن عدم الاستقرار السياسي والاداري، ومن العزلة الإقليمية والمحاصرة الدولية والأزمات الاقتصادية. وليس مستبعداً أن ينتفض الشعب السودانيضد الحكم القائم مرة ثالثة كما فعل بسابقيه خاصة وأن الربيع العربي ضرب مثلاً في نجاح الثورات الجماهيرية على الحكومات الاستبدادية. وخلاصة تجربة السودان خلال العقود الستة منذ الاستقلال أنه لا يمكن أن يحكم بمركزية قابضة ولا بحكم استبدادي شمولي، عسكرياً كان أم مدنياً، وكلاهما من سمات الأنظمة العسكرية بحكم هيكلتها التراتيبية وتدريبها الصارم على طاعة الأوامر العليا دون نقاش أو مراجعة. وخيار السودان الذي لا بد منه هو النظام الديمقراطي اللامركزي الذي يتبنى تحقيق العدالة الاجتماعية على مستوى الأفراد والأقاليم والمجموعات العرقية مهما كانت مشكلات التطبيق التي تعترضه. ولكن كيف للسودان أن يؤسس ديمقراطية فيدرالية مستدامة؟ هذا ما تحاول الورقة الإجابة عليه.
مشكلات النظام الديمقراطي في السودان
إذا كان النظام الديمقراطي التعددي هو الأفضل لأهل السودان، وأن الحكم العسكري أو الشمولي غير مقبول لديهم بدليل ثورتهم الشعبية عليه مرتين في 1964 وفي 1985 فلماذا إذن لم تدم الديمقراطية أكثر من إحدى عشر سنة في حين تطاول الحكم العسكري لأربعين عاماً؟ لا بد أن هناك أسباباً موضوعية، سياسية واجتماعية، أدت لضعف النظام الديمقراطي مما أغرى المغامرين العسكريين بالإنقلاب عليه دون أن تهب الجماهير للدفاع عنه. يعزىنجاح الإنقلاب العسكري في الإستيلاء على السلطة، رغم بعض المحاولاتالفاشلة، على حفظ سريته ودقة الإعداد لهوتجنيد قوة مؤيدة له في أسلحة الجيش المختلفة، بالإضافة إلى توفر الظرف السياسي المواتيالمتمثل في تدني شعبية الحكومة الديمقراطية وغفلتها عن حماية نفسها. أما طول بقاء الحكومات العسكرية فلا يعتمد على رضا الجماهير عنها بقدر ما يعتمد على مدى طاعة القوات النظامية في الأمن والشرطة والجيش لها، واستعدادها لإحباط أية محاولة عسكرية أو مدنية ضدها، وكسب قدر من التأييد السياسي في أوساط بعض القطاعات الشعبية مثل رجال الإدارة الأهلية ورجال الأعمالوشيوخ الطرق الصوفيةمما يضفي عليها قدراً من المسحة الجماهيرية التي تدعيها، وتحسين علاقاتها مع بعض القوى الإقليمية والدولية لتكسب تأييدها، وتستعين بها في معالجة مشاكلها الاقتصادية والأمنية وتدفع عنها ما تتعرض له من هجوم من الدول الغربية والمنظمات الحقوقية.
ما هي المشكلات الموضوعية التي تسببت في ضعف النظام الديمقراطي وسقوطه مرة بعد أخرى؟
ومن نماذج الممارسات غير الديمقراطية في سلوك الأحزاب السودانية منذ الاستقلال: اتفاق زعيمي الختمية والأنصار في عام 1956 على إسقاط حكومة الأزهري بعد شهور من إعلان استقلال البلاد، وقد كان حزب الأزهري (الوطني الاتحادي) هو الوحيد الذي فاز بأغلبية برلمانية في أول انتخابات في البلاد ولم يتكرر ذلك في كل الانتخابات الديمقراطية التالية؛ تسليم رئيس وزراء حزب الأمة السلطة لقيادة الجيش في نوفمبر 1958 تفاديا لسحب الثقة منه في تحالف برلماني جديد؛ تحالف أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وجبهة الميثاق على تعديل الدستور وإسقاط عضوية نواب الحزب الشيوعي من البرلمان في عام 1965؛ رفض الحكومة تنفيذ حكم المحكمة العليا التي قضت ببطلان إسقاط عضوية الشيوعيين؛ تغيير الحزب الاتحادي لتحالفه مع حزب الأمة في 1967 للجناح المنشق من ذلك الحزب ثم العودة مرة أخرى للجناح الآخر وحل البرلمان بصورة غير دستورية لإجراء انتخابات جديدةتقوي موقف الحزب الاتحادي وتضعف موقف حزب الأمة المنشق؛ بروز ظاهرة انشقاقات الأحزاب وشراء النواب لتأييد هذه الحكومة أو تلك؛ دعم الأحزاب اليسارية (الناصري والبعثي والشيوعي) لإنقلاب نميري في 1969؛ الإنقلاب العسكري للحزب الشيوعي على نظام نميري في يوليو 1971؛ تأييد الأحزاب الجنوبية لنظام نميري بعد اتفاقية أديس أببا في 1972 والتي منحتهم حكماً ذاتياً في الجنوب وقدراً من حرية العمل السياسي والانتخابي؛ محاولات الجبهة الوطنية (أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وجبهة الميثاق) الإنقلاب المسلح على نميري في 1975 وفي 1976؛ مصالحة حزبي الأمة وجبهة الميثاق لنظام نميري في 1977 دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير في شمولية النظام العسكري؛ تكتل الأحزاب في انتخابات 1986 ضد مرشح الجبهة الإسلامية القومية (د. حسن الترابي) في دائرة الصحافة مما أدى إلى سقوطه؛إنقلاب الجبهة الإسلامية القومية على الديمقراطية الثالثة في يونيو 1989؛ محاولة حزب البعث العربي الإنقلاب على نظام الإنقاذ في 1991؛ تعاطي الأحزاب السياسية مع نظام الانقاذ بدرجات متفاوتة خاصة بعد اتفاقية السلام الشامل في 2005 والتي سمحت بقدر لا بأس به من التعددية الحزبية والحرية السياسية رغم بقاء السيطرة التامة للحزب الحاكم في شمال البلاد.
تدل كل هذه الممارسات الحزبية القصيرة النظر على ضعف التزام الأحزاب السياسية بالنهج الديمقراطي السليم، وبقلة صبرها على مفارقة كراسي الحكم ولو أدى ذلك لذهاب النظام الديمقراطي نفسه، واستعدادها للتعاطي مع الأنظمة العسكرية لو منحتها قدراً من المشاركة في الحكم. كثير من هذه المشكلات والسلوكيات لن تزول من المجتمع السوداني في المدى القريب أو المتوسط، ولذا لا ينبغي انتظار زوال هذه المشكلاتبصورة تامة حتى يمارس السودان نظاماً ديمقراطياً تعددياً يقوم على التفويض الانتخابي الحر ويراعي كل حقوق الإنسان والمرأة والأقليات. فالبديل للديمقراطية هو الحكم العسكري أو الشمولي الذي يزيد من تلك المشكلات بدلاً من حلها أو تخفيفها. ما هي إذن الوسيلة الناجعة لممارسة الديمقراطية التعددية الانتخابية التي يمكن أن تتعايش وتتعاطى مع مشكلات المجتمع السوداني المذكورة آنفا،ً دون أن يقود ذلك إلى صراع أو استقطاب سياسي حاد لا تحتمله الأجهزة الدستورية والقانونية الهشة فيودي ذلكبالنظام الديمقراطي كلية كما حدث في فترات الديمقراطية الثلاث.
تدعو هذه الورقة إلى تبني نظام الديمقراطيةالتوافقية على المدى المتوسط في السودان (ما بين عشرين إلى ثلاثين سنة) حتى نضمن استمرار الديمقراطيةواستقرارها لمدة مناسبة يعتاد فيها الناس على قبول التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة، وعلى المنافسة السياسية المقننة دون تطرف، وعلى ترسيخ السلوك الديمقراطي ونشر الثقافة الديمقراطية بين قطاعات المجتمع المختلفة خاصة الطبقة الوسطى تتمسك بالديمقراطية أكثر من غيرها. ونحسب أن مثل هذه التجربة إذا تم الأخذ بها في جدية وصدق تعمل تدريجياً على حلحلة المشكلات التي ساهمت في ضياع النظام الديمقراطي لسنوات طويلة منذ الاستقلال، وتمهد الطريق لتأسيس ديمقراطية ناضجة في المستقبل.
ما هي الديمقراطية التوافقية؟
ظهر مفهوم الديمقراطية التوافقية Consociational Democracy) ) في عقد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عقب الحرب العالمية الثانية لتجيب على سؤال محوري: كيف نجعل النظام السياسي ديمقراطياً ومستقراً خاصة في المجتمعات التي تحفل بالصراعات على أسس عرقية وثقافية ودينية؟ وهي مفهوم جديد يطرح بديلاً للديمقراطية التقليدية التنافسية التي راجت في الدول الغربية حيث المجتمعات متجانسة سكانياً ومتطورة اقتصادياً. بل هناك شكوى حتى في الدول الغربية من احتكار السلطة بين الأحزاب الكبيرة (محافظين وعمال في بريطانيا، جمهوريين وديمقراطيين في أمريكا، اشتراكيين ومحافظين في ألمانيا وفرنسا وايطاليا) وهي أحزاب تمتلك المال الوفير الذي يمكنها من تمويل الحملة الانتخابية المكلفة، والتنظيم القوي المنتشر في أنحاء البلاد، والآليات الانتخابية المحترفة. وكان أكثر من كتب وروّج لهذا المفهوم هو بروفيسرآرند لايبهارت ( Arend Lijphart) أستاذ العلوم السياسية الممتاز ( Professor Emeritus) بجامعة كلفورنيا، ورئيس الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية (1995-96) والذي استقى أفكاره الأولى عن الموضوع من أطروحته عن النظام السياسي في هولندا التي تطبق قدراً من الديمقراطية التوافقية. وكان من أوائل كتبه في هذا المجال: سياسة الاحتواء 1968؛ الديمقراطية التوافقية 1969؛ الديمقراطية في المجتمعات المتنوعة 1977.
(The Politics of Accommodation; Consociational Democracy; Democracy in Plural Societies)
وقد نال لايبهارت جائزة جوهان اسكايت (Johan Skytte) المتميزة في العلوم السياسية عام 1997م، وبجانب مصطلح التوافقية (consociational)استعمل لايبهارت مصطلح “الديمقراطية الإجماعية” (Consensus Democracy) بصورة مرادفة للتوافقية، ويبدو لي أنه أخذ كلمة “الإجماع” من المبدأ المشهور في الفقه الإسلامي فالكلمة الانجليزية المرادفة لا تستعمل في مجال السياسة التي تقوم على الصراع والتنافس في العرف الغربي أكثر منها على الاتفاق والإجماع. وقد نظّمت الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية بالتعاون مع معهد الدراسات الإنمائية بجامعة نيروبي في يوليو 2011م مؤتمرا كبيراً عن: الديمقراطية التوافقية في إفريقيا، دام لمدة أسبوعين وحضره أكثر من مائة أستاذ وخبير في العلوم السياسية من شتى أنحاء العالم، وقدمت فيه عشرون ورقة بحثية استفاد كاتب هذه الورقة من بعضها. وكان القصد من ذلك المؤتمر الكبير هو الترويج للديمقراطية التوافقية على أساس أنها الأنسب للدول الإفريقية المنقسمة عرقيا وثقافيا ودينيا؛ وكان السودان أحد الأمثلة التي دار نقاش حول تجربتهاالمرة،وقد شارك الدكتور عبده مختار من جامعة أمدرمان الإسلامية في ذلك المؤتمر وكتب عنه ورقة هي إحدى مصادر هذا المقال. تهدف الديمقراطية التوافقية إلى احتواء النزاعات والاحتكاكات السياسية بين المجموعات المتعددة والمنقسمة في داخل الوطن الواحد،عن طريق آلياتومؤسسات تؤدي إلى المشاركة في السلطة بين النخب التي تمثل تلك المجموعات بقصد استدامة الديمقراطية في ذلك البلد.فالإنقسامات السياسية الحادة تشكل أكبر عقبة لتحقيق الديمقراطية واستقرارها لأنه من الطبيعي أن تعمل الأقليات المحرومة على تخريب الديمقراطية التي لا تجد منها شيئاً؛ وبدون احتواء الأقلياتواستيعابها لا أمل في نظام ديمقراطي مستقر في مجتمعات تعددية منقسمة فيما بينها.
وتستند الديمقراطية التوافقية على أربع ركائز رئيسة هي: تحالف حكومي عريض تمثل فيه كل المجموعات السياسية ذات الوزن المقدر في البرلمان؛ تمثيل نسبي واسع يستوعب مختلف المجموعات السياسية والاجتماعية عند توزيع مقاعد البرلمان ومناصب الخدمة المدنية؛ الاستقلال المناطقي عبر نظام فيدرالي أونحوه؛ حق النقض للأقليات في القرارات الإدارية والسياسية الكبيرة التي تهمها. وهذا يعني أن الديمقراطية التنافسية التي تؤدي إلى أغلبية حزب واحد أو اثنين يتولى/ يتوليان السلطة لتنفيذ برنامجه/برنامجهما الانتخابي غير وارد في الديمقراطية التوافقية، لأن ذلكمما يكرس حكم الأغلبية وينفي وجود الأقليات الأخرى ولو كانت ذات حجم مقدر في الكثافة السكانية. ويزداد الخطر على النظام الديمقراطي في أعقابالنزاعات المسلحة الأهلية التي يتطلب تجاوزها بناء مؤسسات سياسية توافقية تحول دون العودة للحرب. ويقول لايبهارت إن النتيجة الأساسية التي خرج بها من تحليل المؤسسات السياسية في 118 بلداً بين عامي 1985 و 2002 أن نظام التمثيل النسبي والاستقلال المناطقي (اللامركزية) كان لهما الأثر الأكبر في استدامة السلام في أعقاب النزاعات المسلحة بتلك البلدان. والديمقراطية التوافقية معمول بها في عدد من البلاد بدرجات متفاوتة وأحيانا في بعض أجزاء البلاد مثل: كندا، هولاندا، سويسرا، السويد، لبنان، اسرائيل، النمسا، بلجيكا. وكما هو معلوم فإن لبنان هو أكثر البلاد العربية ديمقراطية رغم أن مؤسساته السياسية والإدارية والنظامية تقوم على محاصصة طائفية دينية لكنها مع ذلك استمرت منذ الاستقلال إلى اليوم لقبول المجتمع لتلك المعادلة السياسية. وقد نجح السودان في وقف الحرب الأهلية في الجنوب مرتين عن طريق اتفاقية أديس أببا في 1972م واتفاقية السلام الشامل في 2005م، ومنحت الاتفاقيتان الجنوب حكماً ذاتياً واسعاً (أقرب للاستقلال في الاتفاقية الثانية) ومشاركة مقدرة في السلطة المركزية. ولكن النظام العسكري ارتد عن اتفاقية أديس أببا مما أعاد الحرب الأهلية مرة ثانية، وارتدت حكومة الإنقاذ عن منهج الاحتواء السياسي الذي بدأته مع الحركة الشعبية لتحرير السودان مما أضرم الصراع المسلح مرة ثانية في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور.
وأحسب أن الديمقراطية التوافقية تنسجم مع تعاليم الإسلام الذي يجعل الإجماع المصدر الثالث للتشريع بعد القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويدعو للشورى الملزمة في الشأن العام، ويؤسس شرعية الحكم على البيعة التعاقدية بين الحاكم والمحكومين، ويعرّض الحكام للمحاسبة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويساوي بين الناس أمام القاضي المستقل، ويأمر بإنصاف وإحسان معاملة المستضعفين من الناس مثل الرقيق والموالي والخدم والمرأة والأقليات الدينية (قصة الخليفة عمر بن الخطاب مع القبطي المصري الذي تظلم له من ولد عمرو بن العاص)، ويخصص الإسلام نصيباً من الزكاة لتوليف قلوب المستجدين في الإسلام ويجوزها بعض الفقهاء لغير المسلمين.ويعطي الفقهاء اعتباراً للرأي الغالب بين الناس فيقولون: هذا ما يراه جمهور الفقهاء، وهذا ما عليه سواد الناس، وهذا حديث متواتر، وهذا حديث متفق عليه مما يعني تغليب الاتفاق الواسع على رأي الفرد أو القلة من الناس. وتشهد “صحيفة المدينة” التي كتبها الرسول (ص) في أول سنة له في يثرببسعيه الجاد للتوفيق بين كل سكان المدينة من أنصار ومهاجرين ويهود ومشركين ومنافقين وذلك على أساس المساواة التامة بينهم في الحقوق والواجبات.وقد كان الهدف الرئيس من وراء تلك الاتفاقية هو استتباب السلام في المدينة حتى يتفرغ المسلمون للدعوة الدينية وللدفاع عن المدينة في مواجهة قريش التي تتربص بهم.
لماذا الديمقراطية التوافقية في السودان
نحسب أن الديمقراطية التوافقية بالمعنى المذكور سابقا تناسب المجتمع السودان بتعدديته العرقية والثقافية والدينية وتجربته الطويلة في النزاعات بين هذه المجموعات، كما أنه فشل في المحافظة على الديمقراطية التقليدية التنافسيةلمعظم سنوات ما بعد الاستقلال. وفيما يلي نذكر الأسباب التي تدعونا للأخذ بالديمقراطية التوافقية وإلى أي حدٍ يمكن أن تستجيب لواقع المجتمع السوداني ومشكلاته التي أعاقت مسيرته في التطور الديمقراطي.
التدابير القانونية لتطبيق الديمقراطية التوافقية
نعني بذلك التعديلات الدستورية والقانونية التي ينبغي أن يؤخذ بها حتى تضمن المشاركة المجتمعية الواسعة في شؤون الحكم والإدارة من خلال هيكل ومستويات الحكم، وتحديداً السلطة التشريعية،والتنفيذية،والقضائية، والخدمة العامة، والقوات النظامية.
وينبغي تعديل النظام الانتخابي لمجلس النواب حتى يعكس بصدق التعددية السياسية التي تذخر بها الأقاليم،ويعطى كل إقليم مقاعد حسب تعداده السكاني. وينبغي أن تجرى الانتخابات على أساس التمثيل النسبي الغالب حتى تتاح الفرصة لمعظم القوى السياسية والاجتماعية أن تجد تمثيلاً في البرلمان الاتحادي،وأن تخصص نسبة 80% من المقاعد على أساس التمثيل النسبي للأحزاب ولأية مجموعات تتفق على تقديم قائمة موحدة، وتترك ال 20% الباقية للمقاعد الجغرافية الفردية. ولا يحدد سقف لتأهيل القائمة بل يكون الفوز حسب قوة المقعد التي تحددها قسمة الناخبين على عدد المقاعد المخصصة للإقليم لأن الهدف هو تمثيل أكبر قدر من الكتل السياسية داخل الإقليم؛ وقد هزمت نسبة السقف التأهيلي في انتخابات 2010م مضمون فكرة التمثيل النسبي وحرمت كثيراً من القوائم الحزبية والنسوية أن تجد تمثيلاً في البرلمان. ولا بأس أن تحظى المرأة بنسبة 25% من مقاعد البرلمان، لكن من الأفضل أن يكون ذلك في قائمة واحدة مع الرجال ترتب بصورة تضمن النسبة المطلوبة للمرأة. وينبغي فتح المجال أيضاً لتمثيل القطاعات المنتجة الرئيسة في البلاد مثل الزراع والعمال والرعاة وأصحاب العمل بجانبالاتحادات المهنية الكبيرة المنتشرة في أنحاء القطر مثل المعلمين والمحامين والزراعيين والأطباء وأساتذة الجامعات والبياطرة وغيرهم، وأن تقوم لجانهم المركزية أو مجالسهم العمومية بانتخاب مندوبيها.
وأن يراعى في اختيار أعضاء مفوضية الانتخابات القومية التمثيل الإقليمي بجانب الكفاءة والحيدة والنزاهة، على أن تعتمدها الهيئة التشريعية القومية (مجلس النواب ومجلس الأقاليم)بنسبة الثلثين.وينبغي تحديد نسبة عالية من التصويت تصل إلى أغلبية الثلثين لإجازة القوانين الهامة التي تتصل بحقوق الإنسان،وحقوق الأقاليم الاقتصادية والخدمية، والموازنة السنوية، والقوانين الجنائية ومثلها. ويكون من حق الإقليم الاعتراض على القوانين والسياسات التي يتضرر منها، وإذا أيد الاعتراض أغلبية نواب الإقليم في البرلمان الاتحادي والمجلس التشريعي فينبغي إعادة النظر في ذلك القانون أو السياسة المعنية حتى يعدل بصورة يرضى عنها الإقليم. وينبغي مراعاة التمثيل الإقليمي والسياسي في تقسيم المناصب القيادية في البرلمان والمجالس التشريعية.
ويكون انتخاب السلطة التشريعية الإقليمية على غرار المركز، أي 80% للقوائم النسبية و 20% للدوائر الجغرافية الفردية والحفاظ على نسبة 25% للنساء، وليس من الضروري تمثيل القطاعات الإنتاجية أو الاتحادات المهنية في عضوية المجلس التشريعي الإقليمي. ومن المناسب أن تكون مقاعد المجلس التشريعي بين ال 40 إلى 60 مقعداً حسب مساحة الإقليم وتعداد سكانه، حتى لا تستهلك موارد الإقليم المالية على مخصصات عدد كبير من الدستوريين. وينبغي تحديد نسبة عالية في إجازة بعض القرارات الهامة التي تؤثر على حياة المواطنين في كل مناطق الإقليم؛ ويراعى أيضاً في تقسيم المناصب القياديةبالمجلس التشريعي التمثيل السياسي والمناطقي داخل الإقليم.
وأن يكون هناك رئيسًا للوزراء ينتخبه البرلمان بأغلبية الثلثين، ويفضل أن يكون من غير حزب الرئيس. وأن تمثل في مجلس الوزراء كل الكتل البرلمانية التي حصلت على خمسة مقاعد أو أكثر، ولا تحصل أكبر الكتل البرلمانية على أكثر من ثلث الحقائب الوزارية. وتقوم الكتلة البرلمانية بترشيح شخصين أو أكثر لكل حقيبة وزارية تستحقها ليختار رئيس الوزراء أحد المرشحين للوزارة المعنية. وينبغي للكتل أن تراعي تمثيل المرأة والأقاليم مع توفر الكفاءة في ترشيحاتها وعلى رئيس الوزراء أن يراعي ذلك أيضاً عند التعيين. ويضع البرلمان لائحة مفصلة لتوزيع الحقائب الوزارية على حسب عدد الكتل المؤهلة وتعداد نوابها ونوعية الوزارات التي تستحقها كل كتلة حسب قوة تمثيلها البرلماني، ولا بد من التوازن في توزيع حقائب الوزارات الهامة حتى لا تذهب لكتلة واحدة أو اثنين مع المرونة الكافية لتقديم صاحب الكفاءة على غيره في مجال معين. وفي النهاية لا بد للبرلمان أن يجيز تشكيل الوزارة بأغلبية الثلثين. ولمنع التصادم والاحتكاكات يجب أن ينصّ الدستور بصورة واضحة على اختصاصات كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ويفضل أن يختص رئيس الجمهورية بشؤون الأمن والدفاع والعلاقات الخارجية وحماية حقوق الأقاليم ويترك ما سوى ذلك لمجلس الوزراء.
وبالنسبة للسلطة التنفيذية بالإقليم ينبغي التمسك بانتخاب الوالي/حاكم الإقليم من كل الناخبين المسجلين في الإقليم على أن يحصل على أكثر من 50% من أصوات المقترعين، وأن يشكل حكومته الصغيرة (5 إلى 8 وزراء) مثل ما يحدث في مجلس الوزراء الاتحادي وذلك بتمثيل الكتل السياسية والمناطقية الفائزة في المجلس التشريعي. يمارس الوالي صلاحياته التنفيذية وفقاً لما يليه في جداول الاختصاصات المنصوص عليها في الدستور؛ والتي ينبغي أن تزيد عمّا كانت عليه في دستور 2005م كما أشرنا سابقاً.
هناك فوارق كبيرة في شروط الخدمة وفي المخصصات والترقيات ومكافآت المعاش بين قطاعات الخدمة (خاصة بين الخدمة المدنية والقوات النظامية) غير مبررة من حيث المؤهلات أو الخبرة أو طبيعة العمل مما خلق ضغائن واحتقانات في جسم الخدمة المدنية. لذا ينبغي وضع هياكل راتبية جديدة لكل قطاعات الخدمة المدنية تناسب الأوضاع المعيشية في البلاد وتساوي بين العاملين على أساس المؤهلات وسنوات الخدمة وطبيعة العمل وتميز الأداء، وأن يكون المجلس الأعلى للأجور هو الجهة المسئولة عن تقدير مخصصات كل العاملين في الدولة بما في ذلك القوات النظامية؛ولا ينبغي للوزير أن يعطي مخصصات لأحد خارج الهيكل الراتبي إلا بموافقة من مجلس الوزراء. إن هناك الكثير من الأمراض والمعوقات داخل أجهزة الخدمة المدنية أقعدتها عن أداء دورها بالكفاءة المطلوبة وعلى رأسها التدخل السياسي في التعيين والترقي مما يتطلب وضع المعالجات المناسبة لها.تنشأ مفوضية قومية للخدمة المدنية من أشخاص يتميزون بالكفاءة والخبرة والنزاهة، تتولى المفوضية إسداء النصح للحكومة الاتحادية حول وضع وتطبيق السياسات ذات الصلة بالتوظيف والتدريب في الخدمة العامة وبتعويضات العاملين، وبمراعاة العدالة في تمثيل الأقاليم المختلفة في أوساط قيادات الخدمة المدنية؛ ولا بأس من تحديد حصة معينة (كوتة) لبعض الأقاليم ذات التمثيل المتدني في قيادات الخدمة المدنية. يعين رئيس الجمهورية بعد التوافق عليها في مؤسسة الرئاسة المفوضية القومية للخدمة المدنية من شخصيات تميزت بالكفاءة والخبرة والنزاهة والتجرد على أن تعتمد بثلثي الأعضاء من داخل البرلمان. وتختص المفوضية بالنظر والفصل في تظلمات العاملين بالخدمة المدنية، وأن تنشئ لها فروع في أقاليم البلاد وذلك دون المساس بالحق في اللجوء إلى المحاكم.
وأن تكون القوات النظامية مفتوحة لكل السودانيين بما يعكس تنوع وتعدد المجتمع، وينبغي على قيادات القوات النظامية السعي لتجنيد عناصرها على مستوى الجنود والضباط من كافة أقاليم السودان، وتراعي ذلك في اختيار قياداتها الوسيطة والعليا.
خاتمة: إن مفهوم الديمقراطية التوافقية بهذا المعنى الذي شرحناه له عيوبه في قبض يد الحاكم وتقصير سلطاته مما يؤدي إلى تأخير القرارات حتى تتم إجازتها من المؤسسات المعنية أو التوافق عليها مع القوى السياسية الأخرى، ولكن تجارب السودان أثبتت أن مخاطر تركيز السلطات في يد واحدة واتخاذ القرارات دون تشاور أو مراجعة مؤسسية أو توافق سياسي أكبر بكثير من تأخير إصدار القرارات بسبب التشاور والتوافق حولها. وكان تركيز السلطاتهوسمة الأنظمة العسكرية التي حكمت البلاد لأربعة عقود فما جنينا من تلك السلطات المطلقة سوى القهر والفساد وضعف الأدء الحكومي وتدهور الإنتاج والخدمات والنزاعات المسلحة وأخيرا تقسيم البلاد؛ وكانت الحصيلة أن السودان ما زال يقف في مؤخرة الأمم سياسياً واقتصادياً وعلمياً وعسكرياً. وحتى في التجارب الديمقراطية الليبرالية الناضجة التي تسمح للحزب الفائز في الانتخابات أن ينفرد بإدارة شؤون الحكم لفترة محددة ينفذ فيها البرنامج الانتخابي الذي وعد به الناخبين، نجد أن هناك ضوابط دستورية وقانونية وسياسية تقوم على فصل السلطات وتوازنها بين مؤسسات الحكم تفادياً للسلطة المطلقة التي في عرفهم تؤدي إلى مفسدة مطلقة. وأثبتت القوى السياسية السودانية أنها لا تصبر على انفراد جهة بالسلطة دون الآخرين ولو لسنوات قليلة حتى يتم التداول السلمي بعد كل انتخابات جديدة. ولذا فإن الديمقراطية التوافقية التي تنزع إلى المشاركة الجماعية في السلطة هي الطريق الوحيد للاستقرار السياسي القائم على التداول السلمي للسلطة ورعاية حقوق الإنسان وتوفير الحريات الأساسية في المرحلة المنظورة من تاريخ السودان. وينبغي الاستفادة من فرصة وضع دستور جديد للبلاد لتبني مفهوم الديمقراطية التوافقية، وأن تتسع المشاركة في صناعة الدستور لكل القوى السياسية والاجتماعية والحركات المسلحة ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة، وأن تكون صناعة الدستور الجديد آلية للمصالحة والتعافي وتحقيق السلام في أنحاء البلاد. وينبغي أن تسهم الديمقراطية التوافقية في تقريب الشقة بين الأغنياء والفقراء، وبين سكان المدن والريف، وبين درجة النمو في كل الأقاليم، وبين قطاعات الانتاج المختلفة (الزراعة والرعي والصناعة والتجارة والخدمات) حتى يجد الكل عائداً مجزياً عن عمله. وأن توفق بين تشجيع الاستثمار وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبين الحقوق والواجبات، وبين سلطة الحكومة الضابطة ودور المنظمات الطوعية في خدمة المجتمع. فالتوافق لا ينبغي أن يكون فقط في تشكيل السلطات التشريعية والتنفيذية والأجهزة الحكومية ولكن ينبغي أن يكون كذلك في السياسات والخطط والقرارات التي تؤثر على حياة الناس المعيشية والاجتماعية والثقافية.
والله الموفق
المراجع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.