لم نبق بمعسكر الرقيّق بولاية النيل الابيض سوى ساعات قليلة من النهار، وعلى الرغم من اننا كنا نحس بارهاق شديد فقد قضينا الليل ونحن على سياراتنا وطوال الطريق كنت أحاول ان اتبين ملامح القرى والشوارع ولكني لم اتمكن لشدة الظلام، ولكن عندما وصلنا معسكر الرقيق عند صباح اليوم التالي برفقة عدد من أطباء وطلاب جامعة العلوم الطبية شعرنا ان الارهاق لا يمكن مقارنته بهذه المعاناة التي يعيشها قاطنو المعسكر. تفوق حد الوصف. بيوت القصب التي يسكنونها لا تقيهم من الامطار وها هو فصل الشتاء يطرق الابواب ويعلن عن قدومه الوشيك. ومع قدوم فصل الشتاء، تتجدد معاناتهم التي بدأت في ذلك الصباح حينما فقدوا منازلهم وكل املاكهم بسبب السيول. واثناء وجودنا بالمعسكر دخلنا الى أحد المنازل المبنية من القصب حيث استقبلنا اهله برحابة ولكن ما لفت انتباهي تلك الروايات المتضاربة التي سردها لنا قاطنو المعسكر، كانت اولى محدثتنا الرضية ابو عبد الله، اخبرتنا انهم بخير في هذا المعسكر ولا يعانون من مشاكل وكل ما يحتاجونه متوفر فهم من المفترض ان يمكثوا ثلاثة اشهر في هذا المكان وقد انقضت منها اكثر من النصف، كانت ام زوجها تجلس معنا في ذات المكان ولكن تعليقها على حديث زوجة ابنها انهم فقدوا اشياء كثيرة جراء هذه السيول اولها انهم تركوا زراعتهم التي كانت تكفيهم الى حين قدوم الموسم الثاني، ولكن الآن في بيوتهم لا يعملون ولا ينتجون غير انهم لا تتوفرلهم ادنى الخدمات سواء أكانت سلعاً غذائية او علاجية. وأكد حديثها ما قاله لنا رئيس اللجنة الشعبية بمعسكر الرقيق عبد الله عمر هجو ان احوال المعسكر متدهورة للغاية، ولا توجد خدمات ولا غذاء ولا حتى خدمات علاجية، وأكثر المشكلات التي تواجهنا هي المياه النقية فنحن لا نحصل عليها بشكل ثابت واحيانا كثيرة نضطر الى الشرب من مياه الحفير، وايضا كميات الذرة التي نحصل عليها غير كافية فنحن نحتاج الى توفير العلاج بشكل دائم لاننا نعاني من امراض كثيرة بسبب طبيعة المكان الذي نعيش فيه الآن، والآن قد تم منحنا (500) قطعة سكنية ولكن السحب لم يبدأ الى الآن وننتظر الاعلان عن ذلك خلال الايام المقبلة، وعلّق على قافلة طلاب اكاديمية العلوم الطبية بانها اتت في وقتها ولكن زمنها غير كافٍ ولدينا امراض مستوطنة مثل الملاريا والالتهابات. وبعد ان غادرنا رئيس اللجنة الشعبية واصلنا تجوالنا داخل المعسكر الذي كانت تشابه ملامحه تماما فلكل اسرة اي كان حجمها اكتفت ببناء غرفة من القصب لا غير وكلما توقفت امام منزل تدور في ذهني مجموعة من الاسئلة، ترى كيف يعيش هؤلاء الناس وبيوتهم مكشوفة هكذا؟! وكيف لهم ان يبقوا مقيدين طوال اليوم؟ ظلت هذه الاسئلة تلاحقني الى ان وصلت الى المدرسة التي اختير لها موقع قصي في آخر المعسكر وكانت هي عبارة عن جملون كبير من القصب والحصير تم تقسيمه الى اربعة اجزاء مفتوحة من الجانبين، وعلى الرغم من بدائيتها الا انه لم يكن هنالك مكان انسب ليستغله الطلاب كعيادة مؤقتة ليتم فيها تشخيص الحالات وتحديد الدواء المناسب لها. كان الفناء الموجود امام المدرسة مكتظاً جداً بالناس فقد اتى بعضهم من المناطق المجاورة وبحسب حديث رئيس رابطة جامعة العلوم الطبية والاكاديمية عبد السلام الحلو الذي حدثنا عن اختيارهم لمنطقة الرقيق لمجرد ما ان جاءتهم انباء عن الاوضاع الانسانية التي يعانيها اهالي منطقة الرقيّق بعد ان كسر الفيضان منازلهم فكان الفرار دون تردد، واضاف الحلو ان القافلة بها طلاب من كلية الطب والصيدلة والتمريض والمختبرات الطبية واعددنا عيادة متكاملة ومعها «7» أطباء و«2» نواب اختصاصي، و«2» من الاطباء العموميين، و«15» طالب في المستويات النهائية و«30» طالباً في المستوى الثالث والرابع وخريجي كلية الصيدلة وطلاب المستوى الاخير من كلية المختبرات، بالاضافة الى «5» أساتذة من الجامعة وأطباء من المستشفى فالعدد الكلي للقافلة «150» من الفئات المختلفة بالجامعة. وعندما سألناه عن طبيعة الامراض الموجودة بالمنطقة ومدى خطورتها اجابنا: ان الالتهابات والملاريا هي اكثر الامراض انتشاراً بجانب الاسهالات وحينما قلنا ان الزمن الذي منحته القافلة للمعسكر ليس كافياً مقارنة مع الامراض التي ذكرها لنا ولكنه وعد بقافلة اخرى للمنطقة لانها بالفعل تحتاج الى وقفة حقيقية والوضع قد يزداد سوءاً اذا لم تكن هنالك متابعات ودراية للموجودين في المعسكر خاصة وان الوضع البيئي الذي يعيشون فيه متردي للغاية، وقبل ان نمضي منه قال ان كمية الادوية التي جلبتها القافلة كانت كبيرة جداً لدرجة انها لم تنفذ كلها وتبقى منها جزء كبير جداً.