إشراقة ذلك الصباح أيقظت مزيداً من النسمات التي افترشت ضفاف النيل الليل كله، في سكون ودعة، تمطت بعدها مفردة جناحيها على السوق المجاور، فأغدقت نعماً من اللطافة تحركت معها أوتار الطبيعة فعزفت سيمفونية اليوم الجديد، رقصت على أنغامها وريقات الشجر وتجاوبت معها نفس سعيد فامتلأ غبطة وهو يعرض في محله ما لديه من خضروات. ومع استمرار حركة البيع انطلقت فجأة من سعيد همهمات، وبدأ يردد بعضاً من عبارات التعاويذ بطريقة متلاحقة وهو يرصد حركة غير طبيعية أحدثها دخول «الفتوة» لمعترك السوق. ولم تمض دقائق حتى انتصب واقفاً أمام سعيد كالطود وهو يمد يده لتحصيل ما جمعه من رزق، رفض سعيد إعطاءه شيئاً، فصرخ في وجهه قائلاً: «السوق كله أعطاني ما أستحق .. أتقاومني أنت؟! .. هات ما عندك وإلا...»، تخندق سعيد وراء ما وجده في نفسه من بعض أستار الشجاعة، فواصل رفضه، فأمسك الفتوة بذراعه وطواها خلف ظهره بقوة جعلت سعيد يجثو على الأرض، مخرجاً باليد الأخرى حصيلة يومه ليأخذها الفتوة.. والألم يعتصر قلبه والحسرة تدمع عينيه، نظر إليه الفتوة باحتقار وتركه مع آلامه وبكائه. وبعد أن كثرت غارات الفتوة على السوق ما كان من البعض إزاء هذا الوضع المتردي إلا أن يفروا لأحد أوكار «القمار» لتعويض بعض خسائرهم، فدخل عليهم سعيد فأفسحوا له مجالاً فجلس واستأنفوا ما هم فيه، وبينما هم كذلك دخل عليهم شخص لم ُيتوقع وجوده داخل مخبأهم السري.. إنه «الفتوة»، وفي ذهول أفسحوا له مجلساً فجلس وشاركهم «القمار» وتفوق عليهم «خرتهم» بعد أن ملأ كوؤسهم ففاضت رعباً، بدأوا يتسللون خارجاً واحداً تلو الآخر يجرجرون أذيال الخيبة والندم.. نهض الفتوة خارجاً في سعادة، تاركاً سعيداً يبكي مرَّ البكاء. وبعد أن أفاق سعيد وكف عن بكائه، بدأ يُخضع نفسه لتقييم شامل، قرر بعده أن يعتزل مثل هذه الحياة، استنهض جيوش التوبة بعد طول سبات، وبدأ يستعد لاستقبال فجر جديد، أليس يوم غدٍ هو «الجمعة».. بلى. عند بزوغ يوم الجمعة تهيأ لأول مرة لأداء صلاة الجمعة وخرج علّه يكتشف عالماً آخر، قصد المسجد وجلس مستمعاً للخطبة، فأحدثت الخطبة في نفسه اهتزازات عميقة لروعة وعظها وبالغ تأثيرها، ومزجها الإمام بمهارته الخطابية، فبكي سعيد من شدة التأثر، حتى لفت بكاؤه نظر الإمام فظل يرقبه، ولما نزل من المنبر ليؤم المصلين، ظهرت ملامح وجهه لسعيد بوضوح تام فعرفه وليته لم يعرفه.. وجد نفسه وجهاً لوجه أمام «الفتوة» مرة أخرى، الذي مرَّ أمام المصلين ليصلح صفوفهم، وتعمد أن يقف برهة بجوار سعيد فضغط على إحدى قدميه فكاد يسقط مغشياً عليه من هول المفاجأة، همس الإمام في أذنه قائلاً: «هنا ببكيك... وهناك ببكيك». [email protected]