كانا يسيران قبالتي تماماً بخطوات هادئة ومتزنة، والشمس قد بدأت ترسل أشعتها بإعلان يوم جديد، ونسيمات الشتاء الباردة قد أخذت تتراجع رويداً رويداً أمام ضوء الشمس.. وفجأة وبلا سابق إنذار اختل نظامهما بطريقة اثارت انتباهي وانتباه بعض المارة، حينما هرولت وتركته قاصدة الدخول الى ذلك المشتل الذي كان يبعد بضع خطوات من محطة المواصلات، وأثار ذلك الفضول بداخلي مما جعلني أوجه بصري نحوها بتركيز عالٍ، واتبعت خطواتها بنظراتي الى ان استقرت أمام كومة من تراب البحر واخذت تزيل واجهتها بسرعة ثم حملت بيمينها كتلة متصلبة قذفت بها داخل فمها واحتفظت بالاخرى داخل حقيبتها الصغيرة البيضاء، لينتهي المشهد وعادت كأن شيئاً لم يكن، بعد أن اتضح أنها قد هفت روحها الى تناول شيء من ذلك التراب، خاصة أن صاحب المشتل كان يحمل خرطوم المياه ويغسل عن أشجاره ما علق بها من غبار. إذا ليس الأطفال وحدهم من يتملكهم نهم أكل الطين وليست الحوامل فقط، فهناك الكثيرون ممن يقعون تحت إدمان هذه العادة السيئة والمضرة، وإن كان صغر سنهم يسوق لهم الاعذار لدى الكثيرين، وهنا اذكر ان جدتي لامي كانت ترفض تماماً حرمان الاطفال من تناول بعض الطين، وتقول يجب ألا تحرموهم منه تماما بحجة ان الطفل الذي يأكل الطين تكون لديه «طينة ناقصة» أو كما تقول، ولعل تناول الطين من قبل الأطفال دون العامين يعتبره الكثيرون ظاهرة صحية، خاصة أن الجسم في تلك المرحلة يكون في بدايات مراحل البناء ويحتاج كثيراً الى الاملاح المعدنية من الكالسيوم والحديد. ولعل هذا ما ذهب اليه العلم بطريقة او بأخرى لاثبات ان الطين يحتوي على قدر من الاملاح المعدنية، وان من يأكله بكميات كبيرة يكون في الغالب يعاني نقصاً في الحديد، وعليه مراجعة الطبيب لاخذ الادوية المناسبة لذلك. ولما كانت صفاء تاج الدين الطفلة ذات السنوات الأربع تجد من اهلها الضرب والتحذير من أكلها للطين، فقد كانت تلجأ في غفلة والدتها الى بل كوم من التراب بالماء ومن ثم تناوله باعتباره وجبة مفضلة تستسيغها بالنهار، ولكن ما ان يحل المساء الا وتتعرض الى نوبة من الانتفاخ الحاد ينتهي بها الى مستشفى الحوادث. ومع حرص والدتها على اعطائها الأدوية التي تغنيها عن أكل الطين، الا ان ذلك تكرر معها لاكثر من مرة، ومرت الأيام وبدأت رويداً رويداً تتخلص من تناول الطين الى ان تركته بصورة نهائية. وبعيداً عن الأطفال والحوامل نجد أن الكثير من الفتيات خاصة ممن نشأن في بيئة قريبة من النيل او الترع او مناطق الزراعة يأكلن الطين، بل يكون ضمن قائمة الوصايا والمطالب لدى من هجروا مناطقهم او لمن لا يجدونه، فقد اوصتني احدى صديقاتي ذات مرة بأن احضر لها القليل من تراب البحر، وحددت لي مواصفات معينة بعد ان سألتني في بادئ الامر إن كان احد جيراننا في الحي يقوم بعمليات تشجير أمام منزله، وعندما نفيت لها ذلك سألتني إن كنت في طريقي أسير على مقربة من المشاتل، وعندما اكدت لها ذلك طلبت مني ان احضر لها بعضاً من تراب البحر ذي اللون الاسود الصلب المتماسك شريطة ان يكون خالياً من الرمل. وإن كان قد شاع أكل الطين لدى الاطفال الذين لا يميزون بين الجيد والسيء كما تخيرت صديقتي.. ولدى الحوامل في مراحل الحمل الاولى او فترة الوحم.. ولدى بعض الفتيات بسبب هفوات النفس.. إلا أننا نجد أن هناك من يتناوله في صمت ويدمنه دون علم من حوله، فقد حدثني أحد زملاء الدراسة بأن صديقه يدمن أكل التراب ولكنه لا يميل الى تراب البحر الا في حالات الضرورة القصوى، لأنه يفضل أكل التربة الطينية اللزجة المخلوطة ببعض ذرات الحصى الأسود الصغيرة، ويقول إنه طين البلدات او مناطق الزراعة ويسمى «البرجوب»، ويميل الكثيرون الى تسميته بأسماء عديدة كل حسب ما يشاء حيث يسمى «الشكولاتة والحلاوة والباسطة». وترى إحدى خبيرات علم النفس أن تناول الطين عند الكثيرين لا يتعدى ان يكون حالة من حالات الإدمان، خاصة أنه يدخل الشخص المعتاد عليه في حالة من القلق والتوتر في حالة فقدانه، وتتلاشى هذه الحالة بمجرد تناوله وإن كانت الكمية قليلة.