مقدمة: لا شك في أن السودانيين قد تعرضوا لعميق الأثر للثقافة المصرية بمختلف جوانبها الأدبية والعلمية والسياسية، ففترة الإستعمار المصري الإنجليزي وقبلها، كانت مصر تدير السودان وبالرغم من الأثر الإنجليزي على السودان، إلا أن وجود مصر كدولة عربية الثقافة وإسلاميتها، ومع وجود الأزهر الذي كان يهاجر له طلاب علم الفقه من السودانيين من قديم الزمان، قد ساعد على تأثر السودانيين بمصر والتسليم لها، للدرجة التي كان سياسيو ماقبل الإستقلال ينادون بالوحدة مع مصر تحت التاج المصري كالإتحاديين، ماعدا دعاة الإستقلال المستنيرين ويمثلهم الحزب الجمهوري بقيادة الأستاذ محمود محمد طه، ودعاة الإنتماء للكومون ويلث البريطاني ويمثلهم حزب الأمة بقيادة الإمام عبد الرحمن المهدي. كما أن من يكتب عن كل مايتصل بمصر، لابد أن يتعرض لإتجاهات الحكومات المصرية نحو السودان، على إختلافها، بإعتبار السودان بلد تابع لمصر، وهو مجرد حديقة خلفية، يجب أن تتبع لمصر، وهو مفهوم راسخ عند الحكومات والشعب أيضا، ماعدا قلة من المثقفين الواعين، وأحسب أن الفنان صلاح جاهين من هذه القلة المثقفة ذات الوعي والضمير. أنتجت البيئة الثقافية المصرية كثير من المبدعين، و من المعروف أن مصر بلد تلاقح الثقافات حيث تمتزج فيها الثقافة العربية والأوربية والشامي والأفريقية في بعدها النوبي والفرعوني وغيرها ... ومصر بلد التنوع أيضا فقد جمعت الفرنجة والعرب والأرنأوط والمماليك والأتراك والصعايدة والفلاحين والنوبة ... ومصر بلد التصوف وسيدنا الحسين والسيدة زينب وبلد السلفيين والإخوان المسلمين والأقباط وبلد الأزهريين وبلد اليسار المتمرد وبلد الشباب الرافض ومصر بلد الفهلوة والشطارة والطمع التاريخي في السودان، سمة الكل، وليست للسياسيين وحدهم ... ومصر بلد المحافظة على التراث، فتجد مساجد الفاطميين وقصور الخديوي وفاروق وقلعة قايتباي وكنائس الأقباط القديمة وتجد فيها قهاوي الفنانين التي كان يجلس فيها كامل الشناوي الشاعر وفريد الأطرش المطرب منذ الأربعينات والخمسينات وتجد فيها مقهى الفيشاوي وفول الدمياطي الذي مازال يعمل بنفس الطريقة منذ عقود. المعالم التراثية لم تتغير في القاهرة، كما تتغير معالم الخرطوم ومدن السودان بسهولة، مع نهم التملك وسرقة مساحات العاصمة القديمة فقد عشنا وشفنا إزالة مدرسة الخرطوم التي درس فيها رفاعة رافع الطهطاوي و السطو على المدرسة الأميرية بأتبرة والتي عمل فيها بالتدريس، الزعيم الأزهري، وحديقة الحيوانات التي كانت من معالم مدينة الخرطوم، وإرتبطت بذكريات عزيزة على أطفال الخمسينات والستينات والسبعينات ... كما شهدنا تحويل نادي الخريجين بالخرطوم ونادي الخريجين بأمدرمان ، صرحا الحركة الوطنية ، إلى مجرد دواوين حكومية كان من الممكن أن تبنى لها العمارات الشاعقة بجبايات الولايات، والإحتفاظ بنكهة التاريخ لتفتخر بها الأجيال القادمة والحالية التي ضاعت أمامها السبل والمعلومات... وغيرها وغيرها ... القاهرة ليست كالخرطوم التي يفقد فيها المغتربين رائحة ذكرياتهم ولو فارقوها لسنتين، بسبب دعاوي التجديد ونهم الحصول على العقار وبيعه لصالح التمكين لحكومة لاتبالي بتراث البلد ... مصر، بالرغم من مشاكلها المعيشية ، فقد حافظت على بيئة إبداعية شملت الفن التشكيلي والمسرح والسينما والصحافة المتنوعة. وسط هذه البيئة الثقافية الغنية نشأ الفنان صلاح جاهين. بدأ رساما للكاريكاتير ، فكان متميزا ... خطوطه رشيقة وسلسة الحركة، وأفكاره عبقرية. رسم الفلاح والسياسي والمعلم والحشاش والتاجر وغيرهم ... عمل في مجلة خفيفة الظل، يقرأها المصريون والسودانيون بنهم، هي مجلة صباح الخير. كان إزدهار ظهوره فيها في فترة الستينات، فكانت كاريكاتيراته مادة أساسية في المجلة بل قد صبغت المجلة بصبغتها، وقد تأثر بها كتير من رسامي الكاريكاتير حتى في السودان، ومن ضمنهم كاتب هذه السطور. زار جاهين السودان في الستينات وأقام محاضرة في جامعة الخرطوم، كنت حينها طالبا صغيرا ولكني متابع جيد لأعماله في صباح الخير، وكم كانت فرحتى عظيمة عندما جاءني أخى طالب الهندسة المعمارية، في ذلك الوقت، أحمد عبود، بتوقيعه على ورقة وبقلم رصاص، فإحتفظت به. كان جاهين شاعرا جميل التعبير، ولكنه وفي فترة الستينات وطغيان التيار الناصري الذي طغى على المثقفين العرب وغمر حتى السودانيين، كتب شعرا سياسيا في تمجيد الثورة المصرية، أشهره قصيدة: يا أهلا بالمعارك ... ولكن شعره الحقيقي ظهر بعد ذلك ... بعد النكسة التي كشفت الناصرية عارية أمام السياسة المحلية والدولية، ظهر الشعر الحقيقي للفنان صلاح جاهين. وشعر صلاح شعر شعبي بالعامية ولكنه بليغ وسلس وصادق. وفوق ذلك فهو شعر فلسفي يدعو للتأمل ويخرج من القلب للقلب، وهو شعر ساخر كذلك، سخرية من ضاع منه شئ ثمين نتيجة لغفلته... فكمن أصابه الإحباط بعد سقوط الناصرية ففقد إتجاهه وعقيدته فاصبح تائها في المجهول يحاول أن يمسك شيئا فلا يجد غير السراب. ولكن هذا الإحباط أخرج لنا من قلب صلاح جاهين، مشاعر إنسانية وتأملات وصدقا فنيا. كان صلاح جاهين هو الكاريكاتيرست الوحيد الذي تم تعيينه رئيسا لتحرير صباح الخير، فأبدع في إدارة الصحيفة، كما أبدع في الرسم. وكان ذلك حدثا فريدا، فلم يتم تكليف رسام برئاسة تحرير صحيفة في مصر، قبل ذلك، والغريب أنه نجح في التمثيل وفي أول دور أسند له وهو دور البارمان في فيلم ( اللص والكلاب)، قصة نجيب محفوظ المعروفة، مما يدل على شمولية فنه. كان (سمينا) منذ شبابه، وكما يقال فأن الشخص ( السمين) دائما يكون خفيف الظل، وصاحب نكتة، وكذلك كان شاعرنا الفنان. [email protected]