من البدهي أنّ الحكم في البلاد لن يستقيم ما لم يتحقق التوازن المطلوب في العملية السياسية برمتها.. خاصة في ما يتعلق بتطور المؤسسات الديمقراطية.. فالنظام الديمقراطي نهض وتقدّم الى الأمام بساقين اثنتين.. هما الحكومة والمعارضة.. كل واحدة منهما تمثلُ ساقاً لا غنى عنها لسير العملية الديمقراطية الى الأمام في أيِّ بلدٍ من البلدان.. وبالطبع فإنّ هذا التوازن يقتضي أن تفهم الحكومة جيداً ما هو دور المعارضة.. وأن تستوعب المعارضة جيداً ما هو الدور الحكومي.. بحسبان أنّهما دوران متكاملان.. يكمل أحدهما الآخر.. بحيث يكون المستفيد النهائي هو الوطن.. لا دوران متعارضان ولا متقاطعان.. كما هو الحال الآن.. بحيث يصبح وجود أحدهما يعني إلغاءً كاملاً لدور الآخر. لكن الواضح الآن وبكل أسف أنّ العملية السياسية برمتها عندنا في السودان تقوم على أساس أنّ كل ساق من ساقي الديمقراطية «تكعبل» للساق الأخرى وتمنعها من التقدّم.. فالحكومة دائماً ما تتربص بالمعارضة وتصفها بصفات العمالة والارتزاق وتقول فيها ما لم يقله مالك في الخمر.. وتمنع نشاطها السياسي.. وتحجب تواصلها مع جماهيرها بحسبان أنّ ذلك نوع من النشاط «الهدّام».. وفي سبيل ذلك تسنّ الحكومة القوانين وتصدر اللوائح التي «تكعبل» بها المعارضة وتقنن لها ذلك العمل.. ناسية أو متناسية أنّها بذلك تعيق التقدم الحُر للعمل السياسي وتمنع تطور الفعل السياسي.. وتسجن حاضر البلاد في سجن الشمولية.. كما سجن من جاءوا قبلها تاريخ البلاد في ذات السجن. وفي الجانب الآخر تجد المعارضة انّها مكتوفة الايدي لا تستطيع فعل أيِّ شيء.. ولا تستطيع التواصل مع جماهيرها.. ولا تستطيع الوصول للبرلمان.. إذ أنّها أصبحت ضعيفة بحكم الضعف السياسي العام والحرمان من النشاط.. فيكون نهجها الأول والأخير هو التربص بالحكومة وإلصاق الاتهامات بها.. سواء صحت تلك الاتهامات أم لم تصح.. ويصبح الحديث عن الفساد الحكومي هو الأكثر رواجاً في صحفها وندواتها.. ويكون إسقاط الحكومة هو الهدف الأول والأخير لها.. وتختلط المفاهيم بحكم الغبن السياسي.. بحيث لا يفرق الناس بين معارضة الحكومة ومعارضة الوطن.. وتختلط الأدوات بحيث يصبح العمل المسلح الذي يرفضه القانون ويرفضه الحس الوطني السليم هو السبيل الأوحد للعمل السياسي.. ويصبح صندوق الذخيرة هو الحكم الأول وميدان النزال الأوجد بدلاً من صندوق الانتخابات.. وهكذا ينحدر الوطن نحو هاوية عميقة.. وتتدحرج البلاد إلى الأسفل بدلاً من أن تنهض وتمضي للأمام. كما مضت كثير من الدول من حولنا. إنّ العمل السياسي ليس بدعة.. ولا تمارسه الجماعات والأحزاب السياسية في السودان وحده دون سائر المعمورة.. وهو ليس اختراعاً جديداً.. فالعالم كله يمارس العمل السياسي بحسبان أنّه الطريق الأوحد لتدافع الآراء وتلاقحها بحيث لا يبقى سوى الرأي الأصلح.. الذي يمكن عبره بناء وطن شامخ ومتقدم.. ولهذا فإنّ النظر بحصافة لتجارب الدول التي سبقتنا وقراءة تاريخها والاستفادة من ممارستها للديمقراطية هو السبيل الأفضل لتفادي كل سوءات التطبيق للعبة الديمقراطية.. وليست ثمة حكمة أو عبرة في النظر إلى تجارب الدول التي تماثلنا تخلفاً اقتصادياً وتقهقراً سياسياً وتأزماً أمنياً، لدرجة أن كثيراً من أقاليمنا قد حملت السلاح.. فهذه لا تستطيع أن تقدّم لنا شيئاً في الممارسة السياسة الرشيدة، لأنّ فاقد الشيء لا يُعطيه.. أمّا الدول الغربية فالأمر فيها مختلف.. فهي لم تصل الى تلك المنزلة الا بعد مخاضٍ عسير.. وحروب مدمرة.. جنحت بعدها للسلم.. وتواضعت على قواعد صارمة لحكم الملعب السياسي لا يستطيع أن يتخطاها كلٌّ من يريد اللعب في ميدان السياسة.. بحيث يلعب لعباً نظيفاً محكوماً بقوانين ولوائح لا يحيد عنها قيد أنملة.. ويتقيد بتلك اللوائح والنظم أو يبتعد عن السياسة تماماً.. ولهذا فإنّ الممارسة السياسية في الدول الغربية تمتاز بأنّ لها هدفاً واحداً هو «الوطن» بحدوده الجغرافية وتفاصيله التاريخية ومكوناته الإثنية.. فلا يستطيع أيِّ حزب يصل الى الحكم مثلاً أن يغير السياسة الخارجية للدولة.. لأنّ السياسات الخارجية للدول توضع بواسطة مراكز بحوث على مستوىً عالٍ من التأهيل والخبرة.. وتستهدف المصالح «الوطنية والقومية» وليس المصالح «الحزبية أو الشخصية».. وأي حزب غربي يصل الى الحكم ليس بوسعه سوى مواصلة ما بدأه الحزب السابق له في تنفيذ تلك السياسة.. فالحال عندهم ليس كما هو الحال عندنا.. أن يبدأ أيِّ وزير جديد للخارجية من الصفر.. ويغير طاقم الوزير السابق.. ويرتجل السياسات.. دون أن تكون لديه خريطة دبلوماسية يسير على نهجها.. وهذا غيضٌ من فيض البلاء السياسي عندنا. إنّ الانتخابات الأخيرة وعلى الرغم من الاعتراف الدولي الذي حصلت عليه.. وعلى الرغم من وجود مراقبين دوليين محايدين مثل كارتر والاتحاد الأوروبي.. إلا أنّنا نعتقد أنّ هنالك الكثير من الاخطاء التي شابتها.. لأنّها أنتجت وضعاً سياسياً معوجاً.. وإلا لما فاز الحزب الحاكم بهذه الاغلبية الكبيرة في الجهاز التشريعي.. لتصبح كل المقاعد البرلمانية من حزبٍ واحدٍ.. لا وجود فاعل لايِّ حزب معارض.. ولا وجود لرقابة سليمة على الجهاز التشريعي.. وهذا ما يجعله فاقداً لمشاعر الرقابة فلا يجوِّد عمله ولا يتقنه.. لأنّ هنالك اختلالاً واضحاً في التوازن الديمقراطي.. ومبعث الخطأ هو أنّ العملية الانتخابية يجب أن تشرف عليها أجهزة قومية محايدة.. يتم الاتفاق والتوافق عليها بين جميع المكونات السياسية حتى تكون مخرجات العملية الانتخابية ذات معقولية تحقق الحد الأدنى من التوازن السياسي المطلوب.. لانّ ايِّ نوع من غياب التوازن يجعل المؤسسات الناتجة من الفعل الانتخابي فاقدة لشرعيتها.. وعليه يصبح التداول السلمي للسلطة أمراً بعيد المنال. وإن كان هذا هو المطلوب من الحكومة فإنّ الجانب الآخر هو أيضاً مُطالَب بالكثير من الخطوات الفاعلة.. فالضعف الذي يعتري هياكل المعارضة ليس كله بسبب الحكومة.. فالأحزاب المعارضة تفتقد للممارسة الديمقراطية في داخلها.. وكثير من الاحزاب لم تقم بتجديد هياكلها ولا كوادرها القيادية.. ومازالت القيادات التاريخية من قبل أربعين أو خمسين عاماً جاثمة على صدورها لم تغادرها ولم تفسح الفرصة للشباب كي يأخذوا دورهم الطليعي والتطويري في داخل أجهزتها.. ولهذا حدثت الانسلاخات الكثيرة وسط الأحزاب المعارضة.. وخرج عليها الكثير من الشباب الذين وجدوا أنّ أحزابهم بالوصفة التاريخية تلك لن تحقق طموحاتهم ولم تقف عندها آمالهم. كما أنّ بعض الأحزاب انسحبت من النزال الانتخابي دون مبررات معقولة.. تاركة الساحة للحزب الحاكم وحده.. مما أحدث خللاً في العمل الإنتخابي.. وجلب عليها سخط عضويتها.. وفشلها في العمل السياسي النظيف لم يكن هو الوحيد.. فهي تتحدث عن الخروج للشارع لإسقاط النظام عن طريق التظاهرات والاعتصامات.. محاكاة لما حدث أخيراً في دول الربيع العربي.. ورغم أنّ السودانيين كانوا من أوائل الشعوب خروجاً ضد الأنظمة الدكتاتورية في أكبر ثورتين شعبيتين «أكتوبر 1964م/ ابريل1985م» شهدهما العالم العربي في تاريخه الحديث.. إلا أنّ المعارضة فشلت في تحريك الشارع.. وأصدق تعبير عن ذلك الفشل هو العبارة التي نُسبت للمرحوم إبراهيم نقد في المظاهرات التي دعت لها المعارضة في ميدان أبو جنزير حين كتب عبارته الشهيرة «حضرنا ولم نجدكم».. فالمعارضة الآن هي عبارة عن أحزاب مفككة ومنقسمة على نفسها.. بعضها انقسم على نفسه وصار نصفين ضعيفين في المعارضة.. وبعضها انقسم فذهب البعض الى الحكومة وبقى الآخر في المعارضة.. وبهذه الطريقة لن تستطيع المعارضة أن تسقط عصفوراً من على شجرة.. دعك من إسقاط الحكومة.. ولا يظننّ أحدٌ انّنا بهذا ندعو الى العنف السياسي.. بل على العكس تماماً فنحنُ ندعو الى العقلانية السياسية وتنظيم الصفوف.. فالوطن الصغير الذي يقبع في ذيل دول العالم ستظل أحزابه صغيرة تتربص ببعضها البعض.. ويقاتل بعضها البعض.. أمّا الوطن الكبير فلا تبنيه إلا الأحزاب الكبيرة.. التي تقوم على المبادئ الراسخة التي تنبع من القيم الوطنية العامة.. ويظل أفراده متمسكين بتلك المبادئ مهما كانت المغريات. ومن ألطف التعابير التي مازالت عالقة بالذاكرة تعبير «النواب الرحل».. الذي كان يصف به المغفور له بإذن الله داؤود عبد اللطيف بعض أعضاء المجالس البرلمانية.. وهم النواب الذين لا يلتزمون بمبادئ أحزابهم وقيمها.. بل يتنقلون داخل البرلمان من حزب لآخر، ويصبحون مثل العرب الرُّحل الذين يرحلون خلف أنعامهم بحثاً عن الماء والكلأ. إنّ «النوّاب الرحل» لا يستطيعون أن يصنعوا برلماناً قوياً يمثل الشعب خير تمثيل ويقوم بدوره الرقابي بكل فاعلية.. ويصبح حرباً على الفساد والمفسدين.. وكذلك البرلمان الذي يتشكل كله من طيف حزبي واحد ويصبح صدّى للحكومة يردد خلفها ما تردده.. ولهذا فإنّنا نقول إنّ الأحداث الكبيرة التي تواجه البلاد تحتاج لأحزاب كبيرة بقدر التحدي.. والمخاطر التي تحدق بها تحتاج لمؤسسات ديمقراطية تستطيع أن تجمع ما تبقى من هذا الوطن في بوتقة واحدة، ولكن كيف يحدث هذا؟ فإن كثيراً من العاملين في العمل العام يسعون إلى الكسب الشخصي حتى ولو كان على حساب الوطن والسواد الأعظم من الناس، وهو حال لا يبني وطناً ولا يقدم شعباً، اللهم اشهد إني قد بلغت!!