كانت السينما واحدة من أهم أدوات التثقيف لجيلنا الذى أدركه الصبا وعاش بواكير الشباب مطلع السبعينات، فمنها صقلنا لغتنا الإنجليزية ومعلوماتنا التاريخية عبر أفلام مثل توماس بيكيت و (أسد فى الشتاء Lion in winter) وكلاهما بطولة ريتشارد بيرتون وبيتر اوتول، وتعرفنا منها على سايكولوجية النفس البشرية كما فى فيلم (سايكو أو psycho) للمخرج الشهير الفريد هتشكوك، وعبرها أدركنا طبيعة الصراعات العرقية بين المجموعات المهاجرة فى المجتمع الأمريكى كما فى فيلم «قصة الحى الغربى أو (West side story) والسينما شأنها شأن الصحافة يمكن أن تكون واحدة من أروع وسائط التعبير والنقد وتصويب الافتراء على التاريخ والتبصير بقيم الحرية والديمقراطية، وكل هذا فعله فيلم زد أو Z «ومعناها باليونانية: إنه حى» مطلع سبعينيات القرن الماضي. وقصة الفيلم مستوحاة من الواقع السياسي لليونان في عهد تغييب الديمقراطية بواسطة جنرالات جيش وشرطة اليونان الذين ما لبثوا أن سطوا على الديمقراطية في انقلاب عسكري. ففي خضم المظاهرات التي اندلعت في اليونان هذه الأيام، تذكرت قصة الفيلم التي تدور حول اغتيال النائب والطبيب اليساري د. لامبراكس على أيدي مجموعة من غوغاء الشارع الذين قام بتحريضهم أولئك الجنرالات. وكان د. لامبراكس يجسد آمال الشعب اليوناني في محاربة الفساد والاستبداد والتبعية الذليلة للولايات المتحدة، وكان حتى في حياته المهنية منحازاً لجموع الفقراء والمقهورين من أبناء الشعب اليوناني، إذ راح يستثمر مهنيته بوصفه طبيباً بارعاً في إنشاء المستشفيات الخيرية وتقديم الدعم والعون الصحي المجانى لفقراء اليونان. وحبكة الفيلم الدرامية تقوم كلها على واقعة اغتيال هذا الطبيب السياسي، وكيف يتبين من خلال التحقيقات التي يقوم بها محقق قضائي نزيه أن الجريمة ليست مجرد اغتيال بواسطة الغوغاء، بل هي تصفية جسدية وإزاحة سياسية يديرها من خلف الستار جنرالات الجيش والشرطة. ومن خلال السيناريو السلس والمشوق نتابع المحقق الشاب وهو يقتفي خيوط الجريمة السياسية بمعاونة صحافي شاب مستقل في تشريح دقيق نكتشف معه تحالف كل بؤر الفساد في المجتمع وضلوعها في هذه الجريمة، بدءاً بالجنرالات ورجال الأعمال وكبار الصحافيين، وإنتهاءً ببعض قساوسة الكنيسة ورجال الدين. كما يبرز الفيلم دور الطلاب بصفتهم شريحة واعية ومدركة تتصدى للديكتاتورية وترفض القمع وتقاتل في استماتة من أجل الحرية والديمقراطية. ولأن الفيلم تم إنتاجه إبَّان قبضة العسكر على مقاليد الحكم في اليونان، فقد تم تصويره خارج اليونان وفي الجزائر بالتحديد، وتداعى لتنفيذه وإنتاجه كل مثقفي ومبدعي اليونان الذين يناهضون الشمولية، بدءاً من المخرج الأمريكي اليوناني الأصل كوستا غافراس والممثلة اليونانية العظيمة ايرين باباس التي شاهدناها في فيلمي «عمر المختار» و «الرسالة»، إلى جانب الموسيقار اليوناني الكبير ميكس ثيودراكس الذي وضع للفيلم موسيقى تصويرية رائعة وأخاذة، وانتهاءً بنجمي فرنسا ايف مونتان وجان لوي ترنتيان. وفي بدايات عهد مايو بالسودان احتفى النظام بهذا الفيلم، وتم عرض افتتاحي له بسينما كوليزيوم بالخرطوم حضره رئيس النظام إلى جانب الموسيقي اليوناني ثيودراكس صاحب موسيقى الفيلم، والمفارقة تكمن في أن رموز ذلك النظام الذين احتفوا بالفيلم فات عليهم أن الشعب بفطرته السياسية أدرك أن الانقلابيين من العسكريين وإن تباين انتماؤهم يميناً أو يساراً، هم آخر من يذرف الدمع على الديمقراطية. ما أبدع السينما عندما تقول لا.