راي 33 ذهب مع الريح..ايام سينما كولزيوم طلحة جبريل توقفت كثيراً عند هذا الخبر. ربما يكون مر على كثيرين مرور الكرام. لكن بالنسبة لي، والمؤكد لكثيرين من جيلي والأجيال التي سبقتني الى هذه الحياة، لاشك انه يرتبط بذكريات جميلة. كثيرون ربما لا يدركون اليوم ، ماذا فعلت « السينما» في حياتنا، خاصة عندما كان السودان بلداً والخرطوم عاصمة. حتى الآن لم أجد تفسيراً لظاهرة تبدو لي والسنوات تتعاقب سنة بعد أخرى، وشهرا بعد شهر ، ويوما بعد يوم ، لماذا كنا نحب « السينما» ذلك الحب الجارف، ونعشق القراءة عشقاً ، جعلنا نحفظ المعلقات ونحن في « المدرسة الوسطى». هل يكمن السبب يا ترى الآن في تعدد وسائط الاعلام، بحيث يصبح الشخص متصلاً مع العالم، حتى عبر هاتفه المحمول، يتلقى فيه الأخبار والصور والرسائل، ويحوله الى أداة تواصل مع الآخرين إذا رغب عبر «الماسنجر». لكن قبل ذلك ما هو الخبر، الذي توقفت عنده كثيراً. يقول الخبر الذي بث مطلع هذا الشهر إن الممثلة الأمريكية كيمي كينع كونلون، آخر ممثلة من الممثلين الذين مثلوا في فيلم «ذهب مع الريح» رحلت عن عمر يناهز 76 سنة. هل تتذكرون هذا الفيلم الذي حقق عام 2006 أعلى الايرادات في تاريخ السينما على الإطلاق. لأكمل لكم الخبر ثم بعد ذلك نتذكر سوياً. قالت التقارير الاخبارية إن الممثلة المخضرمة ( بعض محرري الصحف وحتى الكتاب يستعملون تعبير «مخضرم» وفي اعتقادهم أنها كلمة تعبر عن التقدير، وهي في الواقع كلمة تعني ان الشخص عاصر عدة فترات في حياته) وافتها المنية مدينة « فورت براج» في ولاية كاليفورنيا في غرب الولاياتالمتحدة وهي ولاية السينما حيث توجد استديوهات هووليود. حيث كانت تعاني سرطان الرئة بسبب الافراط في التدخين. شاركت كيمي في فيلم « ذهب مع الريح» الذي يعد من افضل الأفلام الكلاسيكية الأمريكية، إن لم يكن افضلها على الاطلاق. لا أعرف متى وصل هذا الفيلم الى قاعات السينما في بلادنا، بالمناسبة هل بقيت قاعات سينما في الخرطوم؟ لكننا شاهدناه في السبعينات وكنا وقتها مراهقين، وأظن انني شخصياً شاهدته في «سينما الخرطوم غرب». ايام كانت الصحف السودانية تنشر زواية ثابتة تقول « اين تذهب هذا المساء» وعندما يكون الشريط مثل « ذهب مع الريح» تقول « فيلم رومانسي» ، وعندما يكون الفيلم على غرار « ديجانقو» أو «رنغو» تكتب الصحف « في تلك الزواية « فيلم مغامرات وإثارة». كان اعظم افلام المغامرات بالنسبة لنا وقتها، ذلك الفيلم الذي كان يحمل « البطل» سرج حصانه فوق كتفه وهو يدخل المدينة، اي « الكاوبوي» الذي يستطيع أن يرش مجموعة من « الخونة» برصاصات مسدسه، ثم يدوره بحركة رشيقة من يدها، لينزل المسدس في جرابه، المتدلي من خصره. أنتج فيلم « ذهب مع الريح» عام 1939، وكانت كيمي كينع كونلون في الرابعة من عمرها، حيث لعبت دور الفتاة «بوني بلو بتلر» وكان هذا هو الظهور الأول لها في مشوارها القصير بالسينما, والذي أمتد لثلاثة سنوات فقط. وابتعدت كيمي عن السينما بعدها وأكملت دراستها وتخرجت في جامعة كاليفورنيا الجنوبية في قسم الاتصالات، وعملت لفترة قصيرة في غرفة التجارة بالولاية. وأصدرت العام الماضي كتابا عن شخصية «بوني بول بتلر». فيلم «ذهب مع الريح» مأخوذ عن رواية مارغريت ميتشل الشهيرة، وفاز هذا الفيلم بثمانية جوائز أوسكار،واختاره معهد الفيلم الأمريكي ليكون الرابع في قائمة الأفلام الأمريكية المائة الأفضل في القرن العشرين. ولا أنسى ابداً ليلة من ليالي واشنطن الموحشة عندما قدمه» نادي الصحافة» في العاصمة الامريكية في مبنى الصحافة مع وجبة عشاء، وأمضيت تلك الأمسية ، مأخوذا بالذكريات الرائعة أتابع شريطاً شكل، واحداً من اهم « الأحداث الثقافية» في حياتي. ولم ينل فيلم « ذهب مع الريح» الجوائز فقط على روعته قصة واخراجاً، بل أيضاً نال جائزة معهد السينما الامريكي باعتبار أن أجمل عبارة في تاريخ السينما قيلت في ذلك الفيلم. وكتبت يومها احدى وكالات الانباء، ارجح ان تكون « رويترز « قصاصة تقول «ربما لا يهتم كلارك جيبل، ولكن عبارته الشهيرة «بصراحة يا عزيزتي أنا لا أهتم» حصلت على لقب أكثر العبارات السينمائية شهرة في التاريخ من قبل معهد السينما. وتصدرت عبارة جيبل الشهيرة من فيلم «ذهب مع الريح» 1939، قائمة من بين مائة عبارة لتتفوق على عبارتين للممثل الراحل مارلون براندو الأولى هي «سأقدم له عرضا لا يمكنه رفضه» من فيلم «الأب الروحي» او « العراب» وعبارة «كان يمكن أن أكون منافسا» من فيلم «في مواجهة المياه». وجاءت في المرتبة الرابعة عبارة جودي غارلاند من فيلم «ساحرة أوز» «توتو لدي شعور بأننا لم نعد في كنساس» تليها عبارة «نخب النظر إليكِ» التي قالها همفري بوغارت لانغريد برغمان في فيلم «كازابلانكا». أتذكر في عام 1991 تلقيت كتاباً ارسله لي الصديق صلاح أحمد ابراهيم، رحمه الله، للمصور الفرنسي جان بيير ريبيير، وهو كتاب صدر بعنوان «السودان على مر الأيام» صدر عن مؤسسة «ايدفرا» في باريس، وكان من أعظم الهدايا التي تلقيتها من الصديق صلاح أحمد ابراهيم الذي كتب مقدمته. يحكي الكتاب يحكي بالصورة تجربة المصور الفرنسي جان بيير ريبيير، في السودان. عين لاقطة طافت بلادنا شمالا وجنوبا وكانت الحصيلة صفحات ولقطات رائعة معبرة. أهم ما في الكتاب أنه لم يقف عند التشوهات كما يفعل الأوربيون عادة، بل سجل بنزاهة واقع حالنا. يومها توقفت طويلا عند صورة معبرة لجدار سينما «كولزيوم» في الخرطوم. بدا ذلك الجدار متسخاً بملصقات بعض الأفلام الهندية السخيفة، ليس من بينها بالطبع فيلم « جانوار». يقف أمام ذلك الجدار طفل حافي القدمين يتطلع إلى تلك الملصقات. كتب ريبير مؤلف الكتاب تحت الصورة تعليقا مقتضبا بالفرنسية يقول «طفل سينما كولزيوم». تداعت إلى الذاكرة أياما مجيدة لهذه القاعة التي تابعت أفلامها شخصيات كان ولا يزال لها صيتها. مثلا، من يصدق أن ثيودراكس الذي وضع موسيقى الشريط العالمي زد (Z) شاهد عرضا خاصا للفيلم في سينما كولزيوم، هذه التي شاخت وتشققت جدرانها. السينما أصبحت حاليا ترف الترف في بلد تلفه الكثير من المشاكل. لا أود أن انساق مع السياسة. لا أدري ماذا يحدث في الخرطوم الآن، التي تنتظر استفتاء الانشطار، لكنني أدرك تماماً أن جيلنا الذي عاش أيام الخرطوم المزدهرة في السبعينيات تعلم، بل وتثقف كثيرا من سينما كولزيوم. كنا لا نجد مقعدا فنضطر لشراء بطاقات الدخول من السوق السوداء، وكم كانت جميلة تلك السوق كانت الأفلام راقية، و»الخرطوم بالليل» جميلة ، جميلة جداً. ولعل من المفارقات انني تعرفت لأول مرة على السينما في كريمة. وليس الخرطوم. يومها كانت هناك سينما تسمى « سينما النخيل»، وكان استاذ الانجليزي عبدالعظيم صالح، يسخر دائماً من تلك السينما» ويقول لنا بانجليزته الرائعة « هذه ليست سينما، هذه خرابة تعرض افلاماً». ربما كان عبدالعظيم صالح ، يقارن بينها وبين قاعات السينما التي دخلها في لندن، عندما كان هناك مبعوثاً لتجويد لغته الانجليزية. ترتبط فترة الدراسة عادة في أذهان كثيرين بذكريات محببة. وكلما تداعت إلى الذاكرة تلك الأيام التي أمضيناها فوق المقاعد الخشبية أمام السبورة السوداء، نستنشق غبار الطباشير المتطاير من الممسحة، تقفز إلى الذهن صورة عبدالعظيم صالح. مدرس اللغة الإنجليزية في مدرسة «كريمة الصناعية الوسطى». كان الرجل قد عاد لتوه من انجلترا. بعد أن تلقى تدريبا تربويا في كيفية تلقين اللغة. وكانت انجلترا بالنسبة لنا في ذلك الزمان عالما آخر، بل قل كانت لغزا من ألغاز الدنيا، لذلك سعدنا كثيرا حين علمنا أن مدرسا جديدا ساقته لائحة تنقلات وزارة التعليم من لندن مباشرة إلى كريمة ليعلمنا كيف نتعلم لغة شكسبير. كنا نحلم أن ينقلنا الرجل إلى العالم اللغز، الرحب، خاصة أن دنيانا كانت تبدأ من «جبل البركل» الذي يطل على كريمة، وتنتهي عند محطة القطار ولا شيء عدا ذلك. بدأت دروسنا مع عبدالعظيم صالح. وكان يقدم لنا عبر اللغة معارف جديدة ومعلومات شتى، يحدثنا عن الإنجليز وطبائعهم، منازلهم، أسلوبهم في الحياة. وكنا نتعجب حين يقول لنا «هم أناس عاديين ولكن لون بشرتهم أبيض، وفي منازلهم مداخن للتدفئة وأكلهم بارد لا مذاق له، ويتقنون الوقوف في الصفوف. ولا يتحدثون بصوت مرتفع، وأعذب ألحانهم الموسيقية اسكتلندية، يعشقون العطلات، لكنهم لا يسافرون كثيرا رغم أنهم استعمروا نصف الكرة الأرضية» وعندما كان يحدثنا عن السينما، ولم نكن قد شاهدناها قط. كان الدرس يتحول الى عرض مسرحي ممتع. كانت الذاكرة طرية. واللسان قادرا على التكيف مع نطق الحروف والكلمات في يسر، وحب الاستطلاع ليس له حدود. وكان الفضول عارما والرجل يصب في عقولنا الصغيرة كل صباح ما تيسر. وأصبحنا نتعلق به كثيرا، خاصة أن طريقته في الالقاء جعلت من تعابير اللغة كأنها الحاناً عذبة. واتذكر انه كان في نهاية كل حصة ، يسألنا، ما هي امنيتك اليوم؟ وكان جوابي الذي لم اتزحزح عنه : الذهاب الى السينما. الأحداث