هنا لندن ، هيئة الإذاعة البريطانية لا تزال تحتفل بعامها الخامس والسبعين وحق لها أن تفعل وسوف تحتفل بعيدها المائة وما بعد المائة . صرح إعلامي دخل البيوت في كل بلاد الأرض بلا إستئذان لأنه كان الصاحب والصديق لكل أفراد الأسرة ومختلف ميولهم وأعمارهم وأوطانهم . بدأت علاقتي بهذه المؤسسة وعمري أربعة عشر "ربيعاً " وأنا معها حتى هذه الساعة بعد أن أصبح عمري ثلاثة وستين " خريفاً " خمسون عاماً لم تفارقني ولم أفارقها . عرفت هذه المؤسسة كيف تخاطبني في مراحل العمر المختلفة : مراهقة ، شباباً وكهولة وشيخوخة ، الفعل الذي عجزت منه ، بل تباعدت عنه كل مؤسساتنا الوطنية بداية بالاسرة والمدرسة والدولة الغائبة . هؤلاء جميعاً كانوا بطالبونني بالطاعة والإذعان لما يرضيهم حتى أكون إبناً باراً بلا عقل ولا عاطفة ! البر عندهم كان التبعية وعدم مفارقة القطيع الضال . لم اعرف في الإدمان خيراً إلا في اثنين : الاستماع والاستمتاع لهنا لندن والقراءة والاطلاع التي أقنعتني بها هذه المؤسسة الاعلامية والحمد لله اني الان اكثر إدماناً للاثنين . حتى الآن هي الملجأ والمخبأ لي عند لحظات العجز الكبير أو الفرح الكبير لا فرق . أندس فيها عند فقدان الامل وعند إنبعاث الأمل كذلك . لم تخيب ظني أبداً ، لاشي يفعل ذلك غير السحر والمعجزة والعظمة وقد كانت سحراً ومعجزة وعظمة بحق . سحرها كان في مقدرتها على كشف ما يريد المستمع وفي كسب إحترام وود المستمع دون إفراط أو تفريط والسحر كان في لغتها العربية الراقية والسلسة في آن واحد وفي إختيار أصوات من كل بلاد العرب ظلت مطبوعة في أذهاننا وحفظنا هذه الأسماء عن ظهر قلب . هذه العربية الخاصة والمتفردة لم تنتجها جميع المؤسسات العربية الثقافية والادبية والاعلامية . معجزتها أنها بدأت كبيرة وظلت كبيرة وستبقى كذلك . طبيعة الاشياء أن تبدأ صغيرة وتكبر أو أن تبدأ كبيرة ثم تصغر، وفي الحالين تنتهي بالموت الزؤام وتحل محلها اخرى . خمسة وسبعون عاماً ظلت هيئة الإذاعة البريطانية تملأ الدنيا وتشغل الناس لا بديل لها وهي الآن تنافس بعضها بعضاً كما يقول الشعراء . درسنا الإستدامة والآن ندرسها لطلاب الجامعات وواضعي السياسات ولم نجدها محسوسة وملموسة ومشاهدة وممارسة إلا في الإذاعة البريطانية بمختلف لغاتها . في كل عبقريات العقاد كان هنالك فصل يسمي مفتاح الشخصية يكشف لك ويفسر في إيجاز شديد كل اصول وتصرفات هؤلاء العباقرة وأعلم جيداً أن مفتاح شخصية الإذاعة البريطانية يتجلى في جملة واحدة " الإستدامة باحترام المستمع (المشاهد ، القارئ) وفتح أبواب كسب المعرفة والعناية بالرأي والرأي الآخر . وإذا تكلمنا عن سحرها وإعجازها ومفتاح شخصيتها كان لزاماً أن نتكلم عن عظمتها المتمثلة دائما في حيادها الإيجابي وقد تعلمنا منها كيف تكون الموضوعية وكيف يكون الثبات عندما تكون محايداً ايجابياً، وكيف تكون مستقلاً بلا عناد ولا نفاق . عظمتها الأخري انها تجمع بين الادب والفن والعلم والطرب بلا تفريق او اختلال لم استمع لأية مادة في حياتي وحياتها ، تبعث على الاحباط أو عبادة الأصنام من البشر والشجر ، كل ما يستمع اليه يفتح لك أبواب المستقبل ، لا بل ابواب الخيال والجمال والتأمل وصنع الأبداع أليس هذه هي رسالة الإنسان الذي يريد أن يحيا بعد مماته. ليس من الادب ، الذي تعلمناه من هنا لندن أن لا نذكر مساهمة السودانيين في هذه الإذاعة في الدفع بالسودانيين الي القمم . بدءاً من الطيب صالح ابن قريتي وإنتهاءً بزينب البدوي وتمنيت في هذه اللحظة أن تسعفني الذاكرة بجميع الأسماء السودانية التي برقت في سماء الإعلام العربي والعالمي، وكذلك اسماء أدبائنا وسياسيينا ومطربينا وفنانينا الذين بعثت بهم هنا لندن الي العالم الرحب أحزن كثيراً ألا ارى مطبوعات لهيئة الاذاعة البريطانية تعوّدنا عليها ومنها مجلة هنا لندن، وأعتب على مؤسستي الجميلة في انها تقتصر بثها على الإذاعة والتلفزيون والانترنت . الكتاب المطبوع لا يزال يمثل عندي القراءة وإعادة القراءة والتأمل ثم الإنتاج . الكتاب هو التوثيق التاريخي والفكري لنا وللاجيال القادمة لأنه عمر الإرسال قصير وعمر الذاكرة أقصر ولا أزال املك نسخة من كتاب حسن الكرمي : قول على قول " واتصفحه في ساعات الانبهار أو الانهزام . التحية لكل أصحاب الهمم العظيمة والآمال الكبيرة الذين يعملون من أجل أن يكون الإنسان اكثر انسانية من ذي والي كل من يسهم في بناء المواطن العالمي وهكذا كانت هيئة الإذاعة البريطانية وقد كان بودي أن أقيم أحتفالاً في كل بيت ومنتدي وفي كل قرية وبلد بإنجاز تستحق فيه هيئة الاذاعة البريطانية جائزة نوبل في السلام والارتقاء بالانسان الفاضل الذي يأخذ من كل نبع قطرة .