٭ ظاهرة تدهور قيمة الجنيه السوداني خلال عهد الانقاذ الحالي بدأت ملفتة للنظر في سنواته الاولى، ثم مع ازدياد معدلات الانهيار صارت مقلقة لأن كافة توقعات وحسابات أهل السودان صارت تحسب على قيمة الدولار. ٭ في مطلع عهد الانقاذ كان سعر الدولار (12) اثني عشر جنيهاً، وهنالك المقولة الشهيرة التي تنسب لأحد قيادات الانقاذ، انه ذكر لولا قيام الانقاذ لوصل الدولار الى (20) عشرين جنيهاً. ومن أجل ايقاف تدهور قيمة الجنيه اتخذت سلطات الانقاذ بعد اقل من ستة أشهر احكاما قاسية جدا بموجب لائحة تنظيم التعامل في النقد الاجنبي، اعدمت بموجبها ثلاثة اشخاص اولهم كان المرحوم بإذن الله تعالى الشاب مجدي محجوب محمد أحمد الذي وجدت بخزينة منزله بعض الاموال من العملات الاجنبية والمحلية، وادى اعدامه لموجة حزن وانتقادات عديدة كبرت مع الايام، خاصة ان الجنيه تدهور منذ اعدامه لتصل قيمة الدولار لأكثر من (7000) سبعة آلاف جنيه، او ما يعادل حوالى (600) ستمائة مرة ضعف قيمته او (60.000%) ستين الف في المائة منذ 17/ ديسمبر 1989م، وهو تاريخ اعدامه الحزين. ٭ تدهور قيمة الجنيه السوداني مرت بمراحل عديدة، بدأت بوضوح مع سياسات تحرير الاقتصاد في مطلع عام 1992م، بسبب السياسات المالية الهوجاء التي أساءت لكل العاملين بقطاع الاعمال بمقولة (خذوا اموال السفهاء الشهيرة).. عندما زادت كل انواع الضرائب المباشرة وغير المباشرة من أجل سداد سلفية ال (200) مائتي مليون دولار الشهيرة لانجاح موسم زراعة القمح.. تحت شعار (نأكل مما نزرع) الذي دمر زراعة القطن وحرق معه نصف الشطر الآخر من الشعار (ونلبس مما نزرع)، ومن أجل سداد القرض هذا لاصحابه وهم بعض أثرياء العرب بعنا لهم العديد من مصانع ومرافق القطاع العام، وكلها وردت في تقرير ديوان المراجع العام الشامل الممتاز الذي قدم للمجلس الوطني الانتقالي في يونيو 1994م، واستمر تدهور قيمة الجنيه حتى وصل الى (1200) الف ومائتي جنيه (بالقديم) في بداية النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي. ٭ ثم جاءت المرحلة الثانية للتدهور التي انتهت في ديسمر 2002م، حيث وصل مقابل الدولار الى (2.650) الفين وستمائة وخمسون جنيهاً، حيث بعد ذلك بدأت الآثار الإيجابية لتصدير البترول تظهر على قيمة الجنيه، حيث زادت قيمته مقابل الدولار وكافة العملات الاجنبية بنسبة وصلت الى (25%) خمسة وعشرون في المائة، حيث اصبح سعر الدولار في حدود (2000) الفي جنيه (بالقديم)، واستمر ثابتاً في هذه الحدود حتى عام 2009م، حيث مع بوادر ظهور شعارات (الوحدة الجاذبة) وعدم قبولها من قيادات الحركة الشعبية بدأ في التدهور مرة أخرى حتى بلغ حوالى (2700) الفين وسبعمائة جينه بنهاية عام 2011م، وهنا ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي ان قيمة الجنيه مقابل الدولار ظلت ثابتة بعد اتفاقية نيفاشا في عام 2005م، والتي بموجبها صارت الحركة الشعبية تأخذ نصيبها البالغ (50%) من قيمة البترول، ولولا هذه الاتفاقية لزادت قيمة الجنيه مقابل الدولار وكل العملات الاجنبية لأكثر من ذلك، حيث كنت اتوقع ان تصبح في حدود (1000) ألف جنيه بالقديم او واحد جنيه بالحالي؟! وبالتالي فإن قيمة الجنيه وتدهوره ظلت تخضع لمعايير غير اقتصادية وسياسية. ٭ والمرحلة الأخيرة بدأت بصدور العديد من المنشورات المتلاحقة والمتناقضة التي اضرت كثيرا بقيمة الجنيه ودمرت مصداقية سياسات التحرير الاقتصادي، حيث صدرت عشرات المنشورات المقيدة لحركة تداول العملات الاجنبية، وتبع ذلك ان شح النقد الاجنبي جعل بعض البنوك تتأخر في الاستجابة في صرف استحقاقات المودعين التي يطلبونها من حساباتهم بالنقد الاجنبي، الامر الذي هز كثيرا مصداقية النظام المصرفي في هذا الجانب، خاصة بعد أن صدر منشور صرف كل التمويلات بالنقد الاجنبي بالجنيه، الامر الذي ادى لخسارات كبيرة جدا لأصحاب هذه التحويلات وصلت لخسارة نصف قيمة تحويلاتهم حتى بعد صدور منشور الحوافز للتحويلات والمصدرين بنسبة (18%) ثمانية عشر في المائة، لأن الخسارة فعلياً كانت في حدود (50%) خمسين في المائة باعتباره فرق سعر بين قيمة العملات الاجنبية بأسعار السلطات النقدية وأسعار السوق الحر. ٭ أيضاً شملت المنشورات العديدة التي صدرت عن السلطات النقدية فتح خطابات الاعتماد المعززة (100%) مائة في المائة، الأمر الذي زاد من الطلب على العملات الاجنبية في ظل ظروف تزايد التزامات البنوك التجارية المحلية للمراسلين الاجانب، في ظل ظروف المقاطعة المعلنة مع البنوك الامريكية وغير المعلنة مع الاوروبية وخلافها، اضافة لذلك صدرت منشورات بتقييد فتح الحسابات بالعملات الاجنبية، وعندما ثبت فشلها وجاءت بنتائج سلبية حدث نوع من التراجع عنها، لأنها قيدت دخول العملات الاجنبية لتصبح تحت مظلة النظام المصرفي. ٭ هنالك التزامات البنوك التجارية المحلية لدى المراسلين الخارجيين، وقدرت في العام الماضي بأكثر من اربعة مليارات دولار، كما نشرت في تحقيقات ولقاءات صحفية نشرت وقتها، وهذا الوضع دون شك يقلل ويضعف مقدرة هذه البنوك في تحركاتها الخارجية للحصول على المزيد من التسهيلات التمويلية، وهذه مشكلة معروفة ومغضوض النظر عنها. ٭ وحقيقة اسباب انهيار الجنيه السوداني المستمر خلال العقدين الماضيين والعقد الحالي يطول شرحها، ودون شك كما يقول المثل فإن معرفة اسباب المشكلة يعني الوصول لنصف الحل. وبهذا الفهم ارى ان تبدأ جهود علمية وعملية قومية لإيقاف انهيار الجنيه السوداني حتى لا يصبح ببلاش بعد ان فقد بالارقام كما اوضحت في حلقات سابقة حوالي (999%) تسعمائة تسعة وتسعون في الالف من قيمته خلال هذه العقود الثلاثة، وبالتالي أرى ان تبدأ السلطات النقدية في فتح باب المشاركة والمساهمة لكل قادر سواء أكان من قبيلة الاقتصاديين او خلافهم من ذوي الخبرة والدراية للإدلاء برأيه وتقديم مقترحاته.. وقد توقفت كثيراً عند التصريح الذي نشرته صحيفة «إيلاف» الاقتصادية السياسية الاجتماعية في الصفحة الثالثة بعددها رقم (406) الصادر بتاريخ 9/يناير الجاري تحت عنوان (خبراء ينتقدون السياسات الجديدة للمركزي) الذي جاء في محتواه أن السياسات النقدية يضعها شخص واحد او شخصان، وان كافة الجهات ذات الصلة لا يتم اشراكها. ٭ وفي إطار هذه المشاركة التي ادعو ان تتبناها السلطات النقدية لايقاف انهيار الجنيه، اتقدم بالآتي: ٭ اولاً: ان تتمسك السلطات النقدية بمبدأ استمرارية التحرير الاقتصادي التي من بينها حرية تداول النقد الاجنبي لمصلحة الاقتصاد القومي في المقام الاول والاخير، وبالتالي أن تقوم بمراجعة كافة المنشورات التي صدرت في مجال النقد الاجنبي تداولاً وتصديراً واستيراداً، والعمل على تعديل وإلغاء كل المنشورات التي تخالف او تتناقض مع ذلك المبدأ.. ومن اجل تحقيق ذلك تقوم بتكوين لجنة مختارة من افراد مؤهلين من داخل السلطة النقدية واتحاد المصدرين والمستوردين والصناعات وغرف النقل والبنوك التجارية والمغتربين والكوادر الاقتصادية المهتمة بالسياسات النقدية والنقد الاجنبي، لمراجعة كل هذه المنشورات ودراستها والتوصية حولها بالتعديل او الالغاء او الاستمرارية؟! وأن يتم تنفيذ هذا الاقتراح في اقرب وقت ممكن لازالة كافة العوائق التي تقف امام انسياب النقد الاجنبي لداخل البلاد وزيادة عرضه، وتدريجياً توفره لمقابلة كافة الاحتياجات، ومن ثم ايقاف انهيار الجنيه قبل أن يصبح ببلاش. ٭ ثانياً: إن تبدأ السلطات النقدية في تبني سياسات تهدف لتوفير النقد الاجنبي لتمويل الاستيراد خاصة (بدون تحويل النل ڤاليو)، بهدف استقطاب مدخرات السودانيين بالخارج لتحريك الاقتصاد خاصة لتوفير مدخلات الانتاج والسلع الرأسمالية وقطع الغيار لكافة نوعيات وسائل الانتاج والنقل والخدمات وتخفيض رسوم الجمارك وكافة نوعيات رسوم الوارد عليها لتقليل تكلفتها في المراحل الأولى لامتصاص ارتفاع قيمة النقد الاجنبي لحين الوصول بأسعارها لمراحل الاستقرار واسعاره الحقيقية مقابل الجنيه، بدلا من (برطعة وفوضى أسعارها الحالية)؟!! هنالك من يقول إن الاستيراد (بدون تحويل) سوف ينقل سوق النقد الاجنبي للخارج، والرد على هؤلاء بسؤال هل سوقه حالياً بالداخل ام بالخارج، ودعك من متاعب مقاطعة البنوك الامريكية في التحويل من السودان للخارج.. وبالتالي فإن ايجاد الحلول لايقاف انهيار الجنيه يتطلب سياسات وقرارات واقعية وشجاعة بعيداً عن دفن الرؤوس في الرمال لأكثر من ذلك. ٭ ثالثا: أن تبدأ السلطات النقدية في ابتداع منهجية جديدة في التعامل مع المودعين بالنقد الاجنبي، من خلال تأكيد المصداقية في ايداع وسحب اموالهم بالنقد الاجنبي في حرية دون قيود، وتشجيع حسابات الاستثمار المتنوعة بالنقد الاجنبي. وسعدت كثيراً لظواهر تشجيع شهادات الاستثمار بالنقد الاجنبي من بعض البنوك، وارى ضرورة التوسع في هذا التوجه الايجابي لتشجيع دخول المزيد من النقد الاجنبي للبلاد. ٭ رابعاً: أرى منذ بداية هذه المقترحات أن يتسع صدر قيادات السلطة النقدية لما يكتب حول قراراتهم وسياساتهم، وأنا شخصياً اقدر الظروف الاستثنائية الصعبة والحرجة التي تمر بها البلاد، وعليهم مواجهة إفرازاتها السلبية العديدة، وأن يتقبلوا كل ما يكتب في هذا الجانب بصدر رحب ومحاولة الاستفادة من ايجابياته بقدر الإمكان. وأسأل الله أن يوقف انهيار الجنيه السوداني، وأن يحفظ السودان وأهله من كل المصائب.