في فترة من الفترات اتخذ المثقفون والعلماء والأدباء والشعراء في الشرق الأوسط عموماً، اتخذوا من الهجرة إلى الغرب بصفة عامة والولايات المتحدةالأمريكية بصفة خاصة قبلة يتجهون إليها بحثاً عن حياة أفضل تكفل لهم الحرية والكرامة الإنسانية التي افتقدوها في أوطانهم الدكتاتورية التي لا تحترم العلم ولا العلماء، ولا الشعر ولا الشعراء، ولا الأدب ولا الأدباء، فكانت هجرة شعراء المهجر المعروفة إلى أمريكا، هاجر إيليا أبوماضي، وجبران خليل جبران،ومن بعدهم هاجر فاروق جويدة وهو ليس من شعراء المهجر المعروفين بالمصطلح المحدد_لو يوافقني الدكتور نميري سليمان أستاذ الأدب العربي المعاصر بالجامعات السودانية_ على العموم هاجر فاروق جويدة مع المهاجرين صوب أمريكا يبحث كغيره عن الحياة الإنسانية الفاضلة التي تحترم الإنسان وتجعل منه كياناً ذا قيمة، خاصة إذا كان هذا المهاجر يحمل فكراً إنسانياً يعتقد أنه يسهم في تقدم الإنسا نية ورقيها _ ولو وجدانياً، كالشعراء والأدباء الذين يحملون في دواخلهم أجل وأنبل القيم الإنسانية الفاضلة التي تحتاج إلى فضاء رحب لكي تنداح بين الناس فتبعث فيهم أمل الحياة من جديد كما نجد ذلك في شعر أبي القسم الشابي وكأنه يشير إلى ثورة الربيع العربي عندما يقول: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر٭ ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر،فالشاعر هنا لايعني الحياة التي هي ضد الموت إنما يعني الحياة الإنسا نية الكريمة التي كانت منذ الأزل هي مطلب الإ نسان ومبتغاه وهدفه النها ئي بعيداً عن الكبت والقهر اللذان يقتلان في الإ نسان أهم قيمة إ نسانية وهي"الحرية"،إذن فا لبحث عن الحياة الفاضلة،وعن القيم والمثل الرفيعة هو القاسم المشترك بين جميع الشعوب مسلمين وكافرين،ولذلك نجد أن الغرب أعطى مساحة كبيرة لقيمة الحرية باعتبار أنها الأ ساس في عملية الإبداع الإنساني وهذا ماجعل أصحاب العقول النيرة يتجهون نحو الغرب لتنمية عقولهم في ظل حرية الرأي حيث تزدهر العقول وتنتج للإنسانية ما هومفيد لها في حياتها، لكن مالم يتوقعه المهاجرون تلك الفوارق الرهيبة في بعض القيم الإنسانية والإجتماعية بين الشرق والغرب،فا لحياة الإجتماعية في الشرق تختلف عن الحياة الإجتماعية في الغرب في كل مناحي الحياة لأن الفلسفة الغربية للحياة لاتقوم على المبدأ الديني،إنما الأساس فيها المصلحة الفردية"الأنا"والعكس تماما في الشرق الذي تنبعث قيمه ومفاهيمه للحياة من عقيدته الإسلامية التي تركز على مبدأ الجماعة وتقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد،وبالتالي مهما تغرب الإنسان الشرقي تظل هذه القيم مركوزة في عقله ووجدانه لايمكن أن ينساها بأية حال من الأحوال ولو نسيها في لحظة غفلة عابرة سرعان ما يتذكر وينتبه ليعود إلى قيم النشأة الأولى،ويظل يندب حظه الذي ساقه إلى الهجرة عندما يلاحظ فرق القيم بين موطنه الأصلي وموطن هجرته، وقد عبر عن هذا المعنى الشاعر العربي الكبير فاروق جويدة الذي هاجر إلى أمريكا وظل فيها فترة من الزمان،ثم كتب قصيدته الرائعة التي سجل فيها شكل الحياة هناك وهو يناجي أمه ويشكو الوحدة التي يعيشها هناك،ويتذكر أياماً جميلة قضاها مع والدته يصليان معاً،ويختم القصيدة بعدم شعوره بالإنسانية التي جاء يبحث عنها هنا وهو بهذا يحدد الفرق الكبير لمفهوم القيم بين الشرق والغرب،كما نلاحظ في مفردات القصيدة : وتركت رأسي فوق صدرك ثم تاه العمر مني في الزحام فرجعت كالطفل الصغير يكابدالأم في زمن الفطام ورأيت صوتك يدخل الأعماق يسري والدمع يجرح مقلتيك على بقايا زمن ومضيت يا أمي غريباً في الحياة كم ظل يجذبني الحنين إليك في وقت الصلاة كنا نصليها معاً أماه قد كان أول ماعرفت من الحياة أن أمنح الناس السلام لكنني أصبحت يا أمي هنا وحدي غريباً في الزحام لاشئ يعرفني ككل الناس يقتلنا الظلام فالناس هنا لا تدري معنى السلام يمشون في صمت كأن الأرض ضاقت بالبشر والدرب يا أمي ملئ بالحفر وكبرت يا أمي وعانقت المنى وعرفت بعد كل ألوان الهوى وتحطمت نبضات قلبي ذات يوم عند ما مات الهوى ورأيت أن الحب يقتل بعضه فنظل نعشق ..ثم نحزن..ثم ننسى ما مضى ونعود نعشق مثلما كنا ليسحقنا..الجوى لكن حبك ظل في قلبي كياناً لايرى قد ظل في الأعماق يسري في دمي وأحس نبض عروقه في أعظمي أماه ما عدت أدري كيف ضاع الدرب مني ما أ ثقل الأ حزان في عمري وما أشقى التمني فا لحب يا أمي هنا كأس ..وغانية.. وقصر الحب يا أمي هنا حفل..وراقصة..ومهر من يا ترى يدرك أن في الحب العطا الحب أن تجد الطيور الدفء في حضن..المساء الحب أن تجد النجوم الأمن في قلب السماء الحب أن نحيا ونعشق ما نشاء أماه..يا أماه ما أحوج القلب الحزين لدعوة كم كانت الدعوات تمنحني الأمان قد صرت يا أماه هنا رجلاً كبيراً ذا مكان وعرفت يا اماه كبار القوم والسلطان لكنني..ما عدت أشعر أنني إنسان !! نلاحظ من خلال هذه القصيدة أن الشاعر ظل محتفظاً بجملة من المعاني والقيم الشرقية كالحنين إلى الأم ،ووصف الحب بما لا يتوافق مع قيم الشرق،وعدم شعوره بالإنسانية رغم أنه أصبح ذا مكانة عالية في المجتمع الغربي،لكن تظل القيم هي ميزان الحياة،وهي جوهر سعادة الإنسان، ينبغي أن تكون لها السيادة والريادة في مسار الحياة الإنسانية،وأي مجتمع من غير قيم لايساوي شيئاً مهما بلغ من الرقي المادي،خاصة مع صيحات العولمة التي تريد القضاء على كل الأخلاقيات،والخصوصيات للشعوب وركوب قطار العولمة دونما وعي. مما يسر النفس ويثلج الصدر أننا مازلنا في وطننا السودان نحترم القيم بقدر كبير ونكافح من أجل أن تسود نلاحظ ذلك في إ ندياحات داليا إلياس وهي تغوص في قيم المجتمع السوداني من البر والتواصل الرحمي،ومعالجة الإنحرافات الإجتماعية،والدخيل من العادات التي لا تشبه المجتمع السوداني، والموضات التي جرفت أبناءنا وبناتنا كل ذلك من باب المحافظة على القيم . كما نجد نمريات إخلاص نمر وهي تفترس الشذوذ الإجتماعي كالإغتصاب ،والتحرش الجنسي بأطفال المدارس،وختان البنات.فهي نمور تصطاد كل ماهو سالب من القيم. من جانب آخر نجد وداد الماحي في دوزنة المشاعر تحاول جاهدة أن تزن المشاعر وتضعها في الإطار الصحيح حتى لا يجرفها تيار العواصف باسم العولمة،كل هذه الإجتها دات تأتي في إطار سنن التدافع بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة،إذن نخلص إلى أن لكل أمة منهاجاً يحمل في طياته منظومة من القيم الحياتية تظل هي عنوان المجتمع يبقى المجتمع ما بقيت ويفنى ما فنيت ...