تضاءل الحديث عن محاربة الفساد في الفترة الماضية نتيجة لتصاعد القضايا السياسية والخلافية مع دولة جنوب السودان من جهة وحراك وثيقة الفجر الجديد التي شغلت بال الحكومة من جهة أخرى بجانب اشتعال رقعة الحرب في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور، إلا أن غول الفساد الخفي مازال يتشكل بصور متعددة لم يجد المحاسبة الرادعة حتى الآن ولم تُعلن قضية مكتملة الفصول للرأي العام وان كانت تصريحات المسئولين تصدرت الأخبار وعناوين الصحف عن محاربة الفساد والمفسدين والمتلاعبين بالمال العام وسبق أن تحرك وزير العدل محمد بشارة دوسة أكثر من مرة فى سبيل تفعيل هذه الملفات ومحاسبة المفسدين، ووجه النيابات ذات الصلة بمتابعة وملاحقة القضايا المفتوحة، الا ان ذلك لم يحدث أثراً واضحاً للعيان ولم يتم الكشف والإعلان عن نتائج تلك المحاكمات وسير إجراءاتها ولم تزل الرؤية معتمة في هذه القضايا الحساسة، وتقرير المراجع العام يأتي كل سنة أكثر خيبة مما سبقه بعدد من حالات الفساد المتنوعة. وفى آخر المساعي المبذولة لمحاصرة الفساد من قبل البرلمان كشف رئيس لجنة العمل الفاتح عز الدين عن إحالة كافة القضايا المتعلقة باستغلال المال العام للمحاكم خلال فترة أقصاها أسبوعين فقط، وذكر ان هناك قضية كبيرة وصلت مراحل متقدمة فى التحقيق لكنه تحفظ فى الكشف عنها وشدد على ان تلك القضايا لا تعالج بالمسكنات، وفى ذات السياق داخل أروقة البرلمان عقد المراجع العام قبل يومين إجتماعاً مع رئيس البرلمان احمد إبراهيم الطاهر ورئيس لجنة العمل ناقش الاعتداءات على المال بأشكالها المختلفة والمعالجات التي وضعت، واوضح عز الدين فى تصريحات صحفية عقب اللقاء أن الاجتماع تطرق للمعالجات التي تمت بشأن الاطراف ذات العلاقة ،وأشار الى تقدم التحقيقات في ذلك الملف ورجح إحالته هذه القضايا للمحاكم مباشرة خلال اسبوعين وقال « القضاء سيقول كلمته في البينات التي وردت بتقرير المراجع العام» ،واقر بان جميع القضايا شغلت الرأي العام بشكل لافت ، ونفى وجود أية ضغوط من أية جهة عليا لإغلاق الملف ،إلا انه اقر بوجود تعقيدات في قضايا استغلال النفوذ من قبل مسئولين لارتباطها بأطراف خارجية وداخلية، وأكد الفاتح ان البينات التي وردت في قضايا استغلال النفوذ بتقرير المراجع العام راجحة، قاطعا بإصدار القضاء حكمه بشكل نهائي ،وتوعد بأن المراجعة ستلاحق جميع أشكال الاستغلال «حتى تبلغ تمامها». وأوضح رئيس لجنة العمل الفاتح عز الدين ل «الصحافة» أن هناك قضية واحدة من قضايا استغلال النفوذ مطروحة في البرلمان ووصفها بالقضية الكبيرة قال إنها حالياً في مرحلة التحري نتائجها للعلن بعد أسبوعين، وفى رده على سؤال «الصحافة» وان تقرير المراجع العام ذكر (40) حالة استغلال نفوذ تم عرض واحده منها فقط قال عز الدين ان تقرير المراجع العام ذكر (46) حالة وليس (40) حالة إلا انه قال كلها لا تستحق عرضها فى البرلمان مثل القضية الكبيرة المفتوحة حالياً ، وأوضح ان هذه القضايا بعضها تحلل من المال العام وبعضها بيناته ضعيفة والاخرى مازالت فى التحري، وتعهد عز الدين بكشف تفاصيل القضية المعروضة امام البرلمان فى وقتها حتى لا يضر النشر باجراءات التحري. وكان المراجع العام فى تقريره الأخير الذى اودعه منضدة البرلمان قد كشف عن ضبط (40) حالة استغلال نفوذ في معاملات مالية، بلغت جملتها (17.1) مليون يورو ، و (1.2) مليار جنيه، في معاملات بنوك ووزارات وهيئات حكومية وأفراد وشركات خاصة تتبع لها، وانتقد المراجع العام في التقرير التفصيلي الذي سلمه للمجلس الوطني تلك المعاملات قبيل ان يصفها بالمنحرفة، وأشار لتغلب مصلحة الأطراف على المصلحة العامة، والتى بدورها تقود للفساد وإهدار المال العام . واتهم التقرير الذي تلقت «الصحافة» نسخة منه، جهات حكومية بعدم الإفصاح عن طبيعة العلاقات الخاصة وتفاصيل المعاملة المالية، فضلا عن تعدد عمليات التمويل رغم التعثر في عمليات سابقة ،وكشف عن مخالفات في عملية إرساء عطاءات لشركات ذات علاقة مباشرة بأسعار تفوق الاسعار السائدة، وكشف عن مخالفات رصدت بتحويل اختصاصات وحدات حكومية الى شركات خاصة مملوكة لمسئولين بالوحدات الحكومية ،بجانب تلقي شركة حكومية لعمولة «رشوة» بلغت (172) ألف جنيه من شركة أجنبية لتوريد مواد للبلاد . ورصد التقرير جملة من المخالفات في إطار البنوك والمصارف الحكومية منحت تمويلا دون استيفاء الشروط والضمانات ،وعدم تحريك إجراءات قانونية بعد استنفاد كافة وسائل التحصيل ،فضلا عن قيامها بمنح تمويل بصيغ مرابحة بضمان فوائد ما بعد الخدمة ،واكد وجود استغلال نفوذ لتعاملات بين كبار الموظفين ووحداتهم لتحقيق مصالح شخصية . ومن جانبه طالب المراجع العام، البرلمان بإصدار قرارات صارمة للافصاح عن المعاملات الخاصة بين الاطراف ذوي العلاقة لحفظ موارد واصول الدولة لحين تعديل التشريعات والقوانين. ولم تشفع توجيهات وزير العدل محمد بشارة دوسة فى الفترة الماضية من تحجيم غول الفساد ومحاصرته ليأتى تقرير المراجع العام لسنة 2012 اسوأ من 2011 رغم القرارات التى اصدرها الوزير بتشكيل لجنة لتنسيق الجهود للحفاظ على المال العام ومُكافحة التعدِّي عليه ومحاسبة المُعتدين، ومطالبته الدستوريين وكبار المسئولين ملء استمارة ابراء الذمة بأمر المادة (75/1) من الدستور الانتقالي لسنة 2005م والمادة (9) من قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه لعام 1989م. وفى حديثه ل «الصحافة» عرف الخبير الإقتصادي محمد الناير ان «استغلال النفوذ» هو نوع مستحدث من انواع الفساد لم يكن مطروقاً ومألوفاً فى السابق وقال إن الرأي العام عرف مسألة تجنيب الأموال والتعدي على المال العام والاختلاس وغيرها من أوجه الفساد إلا أن قضية استغلال النفوذ تعد من القضايا المستحدثة. وطرح المحلل السياسي بروفيسور محمد نوري الأمين في حديثه ل «الصحافة» عدداً من الأسئلة الموضوعية وقال لماذا لا يتم ذكر هذه المؤسسات الفاسدة بالأسماء «شركات او مؤسسات ، مصالح حكومية او أفراد»، ولماذا كل مرة يتم التعامل مع الفساد ب «فقه السترة» ؟، وقال ان المجلس الوطنى الذى تعرض عليه هذه الملفات لا حول له ولا قوة، وتابع الأمين تساؤلاته أين دور وزارة العدل من هذا الواقع وأين مستشارية الفساد التي أنشئت ولم نسمع بها نهائياً حتى هذه اللحظة؟، ثم أين رئيس الجمهورية ورأس النظام الذي يتحمل المسؤولية أمام الله وأمام شعبه لاسترداد هذه الأموال ومحاسبة هؤلاء المفسدين؟ ويرى نوري أن الحل الحقيقي يكمن في إعلان أسماء المفسدين التي أكدها المراجع العام للرأي العام وان يصبح ذلك سنة لفضح المفسدين حتى نقلل من الظاهرة، ووصف الأمين هذا الواقع بالعبث، وقال إن أي حديث ينتقد التقارير العالمية وتقرير منظمة الشفافية العالمية بانها استهداف للسودان واستهداف للإسلام ودولة الشريعة أمر عار من الصحة وحديث غير مسئول لأن معايير التقرير لم تطبق على السودان وحده وشملت (176) دولة غير السودان، وأضاف من وجهة نظرى ان السودان هو الدولة الأولى من حيث الفساد فى العالم باعتبار ان الصومال بلا حكومة اصلا وغير مستقر. وكانت منظمة الشفافية العالمية للعام الحالى 2012 فى آخر تقاريرها والذي شمل مؤشر الفساد فيها (176) دولة لهذا العام ، صنفت السودان بحسب المؤشرات العالمية، فى الدرجة الثانية عالمياً في الفساد لعام 2012 م، بعد الصومال التي احتلت المرتبة الأولى بأكثر دول العالم فسادا بثماني نقاط مسجلة المرتبة (174) ومتقاسمة المركز نفسه مع أفغانستان وكوريا الشمالية، وحقق السودان (13) درجة ، مسجلا المرتبة (173)، متراجعا خمس مراتب أخرى عن العام الماضي 2011 م، والذي كان يحتل فيه المرتبة (177).