حينما انضم الاخ المغفور له بإذن الله فتح الرحمن شيلا الى حزب المؤتمر الوطني قال الناس إنّه ذهب باحثاً عن المال والثروة.. فكان رده البليغ عليهم (اللهم لا ميلاً مع الهوى.. ولكن ميلاً عن الهوى.. اللهم غنًى عن الغِنى.. وديناً عن الدُنيا).. هذا الرد سمعه بعض من الناس نقلاً عن شيلا المثقف.. ولكن الذي لا يعلمه أكثر الناس في ذلك الزمان هو انّ هذه الكلمات هي من تراث السياسي المصري الشهير.. مسيحي الديانة.. وكان حافظا للقرآن الكريم وكثيرا ما كان يستشهد ببعض من السور في خطبه التي كانت تعتز بها المنابر وكانت تثير في الناس حماسة غير عادية. قبطي المنبت.. الزعيم مكرم عبيد باشا.. والذي كان سكرتيرا لحزب الوفد المصري اكبر الاحزاب السياسية في مصر آنذاك ورغم ما كان يتمتع به مكرم عبيد من جماهيرية في ذلك الحزب الكبير الا انه قد إستقال منه إثر خلافات مع رئيس الحزب مصطفى النحاس.. وذهب الى أحد أحزاب السرايا.. الموالية للملك.. فتمّ تعيينه وزيراً للمالية.. وقد قال الناس وقتها أنّ مكرم قد وجد ضالته في المال بعد طول بحث في ميادين السياسة.. فقال تلك الكلمات في أول مخاطبة له للبرلمان. وللتاريخ فإنّ الظروف السياسية التي مرّ بها فتحي شيلا تشبه الى حدٍّ كبير تلك التي مرّ بها مكرم عبيد.. فحين إنضمّ فتحي شيلا الى التجمع الوطني المعارض.. ولانّه كان مقرباً من قيادة الحزب الإتحادي.. فقد صعد بسرعة البرق.. وأصبح عضو الهيئة القيادية للتجمع.. بل وأصبح ناطقاً باسمه وحافظاً لاسراره.. رغم أنّ الظروف المحيطة به كانت قاسية لدرجة كادت تفقده مستقبل ابنائه.. حيث دخل ثلاثة من أبنائه الى الجامعة في سنةٍ واحدةِ.. ينتظرُ واحدهم الآخر حتى تتوافر الأوضاع المالية الملائمة لإنتسابهم للجامعة والصرف عليهم.. كان الرجلُ يعيش على الكفاف ايام المعارضة رغم يسر حاله حين كان بالبلاد قبل الإنقاذ.. حين اعتلى منصب مدير مكتب وزير الداخلية (الأستاذ سيد أحمد الحسين) واصبح بعدها وزيراً للدولة ونائباً لحاكم الاقليم الشمالي (عبد العزيز محمد الأمين).. ولكنّ الإنقاذ صادرت ممتلكاته كما فعلت مع معظم القيادات السياسية المعارضة.. فتحمل بصبر وجلدٍ تلك الفترة القاسية.. وضرب فيها أروع معاني البطولة التي لا يستطيعها إلا من عمقت فيه معاني الكرامة وشيم الإباء.. كان بالقاهرة يقود عربة (لادا) تتبع للتجمع المعارض.. وحين عاد الى السودان أوقفت قيادة التجمع إلتزامها بدفع إيجار الشقة التي كان يقطنها ابناؤه.. ولكن إبنه (عمار) كان ذا نجابة وحبٍ للعمل الصحافي جعلته يلتحق بصحيفة (الرأي العام).. وكان يتلقى منها راتباً يكفي لدفع إيجار الشقة.. في ذات الوقت نصح أحد أصدقاء فتحي أسرته بالقاهرة ببيع العربة (اللادا) لأنّها كانت مسجلة باسم المرحوم (شيلا) وليس باسم التجمع.. ولعلهم لم يفعلوا رغم حاجتهم المآسة للمال لإكمال تعليمهم. من المعلومات الغريبة أنّ بعض المعارضين بالتجمع أسدلوا بينهم والمرحوم فتحي شيلا حواجز اسمنتية صعبة الاختراق.. واختلقوا له المشكلات.. وروجوا حوله الوشايات التي كانت (قيادة التجمع!!!) ذات جاهزية عالية للاستماع اليها.. رغم الخدمات الجليلة التي قدمها لها.. وتسممت الأجواء داخل التجمع الى أنّ اضطر للعودة مع السيد أحمد الميرغني في العام 2003م.. وصاغا مع المؤتمر الوطني (إتفاق القاهرة) والذي تعثر مثل غيره من الإتفاقيات التي وقعها المؤتمر الوطني.. وغادر شيلا التجمع واستقر بالخرطوم.. فوجد فيها أوضاعاً مختلفةً.. ففي مقابل أجواء المؤامرات والدسائس والشائعات التي سادت وسط التجمع المعارض بالخارج كانت قيادات المؤتمر الوطني بالداخل تسارع الخُطى لإستقبال القادم الجديد.. فعلى سبيل المثال كان الفريق بكري حسن صالح ،كان ينصحني كلما إلتقيته بأن أحث (فتحي شيلا) بالإسراع في الإنضمام للمؤتمر الوطني ليحجز مقعده في المقدمة قبل ان تمتلئ المقاعد.. فكان شيلا يرد عليّ: (قل لبكري.. اصبر قليلاً.. فلربما آتيك بالمجموعة كلها.. لأنني أسعى لتصالح ينهي هذه الفرقة التي اضرت ببلادنا كثيراً.. وأسعى لوفاق يجمع بين الفرقاء ليس من أجلهم ولكن من أجل الأجيال الجديدة التي لم ترتكب ذنباً تدفع من أجله ثمن هذا الإحتراب والخصام).. ثمّ اضاف (قل لبكري.. قد آن الأوان الذي نصوِّب فيه كلّ جهودنا اتجاه الوطن بكامله.. وان لا يصبح الحكم والكرسي هو الهدف).. ياله من رجل. كان دائماً متمسكاً بالديمقراطية.. وكان يقول لي (كيف يمكن أن تتحقق الديمقراطية على ارض السودان.. والاحزاب التي يفترض انّها ستُطبق الديمقراطية تفتقد لتطبيقها داخل هياكلها؟؟).. ومن التصريحات المشهورة لشيلا هي قوله (أنّ الحزب الإتحادي الديمقراطي أصبح شركة خاصة يملك الميرغني كل اسهمها.. ويجلس معه الآخرون على سبيل الإستضافة).. وهي الرؤية التي جعلته يغادر كرسيّه بقيادة التجمع ويعود الى البلاد.. وفي تلك الأثناء وقبلها وبعدها كانت تدور بيننا مناقشات ثرةٍ.. لا يتعصب فيها لخطأ ولا يبخل فيها برأيه ولا يدسُّ فيها نصيحةً.. كان يرى (أنّ تغيير الفكر السياسي السائد في السودان الآن ضرورة.. ولكنّ تغيير الفكر وحده لا يكفي إذ يجب أن تتغير القيادات التي شاخت على فكرها القديم وتيبست عند عصور التقديس). رغم الخلاف الحاد بين التجمع والحكومة إلا انّه ظلّ - ولوقتٍ طويلٍ - محتفظاً بمسافاتٍ ثابتة منهما وبعلاقات طيبة بقياداتهما.. وخير دليل على بل خير ثمرة لتلك المواقف هو ذلك الحضور الكبير والمتنوع الذي سار لتشييع جنازته.. حيث جاء المؤتمر الوطني بقيادات الصف الأول.. الرئيس عمر البشير ونائبه الأول على عثمان محمد طه اللذان تقدما جموع المشيعين، بمشاركة عدد من الوزراء والمسئولين بالدولة والحزب الحاكم والفنانين والمفكرين والمواطنين.. وجاء الختمية وهم يحملون بيارقهم وأعلامهم الخضراء.. ويرددون أورادهم التي تحض على الطمأنينة بجوار الله الذي بذكره تطمئنُّ القلوب. والذي قد لا يعرفه الكثيرون أن شيلا ورغم دماثة خلقه فقد كان معارضاً صلباً.. ففي التجمع الوطني اسندت اليه مهام خطيرة وضع بعضها حياته على المحك وكاد أن يودي بها.. كان رجلاً فرغم الدسائس والشائعات إلا أنّه لم يعادِ من عادوه بل تركهم خلفه ومضى للأمام.. وحين صالح النظام كان صلحه صادقاً جعله يكسب ود وإحترام من صالحهم. بفقدان شيلا فقدت البلاد أحد الرجال الوسطيين الذين كانوا يمثلون حلقة الوصل بين المتشددين في كلا الجانبين.. كان رجلاً وفاقياً من الطراز الاول.. يحظى بعلاقات واسعة وعميقة داخل الاحزاب الكبيرة. ولعلّ الكثيرين يتساءلون عن السبب وراء تغيير الرجل لرأيه الذي إلتزم فيه جلّ حياته بمواقف الحزب الإتحادي الديمقراطي حتى صار من المقربين لرئيس الحزب السيد محمد عثمان.. يتساءل الناس عن التغيير الذي طرأ على الرجل.. فجعله يترك كل تاريخه خلفه ويصوب كنانته نحو خرطوم الإنقاذ.. وهو الذي أذاق الإنقاذيين مرّ الحديث حين كان ناطقاً باسم التجمع المعارض.. وقد تعجل البعض فدمغوه بالتهافت على موائد المؤتمر الوطني.. وآخرون اتهموه ببيع قضية الحريات والاصلاح السياسي في السودان بتحالفه مع حزب شمولي..وأنا أعرف الأستاذ شيلا منذ زمانٍ بعيد.. وحين عاد من القاهرة كنتُ لصيقاً به.. فرغم الجحود الذي عُومِل به داخل التجمع والضغوط التي واجهته من عدة جهات معارضة الا أنّه تأنّى كثيراً في إنضمامه لحزب المؤتمر الوطني.. وبرر لإنتقاله بقوله ( أعتقد أنّ المؤتمر الوطني تحوّل للأحسن.. لكن إذا عاد مرةً أخرى إلى ممارساته الأولى وفتح بيوت الأشباح فنحن لن نكون جزءاً منه). حينما جاءت الانقاذ صادرت مزرعته وعربته المرسيدس التي كانت حديث زمانها.. ورغم ذلك لم يحمل الحقد. لقد رحل شيلا عن هذه الدنيا التي لا يطمئنُّ لها إلا غافل.. رحل أحد رجال الوسطية السياسية التي كان ينتظر منهم الناس الكثير.. وقد كان متفائلاً حتى وهو في اشد حالات المرض.. اتصلت به في تايلاند فقال لي بكل تفاؤل (لما أجي السودان ح أعرس لصاحبك) ويقصد ابنه محمد.. وبجانب محمد له من الأبناء الأستاذ الإعلامي عمار، وإيهاب، بجانب ابنة وحيدة هي الدكتورة نفيسة. كان رجلاً إنسانياً بكل معاني الكلمة.. ودوداً ومتصالحاً مع نفسه.. لم يهمه كثيراً أن ينعته أعداؤه بشتى النعوت.. فقد كان مطمئناً لسلامة مواقفه.. ولحسن اختياره.. وبرحيله رحلت معه دنيا لطالما بَشَّر لها وتفاءل بقدومها.. دنيا تندثر فيها الخلافات.. وتعلو فيها مصالح الوطن على المصالح الشخصية والحزبية.. عاش محباً ومحبوباً.. ومات راضياً مرضياً. وداعاً أخي فتحي.. إنّه الموت الذي لا مفر منه.. حتى لأولئك الذين يظنون أنهم مُخلّدون.