٭ أعارني الصديق العزيز، علي أحمد دقاش، الكاتب بالصحيفة ومدير الشؤون المالية والبشرية بوزارة تنمية الموارد البشرية والعمل، كتاب (المختار من أدب الرافعي)، وأخشى أن ينطبق على كلينا القول المأثور (أحمقان: معير كتاب ومرجعه). ٭ كتب الرافعي مقالاته في مجلة (الرسالة)، تحت عنوان (وحي القلم).. وجمع ما كتبه من مقالات في كتاب، صدر منه جزءان في حياته وصدر الجزء الثالث بعد مماته، تحت إشراف تلميذه محمد سعيد العريان، وعكف صدر الدين شرف الدين، على (وحي القلم) في أجزائه الثلاثة، بطلب من الناشر قدري قلمجي صاحب دارالكاتب العربي، وانتخب (مختارات من أدب الرافعي). ٭ والاختيار والانتخاب ليسا سهلين، كما نتوقع، أن تختار لنفسك (يعني)، أما أن تختار للآخرين (مسؤولية)، ولابد من حيثيات ومعايير تستند عليها، حتى تؤتي عملية الانتخاب أُكلها. ٭ قال صدر الدين شرف الدين: إن مهنة الانتقاء في ذاتها أصعب مراساً من الابتكار الجديد، والانشاء البكر، فإن انتقاء الحب من الزوان والجيد من الردئ، عمل بعيد عن السهولة، فما بالك بتنخيل المنخل وتصفية المصفى. ٭ اختار شرف الدين من (وحي القلم) بأجزائه الثلاثة مجموعة من مقالات، وأنا (واستغفر الله من قولة أنا)، اخترت من المختار مقالة واحدة سأقدمها لقراء الصحيفة لاحقاً. ٭ وأرجو أن يغفر لي قارئ (الصحافة)، فإذا أحس صدر الدين شرف الدين، بثقل الأمانة وصعوبة المهمة، في (تنخيل المنخل وتصفية المصفى) فماذا أنا قائل؟ ٭ اخترت لقراء (الصحافة) من (وحي القلم)، مقالة بعنوان (صعاليك الصحافة).. نعم صعاليك الصحافة. ٭ عندما انتهيت من قراءة مقالة (صعاليك الصحافة)، أحسست بأن الرافعي، حي بيننا، يذهب إلى كشك الجرائد، كل صباح، ويتأبط مخرجات مطابعها من صحف، ويعكف على قراءتها، ثم يحمل عصاه، ويزور دور الصحف. ٭ فالحال يا هو نفس الحال.. (وفي جواي صدى الذكرى وجرحك يا غرام الروح لا طاب لا بدور يبرى) ٭ وكما تعلم أيها القارئ العزيز، أن الرافعي، في ابتداء أمره، كان ينزع إلى العمل في الصحافة (يومها كان متعلم ريّض ومتأدب ناشيء).. ٭ لكن أباه رده عن ذلك (بالواضح منعه).. وعندما شبّ الرافعي عن الطوق، حمد الله كثيراً أنه لم يصبح صحافياً، قال الرافعي: لو أنني نشأت صحافياً لكنت كبعض الحروف المكسورة في الطبع (في زمانه كانت الحروف تجمع وتصف في الطباعة). ٭ وفي رأي الرافعي، لا يقتل النبوغ شيء كالعمل في الصحافة، فإن أساس النبوغ (ما يجب كما يجب)، ودأبه العمل والتغلغل في أسرار الأشياء، وإخراج الثمرة الصغيرة من مثل الشجرة الكبيرة، بعمل طويل دقيق. أما الصحافة فأساسها (ما يمكن كما يمكن)، ودأبها السرعة والتصفح. ٭ ولولا أدب الرافعي الجم، وخلقه النبيل، لكان قال: (سلق بيض وخطف كلام وتمامته موية). ٭ كان الرافعي يرى في الصحافة شأناً عجيباً، فهي كلما تمت نقصت.. وكلما نقصت تمت!!، تتقيد بأوهام الجمهور، أكثر مما تتقيد بحقيقة نفسها، وهي مع القارئ كالزوجة التي لم تلد بعد، لها من رجلها من يأمرها ويجعلها في حكمه وهواه، وليس لها من أبنائها من تأمرهم وتجعلهم في طاعتها ورأيها وأدبها!! ٭ طاف الرافعي يوماً على دور الصحف، ولما فرغ من طوافه، جاءت هي تطوف به في نومه، فرأى ذات ليلة: (قوماً يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرضَ البقرةُ بلسانها)، رأى الصحافي الذي يكتب للصحافة، كما يقرأ القارئ على ضريح: بالرغيف والجبن والبيض والفلوس. ورأى رئيس التحرير الذي يرى أن نصف التمويه رذيلة (نصفه الآخر يدل على أنه تمويه).. وأن سمو الكتابة انخطاط فصيح!! ٭ ورأى أن كثيراً من كلام الصحف، لو مسخه الله شيئاً غير الحروف المطبعية، لطار كله ذباباً على وجوه القراء!! ٭ قال الجاحظ للرافعي: لو أني أصدرت صحيفة يومية، أسميتها (الأكاذيب)، فمهما أكذب على الناس فقد صدقت في الاسم، ومهما أخطئ فلن أخطئ في وضع النفاق تحت عنوانه. ٭ وهذا ما سأحاول أن أقدمه للقارئ من خلال انتخاب مقالة هي (خيار من خيار من خيار)، اسمها (صعاليك الصحافة).. فإلى حين.