«البتول كمال جا ! » أبوي صاح! تذكرت هذه الجملة التي جاءت على لسان كمال ود الصديق، وهو سائق «لواري سفرية» مشهور من قريتي « أزرق» بالجزيرة، وهو يحكي لنا قبل «20» عاماً في الرياض، قصة عودته أول مرة ليلاً للبلد، دون أن يخبر أسرته، وكانت الاتصالات وقتها عن طريق البريد أو المسافرين فقط، مما أحدث تلك الفرحة المدهشة لأبيه، وهو يشاهد «البكسي» الذي حمل ابنهم من المطار. وكانت فرحتي كبيرة ويحيى ابني يقود السيارة خارجا بنا من المطار، فالخرطوم تغيرت وعماراتها زادت ونظافتها انتشرت، وكانت تبدو لي كامرأة خمسينية، فارقت الشباب، لكنها تجتهد في أن تبقي شيئاً من الجاذبية في مظهرها، وكنت قديماً أقارن الخرطوم ب «الرباط» عاصمة المملكة المغربية الشقيقة، فالمغاربة لا يملكون بترولاً لكن عاصمتهم نظيفة، وتجمع بين العراقة والحداثة، فلماذا لا تكون عاصمتنا مثلها؟ لماذا نتعذر بالمال، ونعتقد أنه به فقط يكون الجمال؟ والآن الخرطوم غفت من نوم الضحى، وغسلت يديها وقدميها في النيلين، وانتشرت أو قل تناثرت فيها خضرة وزهور ونخل باسقات سيكون لها طلع نضيد إن شاء الله. وتركنا الخرطوم، وما فيها من حياة صاخبة بمقاييس الحياة في بلادنا، لنتجه للبلد، فهناك الجذور والموت والميلاد ومراتع الصبا، والدار والأهل الذين ماتوا بسلام و وروا الثرى، لكن أريجهم يبقى عابقاً، وأطيافهم تبقى حاضرة، وأرواحهم تظل مسامرة لأرواحنا التي تكدح في فجاج الأرض، وتساءلت في شجن: «كم من مغترب بائس في «أوكلاهوما»، وقبر أبيه في سهول كردفان؟ وكم من فتى في الشارقة فقد أعزاء في «ناوا» وكم من مهاجر في جازان ونجران وبلاد غامد وزهران، لم يشاهد أمه التى ماتت في الباوقة أو درديب أو كسلا أو طابت العقليين؟ في «أزرق» والتكينة، كانت أيامنا في إجازتنا، والدنيا عيد «عيد الأضحى المبارك» جاء الأفندية من الخرطوم، وحضر مغتربون من الخليج، وكان البحث عن الخروف هو الشغل الشاغل، كنت أتعجب فالناس «يشكون ويشترون»، يشكون الغلاء ويشترون الخرفان، وثياب الأبناء من البنات والصبيان، فالعيد هنا مقدس، ويجب أن تكون له فرحة وثياب وعطور وتقاليد توارثها الناس من قديم، فما استطاع الغلاء أن يقتلعها من حياتهم، إنهم يعيشون حياتهم كما يجب مهما كانت التضحية، قالها لي أحد الأقارب: «نحن تعودنا على أن نضحي للآخرين، بل إن حياتنا كلها من أجل الآخرين، نحن مجتمع سعادته في أن يسعد غيره، وفرحته في فرحة غيره، ليس فينا من يعشي «مريته» تصغير امرأته قبل الجار».