في الأفق ربما البعيد ثمة تقارب بين السودان وجارته الغربية تشاد، بيد أنه لا يعرف يقينا إن كان هناك تقارب استراتيجي أم مجرد تقارب تكتيكي ولحين، يريد به كل طرف من الطرفين تجاوز أزماته الداخلية المستعصية. التقارب بدأ منذ ثلاث سنوات بوقف حالة الحرب، ثم توقيع اتفاق أمني مشترك مازال صامدا على غير عادة الاتفاقيات بين البلدين، وأخيراً حديث عن تعاون اقتصادي يشمل تصدير نفط تشاد عبر أنبوب يمر عبر أراضي السودان من غربه إلى أقصى شرقه، حيث موانئه على البحر الأحمر. إن كان بالفعل لدى قيادة البلدين نية لخلق علاقة استراتيجية بينهما، فإن الشروط السياسية والاقتصادية وحتى التاريخية متوفرة وحاضرة، ولكن كانت تعوزها الإرادة والفعل.. وتاريخ العلاقة بين الخرطوم وإنجمينا المثقل بالاضطرب والمواجهة، سببه الأنظمة السياسية المتعاقبة في كلا البلدين، بيد أنه في الوقت نفسه لا يمكن بأي حال إغفال الآثار السالبة للتركة الاستعمارية الثقيلة التي كافحت بضراوة كل المشتركات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. لقد وقف الاستعمار بآثاره الباقية ومحاولاته المستمرة حجر عثرة في وجه محاولات الإصلاح والتعاون بين القطرين.. وفي العهد القريب مارس الطرفان سياسة عض الأصابع، ومعلوم أن في هذه السياسة أن مَنْ يتألم أولاً سيتراجع.. السودان كانت قضية إقليم دارفور المجاور بل المتداخل تماماً مع تشاد نقطة ضعفه وأصابعه التي تعضها تشاد بقوة، أما تشاد فقد عانت من هشاشة نظامها السياسي القائم على قبلية متجذرة. ولذا كان النظام في الخرطوم يعض أصابع إنجمينا عبر محاولات جادة لإسقاط نظام الرئيس الحالي إدريس ديبّي، حتى إنه في فبراير 2008م كانت العاصمة التشادية إنجمينا قاب قوسين أو أدنى من السقوط في أيدي المتمردين المدعومين من الخرطوم، ووصل بهم الأمر أن هددوا باقتحام القصر الرئاسي الذي كان يتحصن فيه ديبّي، إلا قوة فرنسية تدخلت في اللحظات الأخيرة وأجلت المتمردين عن العاصمة، واستجمع ديبّي أنفاسه ومن ثمّ دحروا تماماً خلال أسابيع تالية. بعد تلك «المغامرة» سعى السودان ضمن دول أخرى لتقديم مساهمة تصب في جهود إرساء الاستقرار في تشاد، فقد وقعت حكومة ديبي والحركة الوطنية المعارضة اتفاق مصالحة ووقف لإطلاق النار بين الطرفين بحضور أمين منظمة تجمع الساحل والصحراء الإفريقية وسفراء السودان وقطر وفرنسا وممثل الاتحاد الأوروبي في ليبيا، وربما أدرك السودان أنه ليست له مصلحة في استمرار التوتر في تشاد، لأن ذلك سينعكس بصورة أو أخرى على أمنه واستقراره. العلاقات عبر التاريخ وعبر تاريخ البلدين كانت العلاقات توثق عراها العوامل الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، فعناصر المقارنة بين التركيبة الاجتماعية والثقافية في كلا البلدين شاخصة وواضحة ومتعددة الأوجه، ومن ينكرها يغدو كمن يحاول إزاحة الشمس من أديم السماء. وعبر التاريخ شهدت الأجزاء الشمالية في كلا البلدين قيام دول إسلامية تأثرت تأثراً قوياً بهجرات القبائل العربية التي انداحت من الشمال والشرق، ووجدت في أراضي السودان وتشاد امتداداً طبيعياً لحياة العرب البدو، لا سيما البيئة الصحراوية القريبة إلى أنفسهم. وكان لكثافة تدافع الهجرات العربية، أن غدت العربية والإسلام مقومين أصيلين من مقومات المجتمع الواحد في تلك المنطقة، والذي انقسم فيما بعد بفعل الهجمة الاستعمارية بين السودان وتشاد. وقد كان حكام تلك الدويلات الإسلامية ينتسبون إلى أصول عربية، ويحكمون بشريعة الإسلام، ويتخذون العربية لغة في دواوينهم ومعاملاتهم. وجراء ذلك أصبحت العربية اللغة المشتركة لجميع السكان رغم وجود جماعات عديدة غير عربية ظلت تحتفظ بلهجاتها. وقد قامت أول مملكة عربية إسلامية في تشاد في القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي، وهي مملكة كانم شمال شرق بحيرة تشاد، ثم اتَّسع نفوذها في القرن التاسع الميلادي حتى شمل منطقة السودان الأوسط بأكملها. وقد كانت اللغة العربية هي لغة المملكة والممالك التشادية الأخرى في حوض بحيرة تشاد مثل مملكة برنو ومملكة باقرمي، وكذلك مملكة عويضي التي قامت في القرن السادس عشر الميلادي، وظلت حتى وصول الاستعمار الفرنسي لتشاد في مطلع القرن العشرين. ولذلك فإن اللغة العربية منتشرة بين سكان تشاد حتى بين غير العرب، والبالغ عددهم سبعة ملايين نسمة بنسبة 90%، وينتشر الإسلام بنسبة 85%. لذلك كله عمد الاستعمار الفرنسي لتشاد إلى طمس التراث العربي والكتب التي ألفتها القيادات الدينية في مملكة وداي التشادية على وجه الخصوص. وذلك في إطار سياسة منهجية تهدف إلى عدم إبراز أي أنموذج للقيادات والجماعات العربية والإسلامية التي لعبت أدواراً اجتماعية وسياسية. الاضطراب السياسي سمة البلدين ولم تشهد تشاد منذ استقلالها في أواخر الستينيات، مثلها مثل السودان الذي استقل قبلها بقليل، إلا تاريخاً مضطربا وقلقاً.. وكان للسودان بحكم جواره وتداخله مع تشاد حظه من ذاك الاضطراب، حيث تدفق السلاح إلى السودان بسبب الحرب الأهلية في تشاد، وبسبب توفر السلاح تطورت نزاعات الكلأ والمرعى عبر التاريخ من نزاعات بالأسلحة البيضاء إلى نزاعات تستخدم فيها الأسلحة النارية، فتصاعدت آثار النهب المسلح وتعطل النشاط الاقتصادي ولم تسلم دارفور قاطبةً من تعقيدات تشاد السياسية، فكانت أزمة دارفور التي مازالت تشغل العالم بعد عشر سنوات من اندلاعها. ويشير تاريخ الأنظمة السياسية في تشاد إلى أنه في عام 1969م أدى تنصيب الرئيس نغارتا تومبالباي المسيحي الديانة إلى استياء الأغلبية المسلمة في تشاد، وتحول ذلك الاستياء إلى حرب عصابات، وفي عام 1975م، قتل تومبالباي في انقلاب عسكري، قاده مسيحي آخر هو فيليكس ملوم، وكذلك أخفق ملوم، في إنهاء الحرب الأهلية. وبعد أربع سنوات من وصوله إلى الحكم، حل محله جكوني وداي «مسلم».. لكن الحرب لم تنته، بل تغيرت أطرافها، وقاد حسين حبري «مسلم» وهو وزير دفاع أسبق المعارضة المسلحة بدعم من فرنسا، وتمكن من الاستيلاء على العاصمة إنجمينا في عام 1982م، لكنه فرَّ بعد فترة إلى الشمال، حيث أقام حكومة منافسة، وظل الوضع على ما هو عليه، إلى أن قاد إدريس ديبّي الرئيس الحالي تمرداً على حسين حبري في عام 1990م، وليس سراً أن ديبّي وصل إلى الحكم في 1990م بدعم من الحكومة السودانية حين كانت في عنفوانها العروبي والإسلامي، بعد ذلك شهدت تشاد استقراراً نسبياٍ بدعم وجهود سودانية. ومعلوم أيضاً أن الرئيسين السابقين لتشاد جوكوني عويدي 1978م وحسين هبري 1982 وصلا إلى السلطة بدعم سوداني في عهد الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، وهذا ما يؤكد الارتباط الوثيق بين البلدين.. وينتمي الرئيس ديبّي لقبيلة الزغاوة التي ينتشر أفرادها بين السودان وتشاد، ومثلت هذه القبيلة مثلت الثقل الأساسي لحركات دارفور المتمردة. لكن الاستقرار الذي ظهر مع حكومة ديبّي لم يدم طويلاً، ففي عام 1998 اندلعت حركة تمرد في شمال البلاد تحت قيادة وزير الدفاع السابق في حكومة ديبّي، يوسف توغويمي أخفق اتفاق سلام توسطت فيه ليبيا عام 2002م في إنهائها. والشاهد أن انسياب التأثير السالب للأزمة في تشاد تواصل على السودان، وبدافع ورغبة غربية اندلعت أزمة دارفور.. ودعم ديبّي حركات دارفور المسلحة خاصة حركة العدل والمساواة المنتمية إلى قبيلته الزغاوة حتى عام 2009م، حيث وقعت الخرطوم معه اتفاقاً نص على نشر قوات مشتركة للبلدين على حدودهما. حظوظ التعاون الاستراتيجي لقد مكن الاتفاق الأمني الأخير بين البلدين الخرطوم من كسر شوكة حركات تمرد دارفور التي وجدت دعماً لوجستياً كبيراً من إنجمينا، فضلاً عن عامل آخر مهم وهو سقوط نظام القذاقي في ليبيا الذي احتضن تلك الحركات ومدها بالسلاح والدعم المالي الوفير. ويشار إلى أن الرئيس ديبّي تزوج قبل عام من كريمة زعيم قبلية المحاميد السودانية العربية موسى هلال الذي عرف بأنه زعيم مليشيا الجنجويد، وهو أحد المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية. واليوم يخطو البلدان خطوة جديدة تعد استراتيجية تجاه بعضهما بعد نجاح الاتفاق الأمني واستقرار الحدود بين البلدين بفضل القوات المشتركة. في فبراير الحالي زار ديبّي الخرطوم، وشهد مع نظيره السوداني عمر البشير توقيع اتفاقية للاستفادة من موانئ السودان في تصدير النفط التشادي عبر الأراضي السودانية، وتشاد دولة مغلقة ليست لديها موانئ بحرية، وقد وصف عدد من خبراء النفط والاقتصاد الاتفاق بأنه نقلة حقيقية في الاستثمار في مجال البنيات التحتية. وتصدير تشاد لنفطها عبر السودان سيحقق نتائج إيجابية ليست على المستوى الاقتصادي، بل على المستوى السياسي مع دول الجوار، وربما يشجع بعض دول الجوار للدخول في مثل هذه الشراكات، وللسودان أنبوب نفطي هو الأطول من نوعه في إفريقيا والشرق الأوسط، وهو السبيل الوحيد لتصدير نفط دولة الجنوب في الوقت الحاضر، ولذا ربما يقلل ذلك تكاليف إنشاء خط فرعي مكمل لتصدير النفط التشادي. والسفير السوداني لدى تشاد عبد الله الشيخ قال: «إن الاتفاق النفطي بين البلدين يقضي بتصدير النفط المنتج بشرق تشاد عبر الموانئ السودانية، وكذلك التعاون في مجال الاستكشاف والإنتاج النفطي وتنمية الكوادر في مجال صناعة النفط وقيام شركة سودانية تشادية للعمل في المشروعات النفطية وتطوير خدمات الحقول». وقد سبق ذلك أن طرحت تشاد مشروع مصفاة وخطين لأنابيب البترول ومحطة الكهرباء، وفاز بالعطاء رجل الأعمال السوداني محمد عبد الله جار النبي بتكلفة «34» مليون دولار، وقد اكتمل تشييد الخط في حين لم يبدأ العمل في المصفاة ومحطة الكهرباء. فضلاً عن مشروع تصدير النفط التشادي، فهناك مشروعات للربط بين البلدين، متمثلة في مشروع السكة الحديد الذي عهد به إلى شركات صينية، والطريق القاري حيث التزم الجانب السوداني بإيصال الطريق إلى مدينة الجنينة الحدودية، فيما وافقت دولة قطر على تمويل الطريق بين مدينتي أبشي التشادية والجنينة السودانية. يذكر أن الاستكشاف الفعلي للنفط في تشاد بدأ في عام 1998م، فيما بدأ التصدير في عام 2003م، وعرض البنك الدولي إمكانية تمويل مشروع خط أنابيب عبر دولة الكاميرون المجاورة وفق شروطه، بطول «1070» كيلومتراً من حوض دوبا إلى ميناء كريبى الكاميرونى عند خليج غينيا على المحيط الأطلسي. وتصدر تشاد نفطها بشكل أساسي إلى الولاياتالمتحدةوفرنسا وألمانيا، ويقدر احتياطيها بمليار طن من النفط، وبحسب التقديرات الاقتصادية فإن تصدير النفط يدر سنوياً ما يقارب «20%» من مجمل العائدات لصالح الكاميرون. السؤال ما الدواعي الاقتصادية والاستراتيجية لتصدير النفط التشادي عبر السودان، سواء أكان ذلك بديلاً للكاميرون أو رديفاً لها؟ وهل تسمح الولاياتالمتحدة الأميركية التي تضع الخرطوم في قائمة الدول الراعية للإرهاب وتفرض عليه عقوبات اقتصادية، بمثل هذا التعاون الاستراتيجي بين تشاد والسودان الذي يشمل سلعة النفط وهي أهم مستورديه؟!