كنت أتابع حلقة في التراث الشعبي لقبيلة الزيادية، بالاذاعة السودانية (اف ام 001) ولعل تلك الحلقة خصصت لتوصيف ظاهرة الزواج في القبيلة في سياقاتها التقليدية. في احدى الفقرات كانت الاغنية تمتدح العريس وتصفه انه (الصندل ما دَروت)، ذلك ان الدروت مثل الصندل، طيب الرائحة، وهي من شجرة تنبت محلياً في غرب السودان خاصة دارفور، وهي معروفة لدى نساء القبائل الراحلة، ولكنها ليست بنفاذ رائحة الصندل المستورد من بلاد الهند. لقد راقت لي الأغنية واخواتها، وقد أعدنني الى أيام الاعياد والمناسبات عندما تجتمع القبائل على أطراف المدن بتراثها الغنائي الموسيقي، وهي تطرب وتشارك الآخرين الطرب. لعل ذلك ما جعل امكانية ادماج نفسي في الحلقة، خاصة ان ضمن فقراتها، أغنية (العديل والزين)، وهي الاغنية التي توضع على كلماتها وأنغامها الحنة في اطراف العريس، فضلا عن انها اغنية مشهورة في اوساط السودان المختلفة، ولكن لكل مجموعة ثقافية حق تعزيز معانيها بقيم محلية. (2) في أجواء تلك الحلقة، عادت بي الذاكرة ايضا الى احتفاليات شركة زين بفعاليات جوائز المبدع الراحل الطيب صالح، واختيار محجوب محمد صالح، أحد أبرز الصحفيين السودانيين شخصية للعام. لقد كانت سعادتي بالاختيار تعزيزا ليقين قديم موروث بقيمة المحتفى به مهنياً، ولدى سماعي أغنية الزيادية ورد قوياً بخاطري وفي سياق مهني، ان محجوب صندل مهنة الصحافة، ذلك ان الصندل ينفذ على اتساع اكبر كلما احترق اكثر. (3) معلوم لدى القراء أن زين كشركة تحقق الارباح، وتقدم الخدمات، جاء تأسيسها ضمن تداعيات سياسات تسعينيات القرن الماضي، عندما اتجهت الدولة الى تحويل ادارة التنمية الى الولايات، وادارة الاستثمار الى القطاع الخاص، وتلك سياسات بحاجة الى مراجعات حقيقية. لعل من بين أبرز مظاهر المراجعة، اقرار مبدأ تقاسم الثروة التي وردت في كل اتفاقات السلام في العقد الاول من الالفية الجديدة. على أن شركة زين قد استطاعت ان تربط نفسها بالمواطنين من خلال قيم مشتركة تعزز بها حسن قراءتها لمبدأ تقاسم الثروة. لقد استطاعت الشركة أن تقوم بتدخلات انسانية خدمية واسعة في كل انحاء البلاد، ومن ضمن تلك التدخلات ترفيع الاهتمام الوطني بالقيم الثقافية وذلك من خلال مشاركاتها مع الروابط والاتحادات الثقافية تحت مظلة الرعاية، او تبني مشروعات ثقافية تعيد للبلاد حقها في المبادرة، كما هو الحال في الجائزة العالمية التي تم تخصيصها باسم المبدع الراحل الطيب صالح، والتي من ضمن فقراتها، تكريم محجوب محمد صالح كصحفي محترف، رفع من شأن الصحافة السودانية، وأدرك قيمة ارتباطاتها بالديمقراطية والتنوع وحرية الرأي. (4) عرفت محجوب محمد صالح مبكراً، من خلال كتابه (الصحافة السودانية في نصف قرن) أحد المراجع السودانية النادرة، لطلاب كلية الآداب بجامعة ام درمان الاسلامية، في سنوات ما بعد اكتوبر 4691م حيث ان المناهج لم تعد ولم تدرس على أيدي سودانيين. كان استاذنا في الصحافة والاعلام د.عبد اللطيف حمزة، معلما باهر التجربة، برغم تقدمه في السن، فقد كان هو من أسس كلية الاعلام بجامعة القاهرة الأم، ثم انتقل الى تأسيس كلية الاعلام بجامعة بغداد، وكانت محطته الثالثة بجامعة ام درمان الاسلامية حيث بدأ في تأسيس شعبة الاعلام وتدريس المادة لطلاب الاساس في الآداب. من ناحية أخرى كان د.طه ربيع استاذ الاعلام والدعاية ينطلق في تدريسه المادة من رغبة غير خافية لتعميق الوعي بالتجربة الاعلامية المصرية خاصة في عهد الرئيس عبد الناصر، وقد علمت فيما بعد انهما من أسرة ممتدة واحدة. كان زملائي في مدرج الآداب، لا يقبلون الاطروحات دون مناقشات جادة، فبينما قادت تلك المناقشات د.عبد اللطيف الى نقد تجربة الاعلام المصري ما قبل وما بعد حرب حزيران 7691م انتقد د.طه فيما بعد سياسات الانفتاح الاعلامي التي تبناها السادات متراجعا عن سياسات سلفه، وفي كل الاحوال كنت اسائل نفسي: ذلك حسن ولكن أين التجربة الاعلامية السودانية، التي قرأت بعض بداياتها في كتاب (ذكرياتي في البادية) للراحل حسن نجيلة في المرحلة الثانوية. في الواقع كان كتاب محجوب مجديا بيننا، برغم عدم تداوله على نطاق واسع، الا انني ظللت انظر اليه كتجربة انطلاق لجيلنا من المهتمين بالاعلام في كلية الآداب. (5) سرعان ما غادرنا مقاعد الدرس الى العمل بوزارة (الاعلام والثقافة) يومئذ، وكان الوكيل يومها ب.علي شمو كان في ذات همته الراهنة. لقد تفرقت بنا السبل في ادارات الوزارة المختلفة، على أني كنت ضمن آخرين وقع علينا الاختيار لتأسيس مصلحة الثقافة تحت ادارة الفنان التشكيلي المتميز ابراهيم الصلحي. لقد كانت بالنسبة لي تجربة مزدوجة، فبينما كنا نبحث في وسائل تعريف ماهية الثقافة على قاعدة التنوع كأول محاولة في الادارات الحكومية، بعد الاعتراف بالتنوع الثقافي في اتفاقية أديس ابابا 2791م. من الناحية الاخرى كانت اتجاهات الاعلام ايضاً متغيرة، وقد أطلق شمو أيامئذ على تلك المرحلة، عهد الترانسستور، اذ يستطيع اهل الريف التواصل مع العالم من خلال جهاز صغير يحمله احدهم بين يديه. إن العقد الذي عاشته تجربة الاعلام الثقافي في السودان، بعد الاتفاقية بحاجة ماسة الى اعادة قراءة عميقة، ومداولات، على أن الصحفي والمهني المحترف الذي بوسعه تلخيص تلك التجربة دون منازع، هو محجوب. لقد استطاع عبر التجربة ان يتجاوز أي احتمالات سالبة يمكن ان تعيق مسيرته الاستكشافية صحفياً في المحيط السوداني. (6) إن تجربة محجوب بحاجة الى كتاب، ولعله كتاب تحت الاعداد على نحو ما، ولكن عندما بدأ تجربته الأولى، كان مسيطراً عليها الوضع في جنوب السودان. لقد ظل يذكر كيف ان الاحوال كانت هادئة مع بداية تقرير المصير للسودان، وانه لم يكن هناك مؤشر لاضطراب، لذا عندما اندلع النزاع في الجنوب، كان ذلك موضع اهتمام شخصي على الصعيد المهني. هكذا عندما اتخذ الجنوب قراره بالاستقلال، عمل محجوب متسارعاً ومع آخرين الى تكوين جمعية صداقة مع شعب الدولة الجديدة. كذلك كثيرا ما كان يستدعي تلك الحال عندما انفجرت الاوضاع في دارفور 2003 وكثيرا ما دخلنا في جدل مشترك حول اتجاهات الحل لازمة دارفور. كان ينطلق في حواراته ان ابناء دارفور لن يتفقوا حتى اذا ما تنازل لهم المركز الاتحادي عن حقوق في السلطة والثروة، وفي المقابل كنت اتضامن مع الرأي القائل، المعضلة تكمن في تراكم السياسات المركزية على دارفور، فاذا ما تم تجاوز للحالة المركزية ، فان لأهل دارفور من العبقرية التاريخية الثقافية ما يساعدهم على لم شملهم، والاتجاه بقدراتهم الى البناء، وقد توفرت لهم فرص قيادة ناضجة. ان الجدل بين النظريتين لم يكتمل، بيد انه ما من سانحة يجدها محجوب الا واغتنمها للمساهمة في دفع الجهود نحو حل ازمة دارفور، ودعا الناس اليها ، ما قام ويقوم به محجوب من جهود في دعم العملية السلمية لدارفور من خلال صحيفة الايام، ادت الى اغلاق الصحيفة اداريا لأكثر من ثلاثة اشهر، وعندما عادت للصدور مجددا في ظروف مالية متدهورة لم يوقف محجوب مسيرتها في دعم العملية السلمية لدارفور وكل السودان، وذلك بزيادة الوعي بأهمية تقاسم السلطة والثروة كمدخل لتجاوز الغبائن التاريخية، على ان تلك الجهود ارهقت معه اصدقاءه ومواطنيه وقد افقدته بعضهم او كاد. (7) واليوم قد وصلت الازمة السودانية مرحلة التنادي بضرورة التطبيع مع الآخر الوطني على قاعدة التراضي، وذلك من خلال مراجعات سياسية تصل بالبلاد الى تسوية تاريخية بمساهمات المجتمع المدني، انه لا مناص من مأسسة تلك الجهود دستوريا، بما يخدم الحريات والحقوق الديمقراطية، واللامركزية الفيدرالية والتنمية بشقيها الثقافي والاقتصادي. في هذا الصعيد ظل محجوب ضمن مجموعته المهنية المتفرعة ، يدعو الى توفير ضمانات للبناء الدستوري بالحوار من خلال الورش والملتقيات والمؤتمرات وقد ساهم في تأسيس مركز الايام الذي يخدم صناعة الدستور على نحو يتسق مع واقع التنوع في السودان. (8) لقد احسنت شركة زين، في اختيار وتدشين محجوب شخصية للعام، فالى جانب انجازاته النوعية ، من ذات القيمة المؤسسية، التي يشارك فيها بخبرته وشخصه دون كلل، فإنه من الناحية الاخرى شخصية معتدلة مهنيا وانسانيا، لعلي اذكر في السياق وكنت اكتب للأيام مقالا اسبوعيا بعد انتفاضة 1985م، وكان محجوب رئيس تحريرها، في يوم اعددت مقالي الاسبوعي وما كنت ادري اني كنت متوترا، عندما اطلع على المقال لم يزد ان قال لي (المقال دا مابشبه اسلوبك، كدي ما تقراه تاني)..! واعاد لي المقال. وبالفعل عندما اعدت قراءة المقال، اعترفت لمحجوب بالاستاذية، وتعلمت ان الصحفي عندما يكتب تحت تأثير التوتر، او الغضب، او الاغراء، او التهديد، فإن المنتج كيفما تم ، لن يرقى الى مستوى المهنية او الاحتراف، وبذلك فإن الفرصة ما تزال امام اجيال الصحفيين الصاعدة ان تتعلم من محجوب وجيله الكثير النافع..