عندما تخرج من مدينة كسلا وتبدأ ملامح عروس القاش في التلاشي ويخلو ذهنك من صورة المدينة الزاهية التي رسمها الشعراء والمغنون عن توتيل ودرة الشرق.. تحس بلفحات من موجات الحر التي تلسع وجهك.. إلا انك لا تهتم كثيراً بذلك، فأنت في احدى ولايات السودان والكل متعود على سخونة الاجواء.. وتشعر بأنك غير مرتاح ولا تدري كنه ذلك.. بيد ان حديثاً هامساً من احد رجال الشرطة في الطريق الى محلية تلكوك عن ضرورة توخي الحذر وعدم الخروج كثيراً عن جادة الطريق بسبب الالغام.. ويجعلك ذلك الحديث تفغر فاهك وتتحسس اقدامك بصورة غريزية دونما تفكير.. وهنا تبدأ حواسك بالتحرك وتعتصر قلبك وعقلك الهواجس والخوف من المجهول.. وتتساءل عن المصير ومعنى العيش بأقدام مبتورة.. وفي كل قرية تمر بها تتساءل كيف يعيش الناس مع تلك الألغام، فيخبرك الناس انه قدرهم ومصيرهم الابدي، وليست هناك حماية يمكن ان تتوفر لهم، وذات الأمر يتكرر في محلية عقيق بولاية البحر الاحمر التي كانت مسرحاً للعمليات العسكرية قبل توقيع اتفاقية سلام الشرق، وفي محلية وقر يبدو الامر كذلك.. اذ تشوب الاجواء لفحات الخطر التي تنذر بكوارث الالغام. دماء ودموع مع وجود آلاف الالغام وعدم توفر خرائط لها يصبح السير في طرقات الشرق محفوفاً بالمخاطر.. ويحكي السكان المحليون عن خطر الالغام المتحركة التي تظهرها مياه الأمطار والسيول عندما تبدأ في الجريان.. وعندها يصبح الخطر في كل مكان.. والويل كل الويل للافواه العطشى لجرعة ماء.. فتصبح المخاطرة على ميزان الحياة.. الموت عطشا او تحمل المخاطرة بقدم مبتورة او جسد متشظٍ.. والعديد منهم واجهوا ذلك الخيار.. واكثر منهم من تسمع قصته لسبب بسيط انه لم يعد حياً ليرويها للناس. وما بين وفاة المواطنة آمنة عمر همت عام 2000م بقرورة بسبب انفجار لغم وموت الشاب فرج ادريس ابراهيم في الثاني والعشرين من شهر مارس من هذا العام بقرية مرمر بضواحي عيتربا، جرت دماء وسالت دموع بمحلية عقيق بجنوبطوكر حزناً وألماً على ضحايا الألغام التي أبرمت تحالفاً مع الفقر والمرض المتفشيين في المنطقة مهمته حصد أرواح المواطنين وترويع أمنهم ومصادرة الابتسامة من وجوههم التي أتعبها رهق الحياة، وسكان عقيق ومآسي الالغام قصة لا تنتهي، فما ان يقوموا بمواراة احد ضحايا الالغام الثرى الا وعاجلهم لغم آخر مصادراً حياة شاب او مواطن، لتتحول حياتهم الى كابوس لا ينتهي، ولعل أكثر القصص إيلاماً تلك التي وقعت بقرية عريريب بقرورة التي شهدت وفاة اسرة الفقيد محمد نور موسى في حادث مأساوي إثر انفجار العربة التي تقلهم بلغم، ليدفعوا ثمن حرب توقفت قبل سبع سنوات الا ان آثارها مازالت شاخصة، وكذلك فجعت عقيق برحيل القيادي بالمؤتمر الوطني محمود محمد ادريس والقياديين الشيخ سالم محمد علي ومختار حمزه، وقائمة الضحايا تطول ما بين فقيد ومصاب، ويقول ممثل المنطقة بتشريعي البحر الاحمر حامد ادريس إن الالغام باتت من اكثر المخاطر التي تهدد حياة المواطنين، معتبراً ان حصر الضحايا امر بالغ الصعوبة لعدم وجود جهة حكومية تقوم بهذا الدور، لافتاً الى ان مسلسل حصد الالغام للارواح بعقيق لم يتوقف منذ عام 1998م، وان الجهود المبذولة من قبل الدولة لا ترقى لمستوى الخطورة التي تحدق بالمواطنين الذين كشف عن تأثرهم سلباً بالالغام في معاشهم وتحركهم، وزاد قائلاً: كل شيء توقف، الزراعة، التجارة والتنمية، وحتي المنظمة التي ارادت ازالة الالغام تردد ان الدولة قامت بطردها، وعندما نذهب الى الجهات المسؤولة عن ازالة الالغام تفيدنا بعدم امتلاكها الامكانيات التي تتيح لها اداء عملها. ويؤكد لنا مواطن التقيناه بتلكوك ويدعى حامد أوهاج، انه لن ينسى تفاصيل وفاة ابنه الاكبر، ويشير إلى أن ابنه كان يرعى الماشية في شرق المحلية، وكان يذهب صباحاً بالماشية ويعود قبل غروب الشمس، ولانه في التاسعة عشرة من عمره لم يكن يخشى عليه كثيراً، فهو قد خبر دروب المنطقة خاصة تلك المزروعة بالالغام منذ ايام الحرب اللعينة، ويصمت الرجل الستيني برهة وهو يجتهد لكفكة دموعه والحيلولة دون نزولها، ويردف قائلاً: في احد ايام الصيف من عام 2010م عند الساعة الثانية ظهراً دخل علينا في المنزل دون استئذان احد زملائه في مهنة الرعي وأنفاسه تتقطع وتلعثم وهو يتحدث الينا، وكل ما فهمته ان ابني احمد اصيب بلغم، ودون ان اشعر تحركت بسرعة الى الموقع الذي كان يبعد كيلومتراً عن قريتنا، ووجدت عدداً من الاغنام على الارض ووسطها وجدت ابني وهو مضمخ بالدماء الا ان روحه كانت قد صعدت الى بارئها، ورغم الحزن الذي اعتراني لحظتها، إلا أنني تماسكت، وقمنا بنقل جثمانة الى القرية ومواراته الثرى ومن يومها تخلصت من الماشية. جهود ولكن تعتبر ولايات شرق السودان الثلاث «كسلا، البحر الأحمر والقضارف» من الولايات الأكثر تضرراً بالألغام الأرضية، حيث تقدر مساحتها ب «323.965» كيلو متراً مربعاً، والمساحة المتأثرة منها بالألغام بلغت «70.800» كيلومتر مربع حسب المسح الأول الذي تم بهذه الولايات، ويقدر عدد ضحايا الألغام بالولايات الثلاث ب «750» مواطناً، وعدد المستهدفين منهم بالتأهيل ودمجهم في المجتمع يقدر ب «500» معاق، ورغم مضي سبع سنوات علي توقف الحرب بالجبهة الشرقية الا أن عمليات إزالة الألغام بولايات شرق السودان الثلاث مازالت تتواصل، خاصة في ولاية كسلا التي اكتسبت أهمية كبرى في خريطة العمل الإنساني في عدد من مناطقها، لأنها كانت مسرحاً للقتال بين القوات الحكومية والحركة الشعبية والمعارضة، فشكلت بدورها هاجساً للإنسان وعائقاً أساسياً لعمليات التنمية، ورغم الجهود الكبيرة المبذولة فى ولاية كسلا، إلا أنه مازال ينتظرها الكثير حتى يتم تحقيق إعلان الولاية خالية من الألغام بحلول عام 2014م، وبولاية كسلا التي تضرر عدد من محلياتها بالالغام تبدو الصورة واضحة خاصة في ما يتعلق بازالتها وارقام ضحاياها، ففي الفترة من 2006م وحتى 2011م بلغ عدد الذين قضوا نحبهم بسبب الالغام «118» مواطناً، فيما تعرض للاعاقة «355»، وخلال هذه الفترة تم بحسب تقارير لمنظمة ماك تفجير وجمع «5585» لغم وذخائر حربية ابرزها تلك المضادة للبشر والآليات والقنابل الانشطارية، وتتمدد حقول الالغام بكسلا في مساحة تقدر ب «15» مليون متر مربع، والمساحة التي تم مسحها ونظافتها حتي العام الماضي تقدر بثلاثة ملايين متر مربع، وتم إعلان عدد من المناطق خالية من حقول الالغام مثل دمن، وتعتبر شريحة الرعاة هي الاكثر تضرراً، حيث قضى أكثر من اربعين منهم نحبهم بسبب انفجار الالغام التي قضت ايضا علي اعداد مقدرة من الماشية، ويعاني السكان المحليون بتلكوك وهمشكوريب في فصل الخريف من كل عام تزايد مخاطر الالغام التي تجرفها المياه خاصة في الاودية والخيران وتتسبب في موت الكثير من المواطنين، وتعتبر المناطق المتاخمة لإريتريا هي الأكثر خطورة لوجود حقول الغام لم تتم ازلتها بعد. ضعف إمكانات: ويعود السبب لتأخر العمل في ازالة الالغام بالشرق الى قلة الفرق العاملة وضعف الدعم المقدم لعمليات الإزالة في شرق السودان، وقاد خروج الفرق الأجنبية التي كانت تعمل في ازالة الالغام إلى الاعتماد على فرق الوحدات الوطنية التي تم تأسيسها في عام 2010م في إزالة الألغام بالمناطق المتأثرة بشرق السودان، وهي تبدو في حاجة ماسة للدعم المادي المناسب، بالإضافة إلى توفير فرق للاستجابة السريعة لتقصى الحقائق وفرق مسح فنية تعمل على تقليل المساحات المزروعة بالألغام، ويواجه فرق الازالة الكثير من التحديات التي تتمثل في أن غالبية الحقول تحوى ألغاماً مزدوجة، وهذا يؤثر بدوره في الكاسحة، إلى جانب كثافة الأشجار الشوكية والحشائش وقلة المعلومات عن الحقول وعدم الدقة في مكان وجودها، وفي بداية هذا العام اعلن المركز القومي لإزالة الألغام عن إرسال فرق وطنية تتكون من سبع مجموعات بكامل آلياتها للبدء في إزالة الألغام بولاية كسلا، بعد أن التزمت وزارة المالية الاتحادية بما يليها من تمويل، وقال مدير المشروعات بالمركز القومي لإزالة الألغام ماهر إبراهيم إن إرسال الفرق المشار إليها يأتي إنفاذاً لخطة المركز التي تستهدف ولايات جنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، مبينا أن الخطة تتم لأول مرة بكوادر سودانية، وأكد أن مكتب الأممالمتحدة قام بتوفير التمويل للفرق، مبيناً أن وزارة المالية التزمت بمواصلة التمويل، وذلك تمهيداً لإعلان شرق السودان خالياً من الألغام بحلول عام 2014م، بينما أكد المقدم أمير إبراهيم سعيد مدير إدارة المشروعات بالمركز القومي لمكافحة الألغام أن المركز يسعى سعياً حثيثاً لإعلان منطقة طوقان بولاية كسلا خالية من الألغام، والمناطق الخطرة بالولاية هي طوقان بمحلية تلكوك، رساي بهمشكوريب وحمدايت بخشم القربة، وقال إن مجموع المناطق الثلاث يمثل 95% من المساحة المتأثرة بالألغام بالولاية كسلا. تأثير: وبخلاف تسببها في مقتل الكثير من السكان المحليين والحاق الاضرار بماشيتهم، فإن هناك آثاراً أخرى ترتبت على وجود حقول ألغام بولاية كسلا، أبرزها تعطل عجلة الاستثمار خاصة في المناطق التي تزخر بثروات معدنية، وطالت التأثيرات الزراعة التي هجرها المواطنون خاصة في المناطق التي تشتهر بوجود حقول ألغام، وكان معتمد تلكوك محمد طاهر بيتاي قد كشف عن إرجاء شركات تنقيب بحثها عن الذهب بمنطقة طوقان وتأجيل إنشاء مصنع أسمنت بالمحلية، بسبب وجود ألغام في المنطقة، مما أثر سلباً في حجم موارد المحلية التي تزخر بالكثير من الموارد الطبيعية من بين محليات ولاية كسلا. ورغم أن الحرب قد انتهت في شرق السودان قبل حوالى سبع سنوات، إلا أن ظلالها مازالت ماثلة في أعداد الضحايا وخشية الناس من التحرك.. وتنظيف الأرض من الألغام يتطلب العمل ببطء.. ومع ذلك البطء تتنازع أفئدة الناس رغبة في التحرك والعمل الزراعي ورعي الماشية.