يظن كثير من الناس في معترك الحياة المائج أن تصاريف القدر التي تصيبهم في هذه الحياة الدنيا تقع في خانة الخير أو الشر، وأن البون شاسع بين هذا وذاك بل إنهما متضادان كل منهما ينفي الآخر ويعارضه، ومن البدهي أن يحب الإنسان الخير ويكره الشر. والحقيقة أن معرفة الخير والشر ليست كما تبدو لنا دائماً فهي ليست مطلقة وليست كاملة وليست نهائية، فالمعرفة البشرية نسبية بطبيعتها محكومة بعلم البشر الذي يعتوره النقص والجهل والغرض والنسيان.والقرآن يعلمنا أن المرء قد يكره شيئاً وهو خير له وقد يحب شيئاً وهو شر له، وقد لا يدرك حقيقة ما يحب ويكره إلا بعد حين. تواردت في ذهني هذه الخواطر بعد أن مررت بتجربة صحية مفاجئة وخطيرة إلا أن لطف الله ورحمته جعلها تمر بسلام فله الحمد والمنة، لكنها أثارت في نفسي بعض الشجون وبعض الأفكار التي غفلت عنها فيما مضى رغم أنها من حقائق الحياة الأولية. بدا لي على ضوء التجربة القاسية أن الفرق بين الصحة والمرض ليس كبيراً كما يبدو لنا، وكذلك الفرق بين الحياة والموت وبين الغنى والفقر وبين القوة والضعف، فالإنتقال من حالة إلى أخرى قد يكون سريعاً ومفاجئاً يربك حياة الإنسان ويقلبها رأساً على عقب حتى تختلط عليه الحدود بين الحالتين فلا يدري أيتها العارضة وأيتها الثابتة! والدرس الذي ينبغي أن يستخلصه المرء من تصاريف القدر هو أن الحياة متقلبة لا تدوم على حال ولا تصفو لأحد مهما كان قدره، ومن الحكمة أن يستعد المرء لأحوالها الزائلة فلا يغتر بنعيمها العارض ولا يستبعد مكرها الدائر فالخير والشر صنوان في هذه الحياة الدنيا ووجهان لعملة واحدة. بدأت تجربتي المفاجئة مع مرض القلب عندما كنت عائداً بعربتي مساء الجمعة (15/2) من الخرطوم إلى منزلي بالخرطوم بحري، شعرت بألم خفيف في الصدر لم يمنعني من مواصلة السواقة ولكنه استمر معي حتى وصلت المنزل في مربع 18 امتداد شمبات. ومن باب الحيطة أخذت حبتين أسبرين وقست ضغط الدم فوجدته مرتفعاً قليلاً مما دفعني أن أذهب إلى مستشفى البراحة بعد الحادية عشرة مساءً، وبعد فحوصات أولية قرر الطبيب النبطشي أن يستدعي أحد الإختصاصيين من منزله والذي جاء على عجل، وما كاد د. الجيلي ميرغني (استشاري المخ والباطنية) يستمع إلى أعراض الألم الذي شعرت به وعرف أني مريض بالسكري لأكثر من 15 سنة حتى توصل إلى نتيجة صائبة كتمها عني ولكنها ظهرت جلية في تحذيره: إذا جاء فحص التيرمونين إيجابياً فلا تغادر هذا المستشفى شبراً واحداً! وجاءت نتيجة الفحص إيجابية كما توقع وبقيت تلك الليلة بالمستشفى في عناية الفريق المناوب ليلاً والذين وجدت منهم الإسعافات الضرورية التي تزيد من سيولة الدم في العروق وتخفف آلام الصدر التي شعرت بها، وعاودني د. الجيلي صباح الغد ليقطع الشك باليقين: يا دكتور عندك مشكلة في القلب وينبغي أن تعمل قسطرة في أسرع وقت ممكن حتى يتم تشخيص المشكلة وتتضح كيفية علاجها.ورغم أني لم أشكُ من قبل من مرض في القلب أو أعاني من ضغط الدم إلا أن الخبر لم يفاجئني تماما فقد تهيأت له بعد تحذير الطبيب الواضح ليلة الأمس. وأحسب أني كنت محظوظاً إلى حدٍ كبير في العناية الطبية التي أتيحت لي في مستشفى البراحة ثم في مستشفى الزيتونة حيث استقبلني النطاسي البارع مستر أنس البدوي مساء نفس اليوم وأجرى لي عملية القسطرة الاستكشافية نهار اليوم التالي ويكشف لي بصراحة معهودة في الذين تخصصوا وتدربوا في الجزر البريطانية: يا دكتور أنت تعاني من مشكلة في القلب من الدرجة الأولى ( First degree heart problem ) والتي لا تنفع معها دعامة أو دعامتان عن طريق القسطرة وإنما تحتاج لعملية جراحية كاملة لأن شرايين القلب عندك بها ثلاث قفلات كبيرة بنسبة 90% و70% و50%، وأنصحك أن تعجل بذلك ولا تحاول السفر خارج السودان لأن السفر في حد ذاته لا يخلو من مخاطرة لمن هو في مثل حالتك، وهناك في الخرطوم من يستطيع القيام بهذه العملية بكفاءة لا تقل بحال عن مستوى العمليات في مصر أو الأردن أو السعودية ألا وهو المستر نزار بشير الحسن مدير عام مركز السودان للقلب، ولا ينبغي أن تغيب من المراقبة الطبية الدائمة إما عندنا أو في مستشفى آخر! وكنت محظوظاً مرة ثالثة عندما أناخ بي جملي بمركز السودان للقلب لأجد الكفاءة والعناية اللازمة لمثل من هو في حالتي (القلبية المتأخرة) لإجراء عملية كبيرة ليس منها بد.خدمني د. أنس بأن أرسل (سي دي) القسطرة إلى د. نزار في ذات اليوم وطلب منه الحضور للزيتونة ليشرح لي أبعاد مشكلتي الصحية وكيفية علاجها جراحياً، وحضر د. نزار في موعده في بدلة كاملة الأناقة وكأنه أحد سفراء جلالة الملكة، وأحطنا به شخصي والحاجة واثنان من بناتي اللائي يدبرن أحوالنا عند الملمات. تناول د. نزار ورقة بيضاء وقلما رشيقاً وبدأ يشرح لنا في لغة ميسرة واضحة وضعية القلب وكيفية عمله والشرايين المقفلة التي كان ينبغي أن تغذي بالدم بقية أجزاء الجسم، وقال إن العلاج الحاسم الوحيد في هذه الحالة هو تمرير الدم عبر عروق أخرى بديلة ( bypass )تؤخذ من الكتف والساق تتجاوز مواقع القفلات، وأنه يقوم بهذه العملية والقلب يعمل بصورة طبيعية ولا يلجأ لتعطيله كما جرت العادة في الجراحات التقليدية، وأن نسبة نجاح العملية تفوق ال 95%. وكان الشرح كافيا ومقنعا لأفراد الأسرة أننا بين يدي جراح متمرس يجيد صنعته ويعرف دقائقها، ولم نتردد لحظة في قبول التحدي بإجراء العملية في مركز السودان للقلب رغم وجود خيار الذهاب إلى مصر أو الأردن. وأجريت العملية التي استغرقت أكثر من ست ساعات في الخامس من مارس بعد أن تجاوز القلب آثار الذبحة التي ألمت به وعاد إلى ما يشبه طبيعته الأولى،بقيت أسبوعاً في مركز القلب بعد إجراء العملية نعمت فيها بعناية فائقة من أطباء وفنيي وسسترات وعمال المركز بدءاً من مستر نزار ود. عبد الباقي ود. وائل ود. فضل الله والسسترات عفراء وماجدة ونهى، كما سعدت بصحبة الصديق الفاضل ب. ود الريح الذي أجرى قبلي بأيام عملية مشابهة في القلب واستطاع أن يهزم المرض القبيح بصبره ومرحه وحسه العالي للتواصل الفكه مع الآخرين. ورغم المستوى الجيد لكفاءة الفريق الطبي ومساعديه والإمكانات المعقولة لحجرة العمليات والعناية المكثفة، إلا أن المبنى بصورة عامة وحجرات المرضى والأسرة والمعينات الأخرى بالمستشفى دون المستوى المطلوب حتى بمقاييس الخرطوم (رويال كير، الزيتونة، سليمان فضيل، البراحة)، الغريب أن بالمركز مبنى جديدا لإجراء العمليات وحجرات المرضى وتوابعها من الخدمات المساعدة أوشك أن يكتمل ولا يحتاج سوى لبضع ملايين من الدولارات لا تستعصي على إمكانات الجيش السوداني الذي شهقت مبانيه الرخامية إلى عنان السماء برموزها الجوية والبحرية! ولا ينبغي لوزير الدفاع أن يتوانى عن إكمال هذا الصرح الطبي الذي سيكون له أثره الكبير في مقابلة أعداد مرضى القلب المتزايدة في السنوات الأخيرة. تأثرت كثيراً أثناء نكبتي المرضية بحجم التعاطف والاهتمام الذي لقيته من عدد كبير من الناس منهم الأهل الأقربون الذين جاءوا من داخل وخارج العاصمة ليقفوا ساعات طويلة في هجير الحر خارج أسوار مركز القلب فقط ليسمعوا أن العملية قد انتهت بنجاح دون أن يطمعوا في رؤية المريض، وبعض هؤلاء قد قطعت حياة المدينة الضاغطة بيني وبينهم الصلة لسنوات مضت ومع ذلك يلتئمون ويحتشدون في الأفراح والأتراح وليس في السودان ما يفوق العشيرة تواصلاً وتكاتفاً وتضامناً، ومنهم الجيران والأصدقاء وزملاء المهنة في الجامعة والصحافة والناشطون في قضايا الشأن العام وقراء جريدة الصحافة الذين ارتبطت بهم لعدة سنوات وهؤلاء منهم من تعرف وتذكر ومنهم من لا تعرف ولا تذكر ولا يطمع كثير من هؤلاء في معرفة متبادلة أو في مجاملة مدخرة إنهم يعبرون عن شعورهم النبيل بلا منٍ ولا أذى، ومنهم عشيرة الحركة الإسلامية التي تربينا في أحضانها لعقود من الزمن وظننا أنه ميثاق متين وإخاء صادق يظل الدهر أخضر ناميا ولكن تفرقت بنا السبل في اتجاهات متباينة معروفة للملأ ولو لا أنه أمر دين ووطن وأمة لما اخترنا المفارقة على الصحبة وهو مقام لا يجوز فيه الصمت الأخرس ولا الوقوف مكتوف اليدين، ولكن كثيراً منهم من أعلى مسؤوليهم إلى أدناهم أعادوا لحمة التواصل التي انقطعت فطبيعة الخلق السوداني الأصيل تتجاوز عند النائبات عوارض الدهر وحزازات النفوس واختلاف المواقع، وقد وجدت منهم كل سماحة وود فوق ما كنت أتوقع. وما خالج نفسي من هذه التجربة أن حياة العشيرة والقبيلة الوليفة التي نعيشها في السودان رغم ما يصحبها من تراث بدائي وعصبيات مغلقة هي كنز لا ينبغي التفريط فيه إلا إذا امتلكنا بديلاً له يناسب حياة التحضر والمدينة ويحفظ الود والتواصل والتكاتف بين الناس، وتلك أمنية أحسب أنها بعيدة المدى. خرجت من مركز السودان للقلب بعد أسبوعين من الإقامة الجبرية بين الحجرة والعناية المكثفة إلى رحاب الشارع العام لأول مرة، فلاحظت أن شارع المطار الذي سلكته في طريقي إلى فندق كورال قد تغير مظهره صار أكثر نظافة والعربات تسير في نظام وهدوء لا تسابق بعضها بعضاً، وسلوك الناس أكثر انتظاماً وتهذيباً وأنهم جميعاً جديرون بالاحترام وحسن المعاملة، وخطر في بالي أن هؤلاء البشر الغبش الذين يسيرون في حر الهجير وينتظرون المواصلات في قارعة الطريق هم أكرم وأنبل من كل مظاهر العمران والتشييد الفاخر التي تحيط بهم من كل جانب في حي العمارات الراقي. إنهم الأصل الباقي في هذا البلد وكل ما سواهم زائل ومغشوش. ليس منطقياً أن أظن أن الشارع والناس قد تغيروا عمّا كانوا عليه قبل أن أدخل المستشفى ولكن يبدو أن التغيير الذي حدث كان في داخلي بعد أن تقارب عندي الصحة والمرض والحياة والموت، فقد صرت أقل قسوة في الحكم على الناس وأكثر زهداً في أعراض الحياة الزائلة. والمرء يحتاج بين الفينة والأخرى أن يراجع دقة الميزان الداخلي الذي يقيس به الناس والأشياء، فهو قابل للاختلال والاعتلال مثل سائر أعضاء الجسد وملكاته!