خير من يؤرخ لمرحلة وحدث سياسي هو من عاش الحدث وصنع أحداثه، وأزعم أن ضيف (مراجعات) الشيخ/ أحمد عبد الرحمن، رئيس مجلس الصداقة الشعبية القيادي بالحركة الإسلامية، ممن عاشوا الأحداث الكبيرة في تاريخ البلاد وممن صنعوها نجلس إليه ليضع سهمه في كنانة التوثيق للتاريخ الذي عايشه وعاصره. وبعد أن أجاب عن عدد من التساؤلات المهمة خلال عدد من الحلقات السابقة نتطرق في هذه الحلقة السادسة والأخيرة لجدلية العلاقة بين الجيش والسياسة. * في رأيك من هو الحزب الذي ابتدر فكرة إدخال ما يسمى الفرع العسكري داخل الجيش؟ متى كان ذلك؟ وما هي آثاره؟ السابقة السيئة أحدثها حزب الأمة بأن سلم السلطة للجيش واستدعى إبراهيم عبود ليستلم الحكم خشية من النفوذ المصري حسب خيالهم ورؤيتهم، وهذا أمر معروف في السودان. وقتها كانت الانقلابات قليلة في المنطقة العربية، أمامنا عبد الناصر، والجيش لم يكن لديه استعداد لانقلاب (كانوا ناس طيبين). * (بدهشة): ناس طيبين؟ (يواصل حديثه): أما أول نواة لوجود حزبي أو عمل سياسي داخل القوات المسلحة فقطعاً ابتدره الناصريون "القوميون العرب" والأخ حسيب من جنوب كردفان بميوله الناصرية، كما أن الأثر الناصري معروف في القوات المسلحة. فكثير من الضباط كانوا معجبين بعبد الناصر ويرجع للقوميين العرب فضل السبق في تشكيل نواة حزبية داخل القوات المسلحة لإحداث تغيير بواسطة العمل العسكري. الشيوعيون يومها اشتغلوا في إطار القوميين العرب ولم يكن لديهم وجود فاعل، وإنما أفراد معروفون في القوات المسلحة يعملون في إطار القوميين العرب. الحركة الإسلامية إلى ذلك الوقت لم يكن لديها وجود كبير في الخارج وكانت محصورة وسط الطلاب. ولكن والحق يقال فإن المرشد العام المرحوم الرشيد الطاهر بكر كانت لديه تطلعات كبيرة، عبارة عن طموحات شخصية لكنها لم تجد الدعم والقبول داخل الحركة الإسلامية. * لا ينظر لانقلاب عبود بذات حدة نظيراته إذ هو عملية "تسليم وتسلم وانسحاب بصورة هادئة" وعليه يقال إن المتآمرين على الديمقراطية هم قادة الأحزاب إذ زجوا بالعسكر في الصراع. أسألك: دون حزب الأمة هل كان يمكن للفريق عبود أن يقوم بانقلاب؟ في حالة إبراهيم عبود كان الأمر -كما قلت أنت- تسليما وتسلما، وبحسبان تسليم الأمر للقوات المسلحة السودانية كانت طبيعة الممارسة عسكرية، الحكام والسياسات تصنع في وزارة الدفاع ومن قادة القوات المسلحة، ولا يختلف اثنان حول طبيعة الحكم بأنه عسكري قائم على أساس عملية وتسليم وتسلم من حزب كبير جداً. ولكن وبُعيد فترة قليلة من استلام عبود، تكونت الجبهة الوطنية بقيادة الصديق عبد الرحمن المهدي، والد الصادق. * وقتها قبل أحمد خير منصب وزير الخارجية؟ دون أدنى شك أن انقلاب عبود كان من ورائه سياسيون سواء متطوعين في أحزاب أو منسوبين لها، وأشخاص في قامة أحمد خير المحامي كان منظّراً ل(نظام) عبود. * بكسبه في الديمقراطية؟ نعم. الناس اعتادت إدانة الأنظمة العسكرية، وهي إلى حد كبير صنيعة النخب السياسية ولا أبرئ أحداً، إذ تتباين الأدوار، ولكن الدور الأكبر اضطلع به القوميون العرب واليسار عموماً. * القوميون العرب واليسار كشفوا عن أنفسهم في انقلاب العام 1969م؟ لا، ظهروا قبل ذلك بكثير.. ففي العام 1958م كان الانقلاب الأول على عبود "انقلاب كبيدة وعبد الحميد عبد الماجد وتم إعدامهما لمقاومة النظام"، وبعدهم الرشيد الطاهر، وفي مرحلة ثانية الرشيد حرّك انقلاباً على السلطة، والرشيد كان كاريزما استطاع أن يستقطب عدداً من الإخوان وغير الإخوان من القوميين العرب ويعمل محاولة ومغامرة لكنها ما كانت مسنودة بالحركة الإسلامية. * عموماً ما هو موقف الحركة الإسلامية من العمل داخل الجيش؟ هذا سؤال كبير، وأولته الحركة كذلك اهتماماً كبيراً، وكانت مترددة جداً "أي الحركة" في عمل فصيل داخل القوات المسلحة بنية تغيير النظام عبر القوة. د.الترابي كان ضد أية محاولة تغيير أو حتى بناء تنظيم داخل القوات المسلحة لمدةٍ طويلة، بحجة أن معظم ضباط الجيش ينضمون بوساطة ومباركة من السيدين، وإن كانوا بعدها يلتزمون المهنية أي غير مسيسين، والترابي خشي إن ابتدرنا عملاً داخل الجيش أن نوقظ السيدين فيبدآن في إدخال أولادهم للقوات المسلحة بصورة سياسية، وحينها لن تكون لنا فرصة في المستقبل. * هذا رأي د.الترابي؟ رأيه واقتنعنا به جداً. بعده أتت مراحل مختلفة بات فيها الجيش مجالا من مجالات العمل السياسي، وهو أمر لم يدرسه التنظيم أو يقرّه ولكن هناك من قال: "حقو نحافظ على عناصرنا البتدخل في القوات المسلحة في الماضي". * لأجل المستقبل؟ ليسندونا إن ظلمنا، ولنجد -على الأقل- العون في القوات المسلحة. وفعلاً ظلت المجموعات الموجودة داخل القوات المسلحة تجد منا الاهتمام والرعاية. من أول الداخلين حسين خرطوم دارفور "أول دفعته" وبعده محمد أحمد جحا، ولكن قبل أن نبدأ معهم عملاً جاداً دخلوا في انقلاب. * قبل أن تصلوهم حتى؟ نعم. * في أي انقلاب تورطوا؟ انقلاب الرشيد الطاهر الثاني. * تحديداً متى قرّرتم العمل داخل الجيش؟ قرارنا برعاية أفراد داخل القوات المسلحة أتى متأخرا جداً، بعد أن شعرنا بأننا محاصرون. * في أي عام؟ المرحلة الأولى، كنا نخطط لتغيير النظام "نظام عبود" بثورة مدنية، وفعلاً أنجزنا أكتوبر، ولم يكن من هم للحركة الإسلامية سوى تغيير النظام التقليدي بقياداته التقليديين. * الترابي وصفهم ب"ناس طيبين"؟ تقريباً. د.الترابي أتاني في هولندا وكان ممتلئا بالتغيير عن طريق الطلاب أسوة بما تم في إيطاليا وفرنسا، وكان يسعى لأن يكون للحركة الإسلامية قصب السبق في التغيير، وأن تشعل الفتيلة، واستعجلني إنهاء الماجستير والحضور للسودان، ففعلت، ووجدتهم يحضرون. وحقيقة فإن الحركة الإسلامية هي التي أدارات الندوات وأعدت الاجتماعات بمعاونة بعض الأفراد غير المنتمين للحركة الإسلامية، وساعدونا كثيرا في التغيير. المناخ يومها كان مناخ تغيير، ولكن الحركة الإسلامية بلا منازع كان لها فضل إشعال الفتيلة، وكانت قطاعات المحامين والأساتذة والطلاب جاهزة. الحقيقة الواضحة، أن القناعة التي توفرت عند الحركة الإسلامية، تقول بأن نظام عبود ورغم الوفرة الاقتصادية ومسائل متطلبات الحكم، أساء استخدام السلطة بالنسبة لجنوب السودان، ولم يحترم كرامة الفرد، وهذه اقنعتنا بأن ذلك كفيل لكي نعمل على تقويض النظام، رغم أنه من المعروف عنه نشره الإسلام في الجنوب وطرد المبشرين ونشر اللغة العربية، قلنا وإن وإن، فكرامة الإنسان تعلو على كل هذا. * ومتى شرعتم في التخطيط لعمل عسكري؟ لغاية العام 1968م لم نفكر في الدخول في عمل عسكري ولكن كان لنا أفراد داخل القوات المسلحة معروفون وملتزمون بالحركة الإسلامية ونتصل بهم نهايات كل أسبوع، ولكن لا أذكر أن لدينا تنظيماً نرعاه لحين حلول انقلاب مايو. * وبعد مايو؟ في 1970م دخلنا الجبهة الوطنية. النظام كان ذا طبيعة عدائية شرسة وخطراً على الأمة العربية وليس السودان وحسب، لذا شعرنا بأنه ينبغي أن يحارب بكل السبل لأنه بدأ، والبادئ أظلم. فشرعنا كجبهة وطنية في العمل وبدأنا في تهيئة منسوبينا بأن هذا النظام فاسد وعدائي خصوصاً تجاه الحركة الإسلامية، وينبغي أن يزال. * بدأتم الدخول للجيش بعد 1970م؟ لا.. لا.. لا.. بعد ذلك بكثير. * متى؟ لغاية 1976م كانت لنا عناصر قليلة جدا في الجيش، ويلزمني أن أعترف بأني من الحمائم وبعيد جداً من العمل العسكري الخاص. * أريد فقط معرفة التاريخ؟ سجلنا في القوات المسلحة كان نظيفاً وبعد الجبهة الوطنية كان لدينا أفراد في الجيش. * بعد المصالحة بدأتم الدخول للجيش؟ ليس بطريقة التظيم، ولكن لدينا عناصر بدأنا رعايتها -يمكن أن تسميها تنظيما- وفي 1976م حاولنا التفاهم مع المرحوم محمد نور سعد بأنه آن الأوان لنكون مصدراً يوظفه شأننا في ذلك شأن الباقين، ولكنه قال ابتداءً: "ما داير ولا واحد من الحركة الإسلامية ومن الأنصار على وجه الخصوص لأنهم جابوا لينا ناس غواصات بسببهم سجنا عشرين مرة". * ما كان رد فعلكم؟ بعد حركة محمد نور سعد دخلنا في مواجهات مع النظام. * عزوت مصالحتكم لجهة أخذ الأنفاس في مجال عديدة، مجالات الجيش والعمل الاقتصادي وبناء مؤسسات اجتماعية؟ خلال السبع سنوات من حكم نميري "وتلت المصالحة" حصدنا حصاداً كبيراً جداً. * وفي الجيش تحديدا؟ في كله. الجيش بشر، الجيش بعيد؟ أين الجيش؟ موجود كله في الخرطوم. * إذن اشتغلتم في الجيش بعدها؟ لدينا عناصر أولايناها الاهتمام بصورة أكبر. * أنت لا تريد أن تقول جناح عسكري (إذن لا مشكل)!. (ضحكات) * بالعودة إلى المحاولة الأولى للمرشد العام للإخوان المسلمين الرشيد الطاهر بكر، كيف عرفت بضلوعه في انقلاب شنان سنة 1960م؟، وما كان موقف الجماعة؟ عرفت من د.الترابي أن الرشيد الطاهر يدبر لانقلاب. وقتها كنت في كسلا وحضرت للخرطوم بتوجيه من الترابي، وحاولت أن أجمع الاخ الرشيد بعدد من المسؤولين وتم ذلك. * مسؤولون يتبعون لأية جهة؟ للحركة الإسلامية. الرشيد كان حاضراً وتناقشنا في أنه سندخل مغامرة حال صحّ الأمر، مغامرة لا ناقة لنا فيها ولا جمل، "وفي مقابل شنو؟". عرفت من الأخ الترابي أن مصدره كان محمد أحمد المحجوب والأخير أخبرني كوننا كنا نلتقي ليلا وبصورة دائمة في مكتبه والذي يضم الرشيد الطاهر ودفع الله الحاج يوسف. الرشيد لم يكن يعرف أن الترابي أعلمني بدخوله مع محيي الدين أحمد عبد الله وشنان ضد مجموعة حسن بشير. تساءلنا في الاجتماع الذي تم في منزل أحد الإخوان بالموردة في وجودي ود.الترابي والمرشد عن مكسب الحركة من الخطوة (الانقلاب). * من كان صاحب المنزل؟ منتم للحركة الإسلامية ولا داعٍ لذكر اسمه. من ذكرتهم هم الأعلام الواضحة (البشيلوا دايما الشيلة) المهم كنا قرابة ال(10) ومن مجرى النقاش بدا واضحاً أن الرشيد ملتزم بقسم أداه. بعد الاجتماع عدت إلى كسلا وعلمت أن الرشيد وبكل أسف اعتقل في القيادة إثر انقلاب فاشل. * كان يقول لكم ألاّ شيء سيحدث؟ كان ينفي ذلك ربما لقسم أداه. * وما الذي ترتب على ذلك داخل الحركة الاسلامية؟ أجرينا تقييماً للموقف في اجتماع كبير جداً، وكتبنا ورقة في هذا الموضوع، ومن يومها اقتنعنا بأنه لا داعٍ لمرشد وإنما قيادة جماعية واخترنا د.الترابي أميناً عاماً. * عزلتم الرشيد؟ نعم. وصعب علينا تبليغه، فهو شخص عزيز وكان وقتها سجينا في كوبر، لكن قررنا إخباره بعد أن يخرج. وفعلا خرج بعد ثورة أكتوبر وعبر البوسطة أرسلت له برقية ليأتي ويمثلنا في مؤتمر للأحزاب بمدينة جوبا، ولكنه لم يوافق وذهب عوضاً عنه أخ محامٍ. * بعدما عزلتموه؟ نعم. أرسلت له البرقية وحدثت د.الترابي بالأمر. * من قاد محاولة عزله داخل الحركة الإسلامية؟ تم تجاوزه في صمت، وحاولت أن أرده ببرقية مشهورة، وفعلا جاء وبلغت الترابي بتصرفي ولكنه اعتذر عن تمثيلنا في مؤتمر جوبا. * ولكنك لعبت دور المنظم لاجتماع ضم على الأرجح (4) أفراد؟ (بحسم) الاجتماع كان محضوراً، وقدمت باعتباري الأكثر حراكا في جانب التنفيذ. عدد من الناس كانون يفكرون بذات تفكيري وكانوا وراء عقد الاجتماع الذي حضره الرشيد ومواجهته، وفعلا واجهناه والترابي كان يشير إليّ أحيانا أثناء حديثي بيده وكأنه يقول "الكلام ده ما صاح". * بحسبان أنه "أي الترابي" الشخص المستفيد؟ المستفيد هو السودان والحركة، إذ كنا كحركة مسؤولة حريصين ألا ندخل أمرا (بالضلمة)، فالله سيسألنا من أفرادنا لماذا اعتقلوا وتم سجنهم إزاء قرار لا يخصنا. * هذا موقف مبدئي من الانقلابات أم ليقينكم بأن الحركة خاسرة؟ للسببين، وقتها كنا لا نؤمن بالتغيير عبر الانقلابات، وفي الوقت نفسه لا رغبة ولا قدرة لنا. * لم تكن محاولة الرشيد المحاولة الوحيدة رغم إشارتك إلى معاداة أدبيات الحركة للانقلابات، ولكن هناك من يقول إن انقلاب حسن حسين في العام 1975م من ورائه الحركة الإسلامية؟ مسكينة الحركة الإسلامية كلما حصلت (حاجة) حُمّلتها، وللحقيقة والتاريخ كنت وقتها بلندن نعد متطلبات عملية 1976م. كان يسكن معي الأخ الأستاذ أحمد زين المحامي، وفي ذات المدينة مهدي إبراهيم وعثمان خالد. فاجأني مهدي بزيارة وسألني: "سمعت الأخبار؟". أجبته بالنفي. فقال: "في انقلاب في السودان يقوده حسن حسين". استغربنا جداً وسألنا: مَن وراءه؟. كنا نتوقع وصول واحدٍ من قيادات حزب الأمة المشتركين في الانقلاب للندن، كا ن مقرراً أن يأتي برشم في 6 سبتمبر والانقلاب تم في 5 سبتمبر، فاتفقنا على مقابلة سيد صادق وسألناه: نحن نعد سوية وفي اللمسات الختامية تجمعنا في لندن ف(أيش الحكاية؟). ردّ وقال: دعوني أصارحكم، فالموضوع فقط موضوع وقت، وكنت أنوي إخباركم بوجود حركة لغرب السودان "الجبهة القومية" وبحكم علاقة بعض العناصر من الضباط ببعض قيادات حزب الأمة اتصلوا بالحزب ووجدنا ألا خيار عندنا سوى المشاركة والدخول لجهة إنهاء النظام. فاستنكرنا عليه ذلك، ولم نستطع تقبله، فما كنا نتصور أننا في حركة واحدة ونعمل ونعد لتحرك فيما الأمة ضالع في انقلاب. بعدها بأقل من ساعتين مهدي أخبرني بأن الحركة انتهت، فعدت إلى جدة وقابلت فيها شخصاً من العيلفون تربطه علاقة بعثمان خالد وأحضر له رسالة، ولكون عثمان خارج جدة، فتحت الرسالة ووجدتها من القاضي الهارب د.عبد الرحمن إدريس وفيها أنه بفندق "كذا" بمعية "شاويشين" فكان أن تصرفت فورا وقلت له دعك في الفندق. * كان في السعودية؟ في إثيوبيا. وحامل الرسالة تاجر ينشط بين إثيوبيا والسودان وحضر إلى جدة بالصدفة. * وما هي علاقتكم بعبد الرحمن إدريس؟ لا نعرفه أبداً. كان يقال إنه إسلامي، ولكنه لم يكن أصلاً في حساباتنا، وكذلك حركة حسن حسين. * في البيان تحدثوا عن "توتو كورة" (اليانصيب) فحسبهم الناس إسلاميين؟ أرسلت للقاضي مبلغاً وتذاكر وأخبرته أن يقابلني في لندن. * وأنت لا تعرفه؟ لا أعرفه. قابلته في مطار هيثرو وأسكنته في منزل فقد كان منهكا للغاية. المهم سألته عن حركة حسن حسين، فكتب لي بيده أسماء (19) ضابطاً من غرب السودان برتب مختلفة شاركوا في الحركة، على أساس الظلم الواقع عليهم، وأنهم أرادوا أخذ حقهم بالتحرك الذي تم، ولا علاقة لها بكل السودان، والحركة كانت مطلبية جدا. وهذا يردني لأكتوبر ومهنية الجيش السوداني، فقد لاحظت أن المذكرة المقدمة للقوات المسلحة أثناء غليان البلد قدمها بالنيابة عن القوات المسلحة المرحوم مبارك عثمان رحمة، وهو ذو خلفية أنصارية، واطلعت على المذكرة وهي مذكرة مهنية (100%). * الضباط في حركة حسن حسين ألم يكن منهم منتمون للحركة الإسلامية؟ ولا واحد منهم. * ولا حتى محسوبون على الحركة الإسلامية؟ ولا واحد منهم كذلك محسوب على الحركة. د.عبد الرحمن إدريس قد يعرف زملاؤه أنه في الحركة الإسلامية ولكني لا أعرف ذلك. * بعدها تمت حركة محمد نور سعد في يوليو 1976 وفشلت وفي أخريات نظام الرئيس جعفر نميري يقول الأستاذ المحبوب عبد السلام في كتابه عن الحركة الإسلامية السودانية "إنه بعد الاعتقالات الشهيرة التي حدثت لقيادات الإخوان وزجهم في السجون عقب حضور بوش، راجعت قيادة الحركة أمر الانقلاب وكادت تمضي إليه ولكن يسر الله المخرج بانتفاضة أبريل 1985م" ذلك يعني أن الحركة كانت تعد لمحاولة انقلاب على النميري في أخريات عهده لولا الانتفاضة لتخليص قياداتها القابعين في السجون.. أذلك صحيح؟ كنت عضوا في المكتب القيادي ولا أعلم شيئا عن ذلك، وإن حدث فقد تم تدبيره من وراء المكتب القيادي. * عن انقلاب 1989م نحكي أن د.الترابي في جامعة الخرطوم قال: أنعي إليكم الديمقراطية. وكانت هذه العبارة بمثابة العبارة المفتاحية للتغيير العسكري في 30 يونيو 1989م. لماذا انقلبت الحركة الإسلامية على الديمقراطية وقد كانت يومئذ موجودة في البرلمان ولها تأثير كبير جدا على الساحة؟ هل كان قرار الانقلاب على الديمقراطية مؤسسيا وشوريا جرت عليه كل العمليات التي تتم عادة في اتخاذ القرارات؟ المناخ السياسي في السودان والتطورات التي حدثت كان لها دور كبير جدا في تغيير قرارات الحركة وترجيح أخذ السلطة عن طريق عملية عسكرية. وأذكر هذا جيدا لأنه بمجرد أن اتصل بي ضابط يخبرني بمجرد قدومي من رحلة إلى الكويت باجتماع للقوات المسلحة قدموا بعده مذكرة لرئيس الوزراء، وأمرني ألا أخرج من المنزل. اتصلت بمحمد يوسف محمد ليحضر وأخبرته بما قاله الضابط عن المذكرة ضد الصادق المهدي وضدهم كذلك، يومها كان المقرر أن أسافر صبيحة اليوم التالي لحضور جنازة الإمبراطور (إمبراطور اليابان). * كنت وزيرا وقتها؟ نعم، وزيراً للشؤون الاجتماعية. المهم أن المناخ تغير وعرفت بأن سفرنا مرهون بموضوع المذكرة، والمذكرة كانت عبارة عن إنذار محدد بأسبوع أو عشرة أيام وطالبت السيد الصادق المهدي بتسليح القوات المسلحة وأشياء أحسبها مستحيلة. صباح اليوم التالي ذهبت إلى بيت الضيافة وقلت للمهدي نتصل بالأخ عثمان خالد، والذي وصل قبل إكمال جملتنا، فتحدثنا وكان عثمان جريئاً ووصف ما تم بأنه انقلاب من الأفضل أن يواجه. وذهبت مع عثمان في ذات خط المواجهة، وقلت له بامتلاكنا عناصر داخل القوات المسلحة. * (باستغراب) هكذا؟ نعم. وقلت له من الأفضل أن نتصل بهم ونضرب لإبراهيم السنوسي. بعدها حضر عدد من قادة الأمة وبدأوا في مناقشة الموضوع فانسحبنا وقلنا سنحضر عند الساعة (12) لنرى بخصوص عريضة القوات المسلحة وسفر اليابان. حضرنا في الموعد، ووجدنا سيد صادق غير رأيه، وقال إنه سيحاور القوات المسلحة. وقتها كان قيادات الأمة المقربون مني خارج البلاد: عمر نور الدائم في المغرب، ومبارك الفاضل في الصين. * وما كان رأيك وقتها؟ رأيي أن نواصل المواجهة فما تم انقلاب، و"بدل يقبضونا" أحسن نخلي أي واحد فيهم يجي يعتذر عن إمضائه المذكرة. وقلنا للصادق هذه فرصتك. وعثمان خالد قال له "تحاور ضباطا قوتهم في البندقية وحزموا أمرهم؟". * وما هو رأي الحركة الإسلامية؟ وإن كنا نتصرف كأفراد شخصي وإبراهيم وعثمان فقد كان رأي الحركة أن تواجه. * كيف تواجه؟ شعبياً. ولكانوا فعلا انهزموا ولحوسبوا وحسموا، وكانت الديمقراطية ستمضي. المهدي وجهني بالسفر إلى اليابان مع إدريس البنا وحسين أبو صالح إنابة عنه وأخبرني بنيته ابتدار جولات حوار مع القوات المسلحة. بعد مشورة إخواني حزمت حقيبتي متجهاً لليابان، ولكن قبلها اتصلت بمبارك الفاضل وأخبرته أن البلاد في أزمة وعليه أن يقطع زيارته وهو ما تم. لم أوفق في الاتصال بنور الدائم، واتصلت كذلك بالترابي في جدة، وقلت له إن الصادق المهدي في أمس الحاجة لأن نكون حوله وفي رأيي ألا يزور أديس أبابا وأن يأتي مباشرة للسودان، وهذا أيضا تم. ذهب وفدنا إلى اليابان وشهد تشييع الإمبراطور، وحين حضرنا وجدنا أموراً واضحة فقد أثرت مذكرة القوات المسلحة على الأحداث، وقرر المهدي بعدها أن نخرج من الوزارة. * تعني خروج الجبهة الإسلامية من حكومة الوفاق الوطني؟ خرجنا، بمن فينا رئيس المجلس البرلماني محمد يوسف وتقدمنا باستقالتنا، وحلت محلنا قوى سياسية سموها "حكومة القصر" وضمنها قوى لم تدخل الانتخابات: الحزب الشيوعي والنقابات. انعقد اجتماع حضره المحبوب والشيخ علي عثمان ود.الترابي وتحدثنا عن ماذا بعد. طلب الإخوان أن أرتب لهم لقاءً مع السيد/ أحمد الميرغني بحكم صلاتي الطيبة معه. سألتهم في المنزل أم بمكتبه في القصر؟ فأجابوا في المكتب. ذهبت بمعية علي الحاج وعلي عثمان لنعرف من وراء حكومة القصر. فما كان من الميرغني إلا نادى على الأخ أحمد حسين رفاعي الممسك بديوان القصر وسأله: "يا أحمد نحنا هنا اجتمعنا اجتماع "اجتماع رئاسة الدولة" نعمل حكومة القصر ولا غيرها؟"، فرد عليه بالنفي. قال له: "قل لإخوانك "يقصدنا"، كل واحد شايل ليه قلم زي منكر ونكير علي بجاي وعلي بجاي". الرجل كان فاضلاً جداً، العليان لم ينتظرا حتى لشرب الماء وخرجا، قلت لو أنني كنت رئيس مجلس الدولة لأمرت الأمن بإلقاء القبض عليهما. استمررت بالجلوس معه وسألته كيف نشأت حكومة القصر؟، فقال إن الإجابة عند المهدي وميرغني النصري. أخذت هذا الكلام وذهبت لإخواني واستقررنا على أننا.. * (مقاطعة).. تقلبوها؟ نعم. والسفير الأمريكي كان يأتي مباشرة ويحادثني بشكل مطلق فسألته: "دي بلدك؟ إنت مالك بالإسلام وغير الإسلام.. أصوليين وغير أصوليين؟". ذهبت إلى علي حسن تاج الدين في القصر وقابلت (السفير الكويتي) عميد السلك الدبلوماسي (العربي) سألته: ما الذي قاله لك الأخ علي؟ فرد: "المعلومات التي بحوزتنا تقول بأنه يراد التخلص منكم نهائياً". وقال: "البلد لن تسير إلا بجناحين، ولكن الجناحين انكسرا ولم يقويا على مجابهة متطلبات المرحلة". المهم واجهت علي تاج الدين بالمعلومات ولم يقدر أن ينفي فالسفير الكويتي كان خارجاً من عنده. ذلك كان المناخ وقتها، علاوة على أنني دخلت لإدريس البنا فقال لي: "البلد منتهية، إذا أحزاب على مستوى كبير جداً بيجمعوا في ناسهم وبيجمعوا في السلاح ومرصود ذلك في صفحتين عند الحزب الحاكم". * أياً منهما؟ حزب من نشأته غير بعيد عن السلاح "وناس شنان ما بعيدين منهم". * هذا السلاح أكان مع حزب الأمة وما المراد منه؟ أسالهم. وإدريس (البنا) حي يرزق. * رويت فأكمل روايتك؟ أعطيتك رأس الخيط. * أعطني الخيط كله هو عند إدريس. * ما كان موقفك داخل اجتماع مجلس الشورى من الانقلاب؟ بعد الأحداث التي تمت صرت من المتحمسين جداً للانقلاب "الليلة قبل بكرة". * في كتاب نزاع الإسلاميين يقال إن العناصر العسكرية عندما اجتمعت بالأمين العام د.الترابي قبل الانقلاب بفترة وجيزة سألهم: كم من الزمن ترونه يكفيكم لإنجاز مهامكم؟ فأجابه المتحدث باسمهم: تكفينا ثلاثة أيام فقط نقوم فيها بتأمين الوضع ثم نسلمكم الأمر. فرد عليه الأمين العام: لا بل لكم أن تبقوا ثلاثين عاماً. وعن هذه الواقعة أسرد عليك تعليق التجاني عبد القادر الذي قال فيه: من حيث الواقع لم يكن الأمين العام يريد للعسكريين البقاء (30) عاما، ولا العسكريون كانوا على استعداد ليسلموا السلطة في (3) أيام. فهل كان هنالك اتفاق أن تسلم السلطة للأمين العام للحركة الإسلامية بعد الانقلاب وبعد حل المجلس العسكري؟ لا أدعي معرفة التفاصيل. فحين قررنا التغيير عبر الطريق العسكري أوكلنا الأمر لبعض الأفراد بأن يتولوا العمل، وكانت لهم صلتهم بالترابي وليس بالعسكريين. وهذه نقطة مهمة جداً. التغيير الذي تم غير مسبوق في طريقته. بمعنى أن مجموعة مدنية تابعة للحركة الإسلامية أوكلت لها مهمة التغيير بعناصر حركة إسلامية ذوي خلفيات عسكرية أو مدنية، ويغلب عليهم الجانب المدني. التغيير حدث بنسبة 80% من قبل مدنيين واستعانوا بإخوانهم العسكريين على مستوى القيادات الموجودة، لذا لم يكن هنالك مجلس عسكري وضباط أحرار ومجلس أربعيني.. فالمهام أوكلت لمجموعة قيادتها مدنية استعانت بالأفراد ذوي الخلفيات الإسلامية وهم كثر. ود.الترابي تحدثت معه وقلت له: "أخشى.." فقاطعني وقال لي: "المناخ مواتٍ جداً ولن يقتصر على عناصرنا فقط، فيه وطنيون ومتصوفون ومتشعوذون وما يعلم جنود ربك إلا هو". قلت ليه أظهر نفسك، وتعال وامكث معي ليلة التنفيذ وفعلاً قلت له: "الدنيا كلها قاعدة إلا إنت ما في". * هناك نقطة مهمة جداً تتعلق بأنه كان هناك اتفاق بأنه إذا استلمت الحركة الإسلامية السلطة عليها أن تعيدها بعد (3) سنوات عبر انتخابات؟ اتفاق مع منو؟ أنت تتخيل وجود طرف ثانٍ. أعطيك الحقيقة: لا طرف ثانٍ يتفقون معه ويقولون ليه سلم السلطة بعد (3) أو (4) سنوات. * مجلس الشورى؟ الحركة الإسلامية قررت بأن تعمل التغيير لأن الأمر شبيه بالمرأة الحبلى على وشك الوضوع إن تدهورت أمورها يحدث تغيير غير طبيعي وتحدث ولادة قيصرية، ونحن تقييمنا أن التدهور حدث ولذا علينا أن نعمل عملا غير طبيعي واستثنائي، واتفقنا في أقرب وقت نرد الأمانة لأهلها لأنه ما حدث ليس بالطريق السليم (طريق الولادة العادي) وقتها حدث تدهور صحة المولود السودان وقررنا في حال نجحنا أن نلتزم أدبيا وأخلاقياً بأن نرد السلطة للسودانيين. * هل ضربتم ميعاداً لذلك؟ لا، هذه كانت مشكلة. وكنا نقول ذلك وجماعة تقول لا نرد السلطة إلا بعد أن نستعد لأي سلطة قادمة حتى نُحاسب أمام الشعب السوداني. وهو قرار مريح بأن نسلم السلطة في أقرب وقت ممكن، وكنا دائماً نثير هذا الموضوع (تسليم السلطة) لدرجة عملنا التوالي وشعرنا أنه غير كافٍ ولا يصح إلا الصحيح، ويلزمنا أن نرد الأمانة إلى أهلها وننزل انتخابات مشهودة لكل العالم ونتحمل نتيجتها. ولو أتى غيرنا وحكموا السودان فنحن مساءلون عما قمنا به من عمل استثنائي. * هل تعتقد أن حل الحركة الإسلامية كان بداية الأساس للمشاكل التي تلت ذلك؟ كان ذلك قراراً جريئاً جدا اتخذه مجلس الشورى عقب اجتماعين. في الأول كانت هنالك أصوات معترضة، وفي المرة الثانية قُبل. الحركة أرادت أن تحكم واستوجب عليها توسعة مواعينها وتجديد دمائها. وفعلا أقمنا مؤسسات أخرى الأساس فيها 60% جدد والبقية من السابقين في الحركة. هذا الأمر كان مقبولا لدى البعض واعترض آخرون على التغيير الكبير. لكن إن أردت حكم أهل السودان فإنه يلزمك توسعة المواعين وأن تختلف معاييرك وأن يتيح البدريون الفرصة لأهل ثقيف للنصرة، بمعنى نوسع المواعين ونجري كل فترة ترشحيات ل60% من خارج الحركة و40% من داخلها. * هنالك واقعة سميت بواقعة "المصاحف" إيذاناً بحل الحركة الإسلامية وجمعت د.الترابي ومجموعة من شيوخ الحركة ليسلموا الراية، وأعطى كل واحد منهم مصحفاً وقال لهم دوركم في الحركة الإسلامية انتهى. لماذا لم تذهب وتأخذ مصحفك؟ في الحقيقة لما سمعت بهذا الكلام ودعيت شعرت بأنها بداية الانحراف، ومجرد اجتماع لشكر إخوان لهم كسبهم. الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوزع الصحابة الكبار في السن أو أعطاهم مصاحف عليها كلمتان. ومن هذا المنطلق تولدت عندي قناعة بأنها بداية الانحراف، كما أن التقاعد تقليد غير معروف في الحركات الإسلامية حديثها وقديمها. * الواقعة صحيحة؟ صحيحة. وغير موفقة وبداية الانحراف. * من أخذ مصحفك؟ لم أسأل. ولم أذهب عن قصد. * ماذا حدث في جلسة المصاحف؟ (يقسم) والله ما سألت. الفكرة رفضتها واستهجنتها جداً وسألت "ده شنو؟". * هل كان ذلك التجديد الذي تنشدونه؟ التجديد لمن تقدم في العمر. إذن كان من المفروض أن يكون لكل الشيوخ. * من تعني؟ كلهم والشيوخ وهم معروفون. * بمن فيهم..؟ بمن فيهم الشيخ الكبير "يعني الترابي"، وكان يفترض أن يبدأ بنفسه ويأخذ مصحفا ويفسح لغيره. * أريد أن أطمئن بأنك شرعت في كتابة مذكراتك؟ أحاول. فهي مسؤولية وعندي الرغبة، ولكن ليس عندي القدرة. ومحتاج إلى معين. * نعتبر هذه الحلقات إحدى المعينات بالنسبة لك ومتأكد أنك حين تكتب ستكون أوضح وتفسر أمورا استغلقت في نقاشنا؟ هناك ما لا يكتب. * نحو؟ لا يكتب * أعطنا مثالا؟ لا يمكن أن تكتب كل شيء في مجتمعنا السوداني، وهناك ناس كثر "ناموا بالحقيقة". التي توخيت قولها لكم بنسبة 90%. * بما فيها حديثك في هذه الحلقة؟ قلت لكم أكثر من ال(90%).