رواية نخل بلا أكمام هي رواية العنوان المرمز ... والنخل في الرواية السودانية وفي الشعر العربي يمثل الأصالة والجزور ... اذاً العنوان محفزحتى يثبت النص العكس .. المكان حقيقي منذ البداية وحتى النهاية ، ضربة البداية في حلفا القديمة قبل التهجير .. ولكنها ليس رواية مكان نوبي .. هنالك مصطلح جديد في الرواية المعاصرة هي الرواية النوبية من أشهر كتابها « محمد خليل قاسم « في الشمندورة ، ثم ادريس علي « دنقلا « جبال النوبة ، ويحي مختار « الحزينة والشبال « وحسن نور في « دوامات الشمال « . مزايا الرواية النوبية هي إجادة اللغة النوبية ، معرفة الثقافة النوبية ، معرفة تضاريس المكان ، نفسية أهله ، أعرافهم أساطيرهم وحركة تواصلهم الاجتماعي .. وهي ليست عنصرية ثقافية وانما كتابة تجربة معاشية .. ومعرفة لأن الرواية معرفة مكانية اذا ذكرت اسم المكان الحقيقي وخيال اذا تخيلت المكان ... هنالك المكان المباح اذاً والمكان المغلق ، والمكان المتخيل في الرواية والقصة ، فالمكان المباح هي المدن والأمكنة التي ليست لها ثقافة معينة ويمكن أن تجعل شخصياتها حرة غير مسجونة بثقافة معينة ، والمكان المغلق هو المكان الذي له ثقافته الخاصة ولغته الخاصة مثل المكان النوبي ، والمكان المتخيل هو المرمز أو المفتوح الزمان تاريخيا أو مستقبلاً أو المكان الانساني الذي يمكن أن يعيش فيه أي كائن في الكرة الأرضية ..بعد ذلك دعونا نضع الرواية بمقاييس المرجعية المكانية والمرجعية الخطابية والتاريخية والخيالية .. بمقاييس المرجعية المكانية ، واضح أن الراوي هو الشخصية الممثلة للكاتب ، ليس ابن المكان ، لذلك لم تدم شخصياته طويلا في مواطنها وهاجر بها سريعاً ، واضح أن الرواية كان خطابها بعامية الوسط العربي وليس بعامية الوسط النوبي التي لها مفرداتها وتعبيراتها حتى باللغة العربية فاذا قرأنا روايات هؤلاء الأربعة تجد استخدامهم للغة النوبة بطريقة عفوية داخل الحوار بين الأشخاص .. كذلك المرجعية التاريخية يمكن أن تحاسب الراوي وهو الكاتب بأن الهجرة من حلفا كانت جماعية وليس فردية ، ولكن ما ذكرناه لم يخل بالمسار الفني والقدرة التخييلية للكاتب وأدخله فيما يسمى الواقع الافتراضي ، حيث لا يمكن أن تكون هجرة أسرة عبدالجابر غير منطقية وغير واقعية ... هذه الهجرة كانت هي معمار الرواية أو أساس بنيانها ، وهي التي أراد بها الكاتب أن تحمل فكرته ومقصديته المتعمدة في الكتابة ، وهي مقصدية جاءت على لسان الراوي والشخوص في كل مسارها السردي . في اكثر من موضع وفي أكثر من خطاب سردي وفي أكثر من تعليق للراوي اراد الكاتب أن يؤكد على لسان الراوي بأن الهوية النوبية متأصلة ومتجذرة أي أنها قديمة ، وأن الشمال كله هو نتاج للحضارة النوبية والأصل النوبي .. وحتى الأسر التي استضافتهم كانت نوبية الأصل .. أراد الكاتب أن يقول وقد أفلح في ذلك ، أن ترك المكان والأصل يصيب الانسان بالفشل والاحباط والندم ، وأن الهجرة مضارها ، ووو .. وأن الذي يترك دياره يقل مقداره .. وقد يقول النقد بأن ما حدث للأسرة لم يكن للهجرة دخل فيه وانما هي واقعية قدرية ، بمعنى أن رواياتها حوادث قدرية أكثر من تأثير نفسي أسبابه اجتماعية لأن كل مكان ذهبت اليه الأسرة كان مرحباً بها ومقبولة ، حتى ولو كانت الأسرة التي فعلت ذلك نوبية فهي تدحض السببية لأن المكان سوداني شهد هجرات نوبية طوعية وتكونت مناطق نوبية خارج المكان النوبي في توتي والقطينة والكوة والدبيبة وغير ذلك .السؤال الذي يطرح نفسه هل أراد الكاتب أن يحاكم التاريخ بأن هجرة أبناء حلفا كانت وبالاً عليهم وأن لها سلبياتها ؟ أكيد هذه هي مقاصد الكتابة ولكنها كانت تكون أقوى لو أنها جاءت في المجتمع الكامل المهجر ... ما يؤخذ على تاريخ الرواية السودانية هو خلوها من أدب ما بعد الهجرات القسرية رواية الحنين الى المكان ، الذي انتهى ومات ، رواية موت المكان ، ومن الصعب للجيل الجديد كتابته لأنه سمي الجيل الثاني والجيل الثاني لا يمكن أن يكتب مثل الجيل الذي عرف المكان .وهذه الرواية يمكن أن تكون أول رواية سودانية كان موضوعها الأساسي هو الهجرة ، اذا كان الكاتب أراد أن يكون نوبي الهوى ، ولكنه قد كشف أيضاً سوء العنصرية في داخله وذلك برفضه لأبناء الزاكي الهجين رفضاً عنصرياً قاسياً وغير مبرر وهذا ما نسف كثير من المزايا الانسانية في هذا المجتمع .. بل هناك خطاب عنصري يظهر سافراً في كثير من المقاطع الحوارية داخل الرواية مما يحسب على الكاتب نفسه وليس أبطاله .. من الناحية الفنية ، الرواية متماسكة في مسارها ، بمعنى أن تحفيز المتابعة والمواصلة حتى النهاية من مزاياها ، ثم السرد الحواري المتمكن ، مما يمكن أن يجعلها رواية حوارية ، وثالثا المعرفة المكانية بالمدن والحواري ، يدل على عمق تجربة الكاتب بالسفر ومعرفة المجتمعات والقبائل ، ورابعاً مهنة الكاتب ومعرفة القانون والعمل الشرطي وضح جلياً في هذا النص الروائي . ومن مزاياها أيضاً كانت المعرفة الجيدة للكاتب بما يسمى في علم السرد باللصق أو اللحم بين الاحداث ، وخاصة عندما استخدم تقنية السبق ، لسفرهم للأبيض ومرور السنوات ، ثم تقنية الفلاش باك لنعرف ما حدث لهم « الزاكي في سفره الى الجنوب « رغم دخول الرواية في عيب مجانية الزمن والقفز بالأحداث ، ولكنها كان لابد منهما لأن الرواية تدخل في باب الواقعية القدرية ، بمعنى أنها رواية أحداث تقع على الشخصية وليست رواية حدث يقع من الشخصية وهناك فرق بين الاثنين كبير . هي رواية أحداث كانت من بنات خيال الكاتب ، مما يدل على أن خياله ثر وغني ويمكن أن يكتب به عدة أعمال ، ولم تكن رواية حدث نتيجة للضغوط النفسية ونتيجة لتغيير المكان ونتيجة للبعد عن ثقافة أجداده ونتيجة للبعد عن الحماية المكانية الاجتماعية لأن الكاتب لا يستطيع مهما بلغت درجة خياله أن يجعل أبطاله يتذكرون ماضيهم الاجتماعي والمكاني الا اذا استخدم هو ماضيه الشخصي المكاني والذي قد يختلف كثيراً . من الناحية الفنية أيضا لغة الكاتب السردية ، الوصفية جميلة خاصة عندما يبتعد عن الحوارية وهذه الحوارية كانت بالعامية وقد طغت وأثرت وحرمت المتلقي من أن يواصل الكاتب ابداعه اللغوي ، وهي ضرورة غلابة تحكم مسار الرواية السودانية بحيث أن اللغة الواقعية اليومية يجب أن تسود .. ما يجب أو ما ينصح به الكاتب أن يبتعد في كتاباته القادمة بالابتعاد عن اللغة التقريرية ، اللغة الواعظة واللغة والمصطلحات المهنية اذا كان المقام لا يتداولها مثل جملة « جرائم القتل من الجرائم المزعجة للمجتمع بل هي الأزعج للسلطات « هذه ليس لغة الراوي لأن الراوي يجب أن لا يقول أو يعلق ، وهي ليس لغة الكاتب أو بصمته الأسلوبية وانما لعنة الشرطية القانونية المهنية .