وجه رئيس الجمهورية عمر حسن أحمد البشير في خطابه امام الهيئة التشريعية القومية في الاول من ابريل 2013م الدعوة الى حوار قومي شامل، وقد سبق خطاب الرئيس اجتماع بين النائب الاول علي عثمان محمد طه والقيادي بالمؤتمر الشعبي الدكتور علي الحاج محمد نتجت عنه دعوة الى حوار قومي شامل وجهها النائب الاول في مؤتمر صحفي بتاريخ الثلاثاء السادس والعشرين من مارس 2013م. وقد قابل الناس تلك الدعوة بالترحيب الحذر جدا.. وذلك بسبب الدرس الذى تعلموه من التجارب السابقة وهو ان مصداقية الانقاذ تكاد تكون معدومة. ولكن دعونا نفترض ان لديهم من الأسباب ما يجعلهم يصدقون في دعوتهم هذه المرة، فما هي المآخذ عليها وحول ماذا وبين من وكيف يجب ان يكون الحوار ؟ تبسيط واختزال: يستشف من الاخبار التى جاءت في وسائل الاعلام ان الحكومة ترى « أ » ان يدور الحوار حول الدستور و « ب» ان تشارك فيه الأحزاب. وفي هذا تبسيط كبير للتحديات والمشاكل التى ادت الي عدم الاستقرار والحروب والتخلف واختزال لارادة السودانيين في اجسام لا تعبر عن كل ألوان الطيف الاجتماعي والجهوى في السودان. حول ماذا يجب ان يكون الحوار؟ الحوار حول الدستور مهم بقصد ادخال تعديلات على الدستور لتعزيز الحكم اللامركزى والحريات والشفافية والمساءلة على كل مستويات الحكم على قصور الاداء وعلى الفساد. ولكن هناك عوامل جوهرية كان لها دور كبير في عدم استقرار السودان منذ الاستقلال وحتى اليوم ، ويجب ان يدور حولها حوار صريح وعميق وشامل ، وفي مقدمة تلك العوامل اولاً العلاقة بين المركز والهامش، وثانياً الفشل في مقابلة هموم وتطلعات المواطنين العاديين، وثالثاً تطبيق الشريعة الإسلامية رفض الاعتراف بمشروعية تطلعات ومطالب المهمشين: في السودان وغير السودان عملت القوى الاستعمارية على تمكين فئات معينة دينية او اجتماعية او جهوية، محل ثقة لدى المستعمر، سياسياً واقتصادياً وثقافياً. وقد ادى ذلك الى بروز تباين كبير جداً في الحظوظ السياسية والاقتصادية والثقافية في المجتمعات المستعمرة تجلى بوضوح بعد ذهاب الاستعمار وصعود القوى التى عمل الاستعمار على تمكينها الى دست الحكم وصارت هي القوة المهيمنة. ولم يشذ السودان عن ذلك . فقد مكن الاستعمار الانجليزى القوى الاجتماعية التى ساعدته في دحر الدولة المهدية وتلك التى ناصبت المهدية العداء . وذلك عمل متوقع بالطبع. ولكن تلك القوى التى وجدت نفسها تحكم السودان بعد ذهاب الانجليز قد تحولت الي قوة شبه استعمارية و أسوأ كثيراً من الاستعمار نفسه وذلك بمحاولة تكريس هيمنتها ورفضها الكامل الاعتراف بمشروعية تطلعات ومطالب بقية القوى السودانية التى وجدت نفسها مهمشة وحظها في السلطة والثروة والثقافة قليل ولا يكاد يذكر. فقد تصدت القوى المهيمنة لتطلعات ومطالب القوى المهمشة بقوة السلاح مثلما حدث مع الاخوة في جنوب السودان مما ادى الى انفصال الجنوب ويحدث اليوم في غرب السودان وشرقه. وهذه المسألة يجب ان تناقش بصراحة وبدون دغمسة. هموم وتطلعات المواطن العادي: التحدى الاساسي الذى يواجه السودان والسودانيين اليوم هو الفقر الذى يزداد يوماً بعد يوم. وتقول الاحصائيات الرسمية ان « 46%» من السكان فقراء وان ثلاثة عشر مليون سوداني يعانون من سوء التغذية، ونسبة البطالة 20% ،ووصل معدل ارتفاع الاسعار الي « 47%» في السنة من اول ابريل 2012 الي نهاية مارس 2013م وهناك انهيار كامل لخدمات التعليم والصحة خاصة خارج العاصمة الخرطوم. وقد فشلت الحكومات السودانية المتعاقبة وخاصة حكومة الانقاذ في القيام بواجبات الحكومة الاساسية وفي مقدمتها: أولاً: حفظ أمن أرواح الناس وأمن أعراضهم وأمن أموالهم. ثانياً: اقامة العدل باعطاء كل ذي حق حقه والانتصار للضعفاء وحمايتهم من ظلم الاقوياء . ثالثاً: تسهيل معايش الناس بتوفير الخدمات الاساسية والبيئة المواتية للعمل المنتج وخلق فرص العمل والتحكم في ارتفاع الاسعار. وبدل ان توظف تلك الحكومات الوقت والموارد البشرية والمالية الشحيحة وفق سياسات واضحة ومفصلة اكتفت برفع الشعارات الهلامية والجوفاء مثل الإسلام طريق الخلاص والمشروع الحضارى وغيرها حتى وصلنا الى ما نحن عليه اليوم . والمطلوب ان يتناول الحوار الذى دعا اليه الرئيس عمر البشير السياسات المفصلة وخاصة الاقتصادية للخروج بالسودان من المستنقع الآسن الذى نحن فيه واستشراف مستقبل افضل. الشريعة الإسلامية وكيف تطبق؟ قد اثبتت تجربة السودان ان القوى السياسية الاكثر ضجيجاً ومزايدة بالشعارات الإسلامية وتطبيق الشريعة وخاصة جماعة الاخوان المسلمين بمختلف مسمياتها من جبهة ميثاق إسلامي وجبهة قومية إسلامية ومؤتمر وطنى وشعبي وحزب أمة والحزب الاتحادي الديمقراطي لم تعط موضوع الشريعة الإسلامية وكيف تطبق البحث والدراسة والنقاش الذى يستحقه. لان قيادات تلك التنظيمات كانت ومازالت مشغولة بطموحاتها وخصوماتها الشخصية جداً وهي ترفع الشعارات الإسلامية بقصد حلب عواطف المسلمين وللتغطية على مقاصدها الحقيقية. واعتقد ان على القوى الصاعدة وصاحبة المصلحة الحقيقية في مستقبل السودان وفي استقراره ان تناقش بوضوح وعمق وجرأة موضوع الشريعة الإسلامية وكيف تطبق وحقوق وواجبات المسلمين وغير المسلمين .لان تلك مواضيع حساسة ولا يجوز تجاهلها. ولكن بين من يكون الحوار؟ قوى الماضى وقوى المستقبل : جاء في الاخبار ان الدعوة الي الحوار قد وجهت الي رؤساء أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي والشيوعي والمؤتمر الشعبي وهذا تصرف متوقع ومقبول ولكنه ناقص. لانه لا يجوز ان يقتصر الحوار على الأحزاب السياسية لعدة اسباب اولاً: يمثل رؤساء الأحزاب السياسية السودانية بما فيها المؤتمر الوطني ماضي السودان وحاضره بكل ما فيه من فشل وأحزان. ولا اعتقد ان الذين صنعوا هذا الواقع البائس يملكون القدرات المطلوبة للخروج منه. وثانياً: ان تمثيل تلك الأحزاب لارادة شعب السودان امر مشكوك فيه. فقد برزت قوى جهوية في غرب السودان وشرقه لها منابرها الخاصة بها. كما برزت داخل تلك الأحزاب تيارات قوية وخاصة وسط الشباب مثل المجاهدين والسائحين في المؤتمر الوطنى وشباب الأمة وشباب الاتحادى الديمقراطي وغيرها ، وتلك التيارات ذات تحفظات قوية حول قيادات الأحزاب التى تنتمى اليها كما ان لها طروحاتها الخاصة بها حول هموم وتطلعات الشباب والوطن . وتلك التيارات الشبابية هي المعنية بالمستقبل وليس السادة المهدى والترابي والميرغني وغيرهم. وثالثاً تتطلب المناقشة الشاملة والعميقة والواقعية لتحديات الواقع السوداني مشاركة المكتوين بالنار وهم العمال والجنود والمزارعون والموظفون ومشاركة من لديهم الخبرة والمعرفة لتشبيك المواضع «articulation» وتقديم الحلول واعني بهم المفكرين والعلماء. ولهذا اعتقد ان الحوار سيكون قليل الفائدة اذا ما اقتصر على الأحزاب السياسية ولم تشارك فيه بقية القوى السياسية والاجتماعية. ولكن كيف يكون الحوار؟ صناعة الدعامات الفكرية القوية: يقول علماء التاريخ والعلوم السياسية، ان احد العوامل الاساسية لاستقرار انظمة الحكم في الغرب ونجاح الديمقراطية هو ان تلك النظم ترتكز على قواعد فكرية قوية شيدها الفلاسفة والمفكرون الانجليز والفرنسيين ولاحقاً الامريكان الذين اعملوا اذهانهم واجتهدوا في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر. ولكننا في السودان لم نعمل اذهاننا ولم نجتهد قبل استقلال السودان او بعده ولكن هذا لا يعنى ان نقول فات الاوان - بل ينبغي ان يكون الحوار الذى دعا اليه رئيس الجمهورية هو ضربة البداية لاجتهاد واسع وعميق لبناء دعائم فكرية قوية تشكل جزءاً اساسياً من ثقافة كل السودانيين ووعيهم لنبني عليها مستقبل السودان السياسي والاقتصادى والاجتماعي وهذا يتطلب أولاً ان يدور الحوار في حرية كاملة وبدون وصاية او فبركة او دغمسة، وثانياً ان تفتح كل ابواب الحوار مثل اقامة الليالي السياسية والورش وفتح الصحف والاذاعة وقنوات التلفاز لكل الناس. وثالثاً ان تشكل لادارة الحوار سكرتارية مستقلة عن الحكومة ومقبولة لكل الاطراف لتقوم عن طريق التشاور مع كل القوى التي سوف تشارك في الحوار بتحديد اجندة الحوار واين ومتى يجب ان يدور النقاش المباشر بين كل الأطراف. الحوار الجاد أقل البدائل تكلفة للحكومة نفسها: من الصعب القول ما اذا كانت الدعوة الى الحوار جادة ام مجرد محاولة لتخدير الناس لبعض الوقت. ولكن اذا كانت مجرد مخادعة فان عواقبها ستكون وخيمة جداً بالنسبة للحكومة .ولهذا اعتقد انه من الافضل للحكومة القائمة ان تتعامل مع الدعوة التى اطلقها الرئيس عمر البشير للحوار بجد وصدق لانها الفرصة الوحيدة للخروج من الواقع البائس الحالي باقل تكلفة. والا قد تفاجأ الحكومة ببديل اسوأ من الحوار ومن حيث لا تحتسب.