* ثلاثة أيام مريرة عشتها وأنا أتصفح واسترجع ذكريات عامرة وعزيزة وغالية مع ذاتى ودواخلى وأعيد قراءة صور فوتغرافية خاصة وأستعيد لحظات التقاطى لها وأتأمل ذاك الصوت الحكيم وتلك الوصايا والحكم وذاك الرجل الصامت صاحب الجسد الطاهر والذى لا يتحدث الا قليلا و عند اللزوم وكان حديثه ذهبا. *استميحك أخى قارئ هذه الزاوية فى أن أتناول سيرة والدي الذى رحل عنا العام قبل الماضى وترك دموعنا تسيل حتى الان على فراقه - نصارع هموم الدنيا. *لقد كان الراحل والدنا - حميدة عبدالرحمن أبوصباح - يرحمه الله ويغفر اليه « منهجا قائما بذاته ومثالا يحتذى به ومصباحا ينير الطريق وكان نموذجا فى كل شئ فقد عرفنا فيه وتعلمنا منه - العفة - الصبر - الصدق - الأمانة - الرزانة - الهدوء - الحكمة - النزاهة والثقة بالنفس ومع كل ذلك كان قمة التواضع والأدب، كان مستمعا جيدا وحليما وكان محل فخرنا - فهمه عميق وأفكاره نيرة أخلاقه عالية ومعشره طيب - يحسب خطواته جيدا ومن النادر أن يخطئ ولهذا كان محل احترام الجميع ومحل فخر لنا - كنا ومازلنا وسنظل نفاخر به ونتباهى - عهدنا فيه الجدية والقوة عند الشدة - ونشهد له بأنه أدى الأمانة تجاهنا وقام بكل الواجب ولم يقصر - يحبنا نحن أبناؤه وبناته و كل منا بطريقة معينة واختار لكل منا اسما يشير الى دلالة فسمى ولده الأول ب « عبدالرحمن » على والده العملاق والرقم والرمز الكبير عبدالرحمن أبوصباح - ووثق علاقته بصديق عمره « مجذوب عبدالمحمود العربى » حينما أسمانى به - واحتفظ بوجود وحياة وسيرة جده « أبوصباح » فاختار أن يكون ابنه الثالث « أبوصباح » ومن ثم جاء « محى الدين » تخليدا لذكرى أحد أصحابه فى منتصف السبعينيات، ثم أعاد اسم أحد اخوتنا الذى توفاه الله وهو صغير فكان اسم أخونا « عبدالمنعم » وكان الأخير « عبدالغنى » اكراما لجدنا والد والدتنا « عبد الغنى الحسن » يرحمهم الله جميعا ونحن. *كان أبونا وسيظل هو مصدر فخرنا - رحل والدى الكريم الخلوق « يرحمه الله ويغفر اليه ويجعل الجنة مثواه » ذهب ولن يعود شأنه شأن كل الأموات ولكنه موجود وسيبقى فى الدواخل يملأ القلوب وراسخ فى العقول ويتجسد فى سلوكنا وحياتنا ولا زال مكانه شاغرا وسيظل كذلك الى أن يرث الله الأرض وما عليها - فصوته مازال يرن وهو ينادى « ميمونة - صالحة - حكمت - عبدالغنى » ليلبوا له طلبا. *فجسده الطاهر مازال وسيبقى محفورا فى دواخلى وأمثاله سيظلون على قيد الحياة من خلال سيرتهم العطرة ونقائهم وعزتهم ومن خلال أبنائهم وبناتهم وأحفادهم . *أنا لا أرى مثل والدى فأعتقد فيه وأقتدى وأحبه من غير حدود وليس هناك شبيه له بالنسبة لى - فهو عندى من الثوابت والمبادئ التى أؤمن بها وهو منهج قائم بذاته فهو مثلى الأعلى فى الحياة وأسأل الله أن يتكرم علينا بصفاته وأخلاقه وفهمه وأدبه وتهذيبه وحكمته وصبره وعفته وقدرته على التعامل مع أى موقف - كنت أرى فيه كل شئ - حياتى ارتبطت به وستبقى كذلك الى أن ألحق به - برحيله « فقدت طعم الحياة ولم يعد هناك ما يفرحنى فيها فقد تغيرت كل مفاهيمى وأحاسيسى وبات من النادر أن يهزنى حدث أو أن انفعل مع أى جديد » - لقد عايشنا و تابعنا تعبه واجتهاده وشقائه وهو يسعى من أجل توفير لقمة العيش الحلال لنا - لم يضنه التنقل والبعاد والاقامة بعيدا عنا- كان يلبى كل طلباتنا ويأتى بكل ما نطلب ونشتهى - أحببناه كثيرا وكنا نبادله الحب ونضع له قدسية تجعلنا حيرانا أمامه ولا يستطيع أي منا نحن أبناؤه أن ننظر فى وجهه اكراما واحتراما له واعزازا وفخرا به - كان مهموما دائما بتوفير حياة كريمة لنا . *لقد كان والدنا أكاديميا فى حياته - كان مرتبا ومنظما وكان على الدوام صاحيا ونبيها - لم يكن يوما فردا تابعا بل كان على الدوام قائدا للقوم واماما يؤم المصلين وكان مفتيا و قاموسا ورمزا ضخما اجتماعيا من الدرجة الأولى عركته التجارب وشكل تنقله فى بقاع السودان المختلفة شخصيته - كان مستودعا للأفكار يحفظ المواقف ويحترم الجميع وله مكانة خاصة لدى الكل كنا نشاهدها ونحسها . *وضعه المولى عز وجل فى امتحانات عسيرة - ألم به المرض وحاصره وأقعده وأجبره على الجلوس ولكنه لم ينهزم وقابله بكل قوة فجسد الصبر فى أسمى معانيه وصوره - لم يتذمر أو يخرج عن المألوف بل كان صامدا وقويا وثابتا لم يئن أو يرضخ أو ينكسر وظل يقاوم الى أن جاءت ساعة الرحيل المؤلمة وبكل هدوء وفى ليلة حزينة استثنائية وبعد أن ودعت شقيقته المغفور لها باذن الله « ريا عبدالرحمن أبوصباح » الدنيا الفانية ، فكان الدور عليه وبعد ثلاث ساعات فقط فاضت روحه الطاهرة الى بارئها راضية مرضية - رحل حميدة عبدالرحمن أبوصباح ولكنه رحيل جسدى فقط فهو موجود فينا نحن « أبناؤه وبناته وأحفاده وأمنا الكريمة » وسيظل اسمه محفورا وموجودا وباقيا ما بقيت الدنيا . *أجد صعوبة بالغة فى مواصلة السرد لا سيما وأننى أكتب وكأن والدى الحنون بجوارى وأنا أجلس بالقرب منه كما كنت أفعل عند حياته وهذا ما جعلنى أراجع كافة الصور التى التقطها له عندما كان معافى وبعد أن أعياه المرض وأسترجع تلك اللحظات الخالدة التى قضيناها معه وبجواره منذ أن كنا أطفالا والى أن توفاه الله - لك كل دعواتنا الخالصة ونسأل الله لك الرحمة والمغفرة وأن يكرم مثواك ويتغمدك بواسع رحمته وينزلك مع الصديقين والشهداء، اللهم ان كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته وان كان محسنا فزد في احسانه ، واجعل حبيبك شفيعا له ، والزمه كتابه بيمينه واسقه من حوض نبيك والبسه الحلل واسكنه عالي الجنان واجعل قبره روضة من رياض الجنة آمين. *ومن أقسى أنواع الأحاسيس هى أن تشعر بأنك « يتيم » . مرت سنتان على رحيله ومازال صدى نبراته يملأ المكان ومرقده كما هو .