أخي د. نافع... كنت شاهداً قبل أعوام وأنت في ضيافة أهلك وعشيرتك بالسريف وكان برفقتك ثلة طيبة من الدستوريين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. تداعى لاستقبالكم الراكبون والراجلون من أهل السريف وهم ينظرون إلى السماء تواقين لرؤية نافع السودان وكوكبته الأمنية بصحبة كبيرهم وعاقلهم كبر وهو يباهي بجمهوره بالسريف وفدكم الميمون ملوحاً بعصاه لهم ولخيولهم، وأنت «تقدل» على أنغام نحاس أهلك الذي يسمع الصم، وبخور الحكامات يشق عنان السماء، وكان وقتها يترنم الأطفال «بابا نافع جاء جاب الخير وجاء» والثيران والخراف ترقص طرباً وتستعجل السكين لتأخذ فضل الضيافة لقوم يستحقون، حتى طيورنا الداجنة تمنت لو كان لها شرف الضيافة، وليتنا ذبحنا الرجال يا أبا الرجال لمقدمكم؛ لأنهم ذُبحوا بعدك ذبحاً من غير رحمة ولا شفقة من اثنيات كنا نعاملهم كالإخوان ولكن وجدناهم عكس ذلك. ما يربو على ستمائة مواطن من شعبك بالسريف، استشهدوا بمعارك من غير معترك سوى انهم وقفوا سداً منيعاً حماية للارض والعرض، فدفناهم بمدافن الفؤاد والأكباد، وكتبنا على شواهد قبورهم بحبر الكرامة: الى جنات الخلد سيروا ونحن على دربكم سائرون، غسلناهم بدماء مسكية الرائحة وتيربناهم لينبتوا شجر العز والشرف والوطن وهم الآن في طور البادرات وانت ابو الزراعة والفهم والرأي. نكتب وفي الحلق غصة ونوثق لستمائة مواطن عشقوا الشجرة وصححوا مسارها، وسمودها بأجسامهم، وطعموها بكرمهم فاستوت على سوقها، ولكن حصدتهم مدرعات المرجفين ومحبي الظلم الجالسين بعيداً عن الاحداث والمحركين لها في الاصل لا لشيء نبيل ولكن للطمع، والجشع، وتمني الوصول للكرسي الذي يسعون له بشراب نخب الخزي والعار وهم بعامراتهم يضحكون، فأسكنوهم خطة اسكانية عكسية تحت الارض. ستمائة مواطن قطنوهم بباطن الارض كسكن سرمدي من أناس لا ارض لهم معنا في الاصل، فكنا نتقاسم معهم السدرة، فعجلوا بأرواحنا لسدرة المنتهى، وكنا نفتح لهم قلوبنا ولكنهم افرغوها من كل شيء وملأوها بالذخائر، في وقت بدأت تصلي فيه البندقية في صلاة السر، كنا نحسبهم كقوم موسى، ولكن وجدناهم فراعنة تنقصهم الاهرامات، فقتلوا فينا اشواق العروبة، لاننا كنا نتعشم ان تعبر بنا المحيط كغزاة في سبيل الله سوياً ولكنهم اغرقونا وقدمونا قرباناً لاسماك القرش من أجل المال والقرش المتبوع بالفتنة دوماً. لقد بكى كل من زار اهلك بالدمع السخين لان الغزاة حرقوا القرى كلها، حتى الجنود اليونميدية تأثروا وبكوا بدموعهم الصفراء من شنيع الفعلة، لحصارهم ومنع الكيل منهم ولم يكن اهلك من مطففي المكيال يوماً، وبلا ذنب سوى ارضاء جنرالات الوجاهة الزائفة المسنودة بالجهل والطمع وحب السلطة، فأدخل اهلك لقاموس السياسة مصطلحا جديدا هو النزوح في الوطن الأم محروق الحشا، فسكن ما يربو على المائة الف مواطن تحت الشجر والحجر وهجير الشمس في موضع واحد بالسريف يزيد عددهم عن نازحي معسكر ابو شوك بالفاشر والذي دوّخ سماسرة الاستكبار فلم يكن نصيبهم سوى فتات موائد العون الانساني، وجهود الوالي كبر الكبيرة بطيبة خواطره، وكرمه، والذي نزل بطائرته والمعركة مستمرة، ولكن رغم احوالهم الصحية والانسانية السيئة التزموا بتوجيهات الوالي بالترفع عن اعانات داعمي صعاليك كمبالا راكبين المايلا والمجتمع الدولي المتكبر فصبرنا امتثالاً لامره وطمعاً في ممدكم العاجل، وعدالتكم التي لا تخشون فيها لائم، فهم الآن بشيبهم وشبابهم ونسائهم ورجالهم مرقدهم الارض بالسريف والقتلة مرقدهم بذهب جبل عامر، بينما ينتظر اهلك هجير الشمس ولسعاتها وينظرون اليك بنظرة الراعي والابن وخريف الخير ركامه تبشر بالغيث الوفير. لكم الله أهلي وأطفالكم ينتظرون عودة الأب الحنون بالعشاء وما دروا بأن الأب رحل في رحلة بعيدة.. بلا رجعة وترك لغيره دنياوات الحسد والظلم وأجبر على حياة ثانية فمن غيره يأتي باللبن والكراس والدواية والعراقي؟ ومن أين لهذا الشيخ الهرم بابن يرعاه ويمسيه ويصبحه ويقول «أعفي مني يا أبوي»؟، ومن اين لهذه الحسناء اليافعة بولي امر يعقد القران لها وينصحها «انتي بنيتي كن لكلامي تسمعا» ما حدث يقطع الوجدان ويدمي الفؤاد لأنهم حصدوا كذرتهم التي يزرعونها بالسلاح فضربوا بجباههم وصدورهم، وخرجت أرواحهم، وشخصت عيونهم وهي تسأل لمَ كل هذا يا ولاة الامور؟ قتلنا! وحرقت منازلنا! ومنعنا الكيل وحوصرنا! أدركوا أهلكم وابحثوا عن الحل وشخصوا الحكاية، فهي في الأصل خلق فتن منسوجة وعدم استقرار وتحريض من الذين يدعون بأنهم قادة وما هم بذلك. لكم الله أهلي، كنا ندخركم لهذا البلد الطيب، وكنا نفاخر بكم في المحافل الرجولية وكنا نعدكم لتسندوا الشجرة الوارفة وتحرسوها من رعي الابل الذي لا يفرز اليابس من الأخضر، وكنا نعدكم لتخرجوا ذهب الجبل العامر لتعمروا به الوطن، وكنا ندخركم لتنشروا الدين بخلاويكم وتدعوا بالحفظ للسودان ولكن اخلاق اشباه الرجال تضيق. فلم يبق لنا سوى الكلمة الحزينة والقصيدة الحنينة وانين الحكامات وهن ينشدن بطولات الشهداء والارث الذي ورثناه وزعناه وسنحفظه ونحن نزف مواكب الشهداء هو إرث العز والشرف والكرامة.