ما من أمة أهملت تاريخها وهمت تغدو بين الأمم بدونه إلا وتعثرت في طريقها لأن الحدث التاريخي ما هو إلا عون للأمة لتستلهم منه عزتها وكرامتها.. وتشهد هذه الأيام عدة أنشطة أرجعت لمجالات الآثار والسياحة وآخرها المهرجان السياحي الذي تشرف عليه وزارة السياحة.. ولعمري فإن الاثار تمثل ركناً هاماً من هذه الأنشطة وهو فرصة مواتية لمواقع وآثار تاريخ البلاد للظهور فنحن أمة لعبت أدواراً تاريخية وهامة منذ العصور القديمة التي أطل فيها بعانخي وتهراقا وغيرهم من ملوك سنار والعبدلاب ثم العصر المهدوي الحديث الذي تطلع فيه العالم الحديث إلى السودان كمفجر لأول ثورة ناجحة في العالم الثالث. ولعل جيلنا الحالي لم يزود بذلك التاريخ إلا من خلال أسطر قليلة قابلته في المدارس والمعاهد دون أن يلحظ أي نشاط للدولة لكي تجعل الأمة بأكملها تشهد تلك الأحداث من خلال آثارها وأحداثها.. تناولت هذه المقدمة وأنا أشهد حدثين هامين يلعبان أدواراً ذات معنى ومغزى تاريخي وتراثي، ومعلمان تجري بعض الأنشطة ليقفان شواهد على أهم مرحلة من مراحل تاريخ هذه الأمة.. أولهما ما حدث قبل أسابيع قليلة في الجزيرة أبا والتي اندلعت من فوق أرضها أعظم ثورة فجرها الشعب السوداني ثم ظلت بعد ذلك تلعب أدواراً هامة في مسيرة التاريخ.. حيث قامت ورشة ذات أوراق بحثية وعلمية تؤطر للجزيرة تاريخها وتبحث في أحداثها وتؤسس لأرضها وبنيتها التحتية المستقبل الذي يليق بها كبؤرة كان من الواجب أن تشارك مؤسسات الدولة في مساندة هذه الأنشطة جرياً وراء اضفاء القومية على الثورة المهدية بدلاً من الخطب المنبرية التي تدعي بأن ما يجري هو امتداد للثورة المهدية. لقد كان لحضور الامام الصادق المهدي لهذه الورشة التي شهدها ثلة من العلماء والمؤرخين أثر كبير في أن يبين أهمية هذه الورشة بعيداً عن مجال السياسة والصراعات وتأكيداً لاضفاء القومية على أحداث الثورة المهدية التي انطلقت من تلك الأرض الطاهرة لتعم كافة أرجاء السودان ثم تنتشر أحداثها خارج البلاد لتخوض في أمرها الصحف والاسفيرات وقيادات أعتى البلاد قوة ومنعة، إن اليد الواحدة لا تستطيع أن تصفق وان الشجاعة الوطنية تقتضي على ولاة الأمر مد يد الدولة إلى هذا العمل الجليل لتصبح "أبا" أحد المعاقل التي يسطع نورها أمام الأجيال المتعاقبة والزائرين لبلادنا ليعلموا أن هذا الشعب قد لبس في تاريخه ثوباً من الفخار. وأظن وكما أعلم فإن الامام الصادق يشعر بمسؤوليته الهامة تجاه هذا المكان الذي ظل حتى الآن يحافظ على مجده وعظمته ولكن هذه المسؤولية تحتاج إلى روافد تشارك فيها الأمة مع كيان الأنصار الذي ظل يحمل على كاهله مهام هذا التاريخ الحافل. لقد كان للفتة البارعة التي أقدم عليها الأخ والي الخرطوم ومعتمد بحري في الاحتفال بالطابية التي شيدت لصد هجمات العدو الغاشم والتي وجدت صدفة وسط أحراش النيل فأقيم بعد ترميمها احتفال أمته جماهير بحري وأرفق معه معرض خلاب حفل بالأسلحة والحراب وشذرات من تاريخ الموقعة التي بذل فيها أهل السودان الغالي والنفيس، وقد أوفد امام الأنصار ممثلين له اشادة بهذا الحدث وتأكيداً على قومية الثورة المهدية وأصالتها. كما كان للأخ الزبير بشير طه والي ولاية الجزيرة والأخ وزير الثقافة بالولاية إعداد يوم تاريخي حافل لموقعة الشكابة التي شهدت مأساة إعدام أبناء الامام المهدي الفاضل والبشرى ومعهم الخليفة شريف وقد كان الاحتفال يعج بالرجال والنساء والأطفال لأول مرة في التاريخ ليشاهدوا "شجرة الجميزة" التي استشهد تحتها الأبطال الثلاثة، لقد سكب الزبير الدموع على الشهداء والذين كان من ضمنهم جده لأمه.. هكذا يكون اضفاء القومية على الأحداث الوطنية الهامة فأين شيكان وأين توشكي وأين النخيلة وغيرها. لقد أشرفت في عام 1966 على اخراج معركة شيكان عندما كنت معلماً بمدرسة خورطقت الثانوية عند زيارة الامام الشهيد الهادي فأخرج طلاب طقت والأبيض ذلك اليوم بحذافيره على نفس الموقع وبنفس نبضات التاريخ والمعركة حتى وان بعض الناس اقتحموا الموقع ليشاركوا أبناءهم في تمثيل الموقعة ولعل الأحبة عبد الرسول النور ود. بشير عمر وغيرهم يذكرون ذلك. لعلي أطلت ولكن الاطالة لأرفع النداء للدولة لاضفاء القومية على تاريخها والاهتمام بآثار ومواقع الدولة في سابق عهدها. أما الحدث الثاني وهو "البقعة الجديدة" فقد أطلق مجلس الحل والعقد مقترح إنشاء مؤسسات حديثة تقدم خدماتها لكافة أفراد الشعب السوداني وتعيد لمدينة أم درمانمجدها الذي شهدته كعاصمة وطنية اختارها الإمام المهدي لتكون على رأس الدولة الإسلامية المهدية ثم لتكون ملجأ عاماً لكافة فئات الشعب وقد تكللت المساعي بالنجاح حين ساعد السيد والي الخرطوم في تخصيص جزء من الأرض المطلوبة ثم شرع المجلس في تكوين مجلس للأمناء وجهاز تنفيذي للبدء في هذا العمل الكبير، وانتهت اللجنة التنفيذية من إعداد الخرط ورسم المواقع والتي ستحتوي على مسجد كبير ومدينة طبية وأخرى جامعية ومعهد حرفي وخلاوي للقرآن الكريم ومساكن للمشرفين، ونرى الإمام الصادق المهدي قد خصص جزءا كبير من وقته ونشاطه لإقامة هذا الصرح والذي يحتاج إلى همة كبيرة وأيد خيرة وتفهم من الدولة لهذا الصرح، وأرى أن هناك خططا أعدت للتنفيذ ليشارك كافة الأنصار في بقاع ونجوع السودان وكافة المواطنين للمشاركة في هذا العمل التاريخي النبيل. ونشيد بالهمة العالية التي اتسمت بها وزارة السياحة والآثار والتي وضعت ضمن مهرجانها واحتفالاتها برنامجاً يحوى زيارة طابيات الأنصار التي شيدت للدفاع عن أرض الوطن وسقط من تحتها المئات من الشهداء وقد تقدم الموكب امام الأنصار وثلة من المهتمين بأمر الآثار من الوزارة وغيرهم. ان هذه اللفتة الكريمة حتماً سيفسح لها التاريخ مكاناً في أذهان أجيالنا ، وليت هذا النشاط الطيب التفت إلى ميدان الشهداء بأم درمان الذي كتبت عنه بأنه يحتوي على عشرات المقابر التي استطاع أهل شهدائها نقلهم من أرض المعركة إلى هذا المكان الطاهر الذي أصبح تعج فيه السيارات والسابلة وأصحاب الأغراض التي لا تتفق وقداسة المكان.