ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأبيض .. المدينة الرائعة
نشر في الراكوبة يوم 30 - 08 - 2010

إذا جاز لنا أن نختزل وصف مدينة الأبيض في كلمة واحدة فسنقول إنها رائعة .. وعندما يكتب عن الأبيض واحد من عشاقها الصوفيين يصعب عليه تحديد من أين يبدأ ؛ إذ أن الموضوعات تتزاحم .. والذكريات العذبة تتدافع شيقة وندية .. والتاريخ يطل مطالباً بحقه في أن يروى وأن يوثق .. وبالمثل الأصالة .. والبسالة.. والوطنية.. والقومية السودانية التي تجسدها تلك المدينة العظيمة . لكل ذلك فإن تناول مثل هذه الجوانب يغري بالاسترسال والإطالة ؛ وهو ذو شجون ومتعة .
لا أهدف من وراء هذه السلسلة من الموضوعات فقط إلى إشباع أبناء الأبيض ، بل أيضاً إلى إضفاء أجواء الإلفة والدفء لأبناء السودان جميعاً ، وخاصة من هم بعيدون عن أرض الوطن ، وذلك بالكتابة عن إحدى مدن السودان التي تحمل سماته القومية . وأنا واثق -أو هكذا آمل - أن ما نتناوله سوف يشيع أجواء عامرة من المشاعر الوطنية ، نود أن يتشبع بها الجيل الجديد من الأبناء ؛ كما نرجو كذلك أن يعيد ذكريات عزيزة لأبناء الجيل القديم ( جيل البطولات وجيل التضحيات .. أم تلك مسألة فيها نظر؟ !) تجعلهم يستعيدون نكهة فترة خصبة من تاريخ السودان عاشوها وتنسموا عبيرها .. والذكريات كما يقول شاعرنا محمد عوض الكريم القرشي «نهضت بجيلها» نحن في مباهاتنا بمدينتنا لا ندخل في منافسة مع عاشقي المدن والقرى الأخرى في السودان ? بل على عكس ذلك نرى أن حبنا جميعاً لمدننا وقرانا هو أساس حبنا لوطننا الكبير السودان . وسوف أحرص على أن ينصب التركيز في ما سوف أتناوله على الجوانب ذات الأهمية العامة ، حتى لا يكون مجرد نوستالجيا لمتعة أبناء الأبيض .
الحلقات التي أزمع موافاتكم بها تتضمن :
عروس الرمال - اقتصاديات المدينة- أنظمة المواصلات - العراقة التاريخية للمدينة ? الأبيض عاصمة المهدية - الحركة الوطنية ? حركة الوعي والتنوير- الأبيض عاصمة الغرب ? ( بعض هذه الموضوعات سبق أن تم تناولها في إحدى أمسيات السمر في النادي الاجتماعي للجالية السودانية بسلطنة عمان ؛ شارك في تقديمها معي الأخ الزاكي جمعة ؛ ونوجه له الدعوة بإمتاع قراء المنبر بمساهماته الشيقة ، وخاصة ما يتعلق بالحركة الفنية ) . كذلك سوف نلقي الضوء على منظمة الأبيض الطوعية للتنمية والتعمير والجهود المخلصة التي يبذلها الإخوة القائمون عليها للنهوض بالخدمات الطبية والتعليمية في المدينة . وبالطبع لن ننسى خورطقت التي لها في نفوسنا مكانة خاصة.
وسوف أحرص على أن لا تأتي الموضوعات جافة وعسيرة الهضم .. فمدينتنا لم تعرف بالعسر والإثقال ؛ بل إن أبرز ما عرف عنها جاذبيتها وبساطتها المحببة التي جعلت أفئدة الناس تهفو إليها .. كما أنها مدينة ذاخرة بالظرفاء من أمثال المرحوم الشيخ الكجيك والمرحوم خضر المبارك وعثمان الشيخ وود الزين والسفاح ! وبما أنني جديد على المنبر آمل أن تكون الموضوعات منسجمة مع طبيعة المنبر وروحه .
عروس الرمال
إن أول سمات مدينة الأبيض هو جمال الطبيعة والحلة الزاهية التي تكسوها ? بل وتكسو كردفان كلها ? في فصل الخريف . ولعل هذا الجمال وراء عبارة « عروس الرمال « هذا الاسم الشاعري لمدينة الأبيض الساحرة ..
يقال إن أول من أطلق هذا الاسم عليها هو الصحفي عبد الله رجب ، وفي رواية أخرى هو أبو الصحف أحمد يوسف هاشم رئيس تحرير صحيفة السودان الجديد . ولقد أصبح اسم عروس الرمال هو الأكثر استخداماً في الكتابات الأدبية ، وفي الشعر على وجه الخصوص . الشاعر محمد أحمد محجوب ، عاش في الأبيض في الأربعينات من القرن الماضي حيث عمل قاضياً للمديرية ، وقد أحب المدينة ، وكان أحد الأركان الهامة في مجتمعها ، ومشاركاً في منتدياتها الثقافية والأدبية العامرة . كتب المحجوب العديد من قصائده أثناء تلك الفترة . . وقد وردت عبارة «عروس الرمال» في هذه الأبيات المأخوذة من إحدى قصائده العاطفية :
يا عروس الرمال فخر التلال ومقر العزيز من آمالي
وحبيب أهدابه كالنبال ذي جمال يفوق كل جمال
كم سعدنا بهجره والوصال
وفي قصيدة لشاعر شاب كان أستاذنا في مدرسة الأبيض الأميرية الوسطى ، وهو الأستاذ أحمد عبد الجواد نجد عبارة عروس الرمال ترد في إحدى قصائده التي تفيض حباً وشوقاً وحنينا لمدينتنا الخلابة ( لعلكم قد قرأتم في الأسبوع الماضي المقالة المؤثرة للأخ والصديق السفير / أحمد عبد الوهاب جبارة الله في سودانايل يصف فيها ما آل إليه حال هذه المدينة نتيجة الإهمال المستمر .. ومعاناة أهلها في معيشتهم وصحتهم وتعليمهم ومائهم وكهربائهم .. وهذه موضوعات للبحث الجاد مستقبلاً )، حيث جاءت هذه الأبيات:
يا عروس الرمل يا زين الرمال
يا مهاد الحسن يا مهد الجمال
جددي عهد الهوى عهد الوصال
إنما الشوق حنين وأنين
هاجت الذكرى وماجت في الحشا
ثم دب السقم فينا ومشى
وصبت نفسي إليكم عطشا
مثل ما تصبو إلى ماء معين
وأورد هنا أبيات من قصيدة لي عن مدينتي:
مدينتي يا عروس الرمل يا طربي
أنشودتي وتراتيلي وتلحيني
يا غادة في ثياب السعد رافلة
يحفها الطيب من كل الأفانين
يا واحة الروح كم لي فيك من ذكر
يا ليتها لو تعود اليوم والحين
اقتصاديات المدينة
السمة الثانية التي أكسبت المدينة حيويتها وجاذبيتها ورخاءها هي مواردها الاقتصادية الثرية ، فهي قلب كردفان الغرة أم خيراً برة .. حيث الصمغ العربي والحبوب الزيتية والذرة والكركديه والثروة الحيوانية . وحتى قيام مشروع الجزيرة ( عام 1926م ) كانت كردفان أكثر مناطق السودان ثراء بالموارد الاقتصادية. وقد عرفت كردفان التجارة الخارجية قبل نشوء أنظمة المواصلات الحديثة ، إذ كان يتم تصدير الصمغ العربي والجمال إلى مصر . وتشير وثائق التاريخ إلى لقاء تم بين محمد علي باشا مع ناظر قبيلة الكبابيش هدف إلى بحث تنظيم انسياب التجارة .. المستوى العالي لهذا اللقاء يدل على الأهمية الكبرى لصادرات كردفان.
قاد هذا الثراء الاقتصادي إلى نشوء أساليب تسويق متقدمة ، وإلى التعامل بالنقد مقابل علاقات التبادل السلعي التقليدية . وكان من نتائج هذا الاقتصاد النقدي أن ساعد على تمازج القبائل والفئات الاجتماعية المختلفة التي نشأت تحت ظل هذا النشاط المزدهر . وكان ذلك احد عوامل بروز القومية وإضفاء الطابع القومي على مدينة الأبيض ، بل والطابع الكوسموبوليتان ، كما تعكس ذلك الأجناس الأجنبية المتعددة التي عاشت في المدينة من مصريين وشوام ومغاربة وفلاتة وأرمن وهنود ويهود ؛ هذا إلى جانب العديد من قبائل شمال ووسط وغرب السودان . ولقد ضمت الأبيض قبائل كردفانية عديدة ( حمر ? نوبة ? حوازمة ? جوامعة ? غديات ? بديرية ? هوارة ? شويحات ؛ ولعل هذه القبائل الثلاث الأخيرة هم النواة لسكان الأبيض.
جاء في « مذكرات يوسف ميخائيل « ، كدليل على أن مدينة الأبيض قد عرفت الاقتصاد الحديث والتعامل بالنقد ، أن من العملات الذهبية التي كان يتم التعامل بهافي الأبيض : الجنيه - الفرج الله - البندقي ? المجري ? المحمودية ? المجيدية ? الخيرية ? الربعية . ومن العملات الفضية : المجيدي ? أبو شنيكو ? المصري ? أبو مدفع ? أبو مسلة ? أبو نقطة ? القشلي إلى جانب الخردة من الأرباع والقروش والطبر والدمج.
يوسف ميخائيل ، مؤلف هذه المذكرات ، هو العم يوسف القبطي الكردفاني ? من أبناء حينا في الأبيض - . وتعتبر مذكراته هذه مرجعاً أصيلاً لتاريخ نهايات العهد التركي وفترة المهدية في الأبيض، كما يؤكد ذلك الدكتور / محمد سعيد القدال .
تطور أنظمة المواصلات
لقد امتد خط السكة الحديد إلى الأبيض في وقت مبكر ? عام 1912 م ، وهو أول خط سكة حديد في السودان ينشا لسبب اقتصادي ، إذ أن الخط الأول من حلفا إلى الخرطوم كان قد أنشئ لأسباب عسكرية. وقد أسهم خط السكة حديد ليس فقط في نقل موارد كردفان وسلعها إلى أسواق التصدير ، بل أسهم أيضاً في جلب السلع الاستهلاكية من أنحاء السودان المختلفة ، وكذلك السلع المستوردة لتجد طريقها للمستهلكين في كردفان ودارفور ، بل وإلى إفريقيا الوسطى وتشاد . كما ساعدت السكة حديد في انفتاح الأبيض واندماجها أكثر مع عاصمة البلاد والمناطق الأخرى . وقد دخل القطار على الأدب الكردفاني ، حيث شدا القرشي « القطار المر « وكتب شاعر الأبيض محمد المكي إبراهيم « قطار الغرب»:
اللافتة البيضاء عليها الاسم
باللون الأسود باللغتين عليها الاسم
هذا بلدي والناس لهم ريح طيب
بسمات وتحايا ووداع ملتهب
كل الركاب لهم أحباب
هذي امرأة تبكي
هذا رجل يخفي دمع العينين بأكمام الجلباب
« سلم للأهل ولا تقطع منا الجواب
وارتج قطار الغرب تمطى في القضبان
ووصايا لاهثة تأتي وإشارات ودخان
وزغاريد فهناك عريس في الركبان
ونشأ تبعاً لوصول السكة حديد على الأبيض نشاط النقل البري ، والذي ازدهر في الأبيض وغرب السودان مبكراً وسابقاً لمناطق السودان الأخرى . وشكل النقل البري نشاطاً حيوياً أسهم في تكوين شخصية مدينة الأبيض ، وأدى إلى نشوء فئات اجتماعية من سائقي اللواري المهرة ، الذين شقوا طرق الغرب الوعرة بتلالها وكثبانها الرملية بصبر وعزيمة ، وأسهموا في تطوير التجارة وبث الوعي القومي.... وفاء لهؤلاء الرواد الأوائل نذكر بالتقدير الخليفة شابو ، قاهر 17 قوز، وعلي شقلبان ، وآل بكراوي . ( للأسف لم ينشأ طريق الإنقاذ الغربي حتى الآن)!!
وتنظيماً للنقل البري ، وحفظاً للحقوق ، وصوناً للبضائع المنقولة ، نشأت المكاتب التي تنظم تلك الخدمات نظير عمولة commission ولذلك عرف أصحاب تلك المكاتب بالكومسنجية! . كذلك نشأت تجارة قطع الغيار ، وفتحت مكاتب للشركات المستوردة للسيارات . كما أدت حركة النقل البري إلى بروز فئات من العمال المهرة من العاملين في مجالات الصيانة وإصلاح السيارات ، وتأسست جراجات ذات مستوى جيد ، مثل جراجات بندلي ، وعبد المتعال محمد عبد الله ، وباسيلي بشارة ؛ وكان لها الفضل في تكوين بعض الفنيين الذين أصبحوا لاحقاً من رواد الصناعة في المدينة ؛ نذكر منهم المرحوم أبشر أحمد وعبد الرحمن أبو ستة . ومن ثمرات هذا النشاط المرتبط بالنقل البري أن تأسست أول شركة لتأمين السيارات في السودان ؛ ومن مؤسسيها المرحوم منصور حمد راضي والمرحوم إبراهيم العتاق.
وفي مجال نقل البضائع داخل المدينة ، كان يوجد بالأبيض ترماي لنقل البضائع ، يسير على سكك حديدية وتجره الخيول .. ولا أخال هذه الوسيلة المبدعة موجودة في أي مدينة أخرى ! .
أهمية الأبيض
من أهم مميزات مدينة الأبيض موقعها الاستراتيجي وعراقتها التاريخية ؛ فهي ليست مدينة عارضة ، ولا هي نشأت في عهد الحكم الثنائي ? ولا حتى في فترة التركية ? وإن كان الحكام في العهد التركي المصري قد اكتشفوا أهميتها الاستراتيجية ، إذ كانت أهم مدنهم عسكرياً وإدارياً واقتصادياً ؛ فلقد كانت الأبيض قبل ذلك عاصمة مملكة المسبعات ، كما كانت من أهم المدن الإفريقية ذات الارتباط بمدن غرب وشمال إفريقيا ، خاصة وأنها تقع في طريق رحلات الحجاج.
وقد وجدت الأبيض نفس التقدير لأهميتها الإدارية والعسكرية من الحكم الثنائي أيضاً. كان يتم اختيار مدير كردفان عادة من الإداريين المتميزين . كما أن درجته الوظيفية تكون دائماً الأعلى من بين مديري المديريات الأخرى . وقد تقلد عدد من مديري كردفان منصب السكرتير الإداري ، وهو أعلى منصب إداري في عهد الإدارة الإنجليزية ؛ من هؤلاء سير نيوبولد ، ومستر جلن . وقد تواصل ذلك التقليد المتمثل في اختيار الإداريين الممتازين لمنصب مدير كردفان في العهد الوطني أيضا . ومن أبرز مديري كردفان السيد سليمان وقيع الله ، والسيد عبد الله محمد الأمين ، والسيد محمد أحمد الأمين .
أسباب تميز الأبيض
سألت شقيقي الأكبر عبد القادر خليفة - وله كتاب صدر قبل سنوات عن مدينة الأبيض - عن سر تميز هذه المدينة ، وتمتعها بمعدلات عالية من الحس الوطني ( نتناول لاحقاً دور الأبيض الوطني ، والذي تجلى في مناسبات مختلفة وفي مختلف الحقب والعهود ) .. زودني بإجابة أرجو أن أعرضها هنا بإيجاز ؛ فهو يرى أن مرد ذلك التفرد يعود إلى أسباب موضوعية ومن داخل التاريخ توفرت لهذه المدينة:
* فهي العاصمة الأولى لأول دولة مستقلة في إفريقيا . وكان سبب اختيار الإمام المهدي للأبيض لتكون عاصمة للدولة هو إدراكه لوزنها السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، خاصة وأنه قد عرفها صوفياً مبشراً ، وخبرها وهو يتحسس طريقه سراً إليها ، فلقد زارها مرتين خلال نضاله السري . وكما وصفها د. محمد سعيد القدال كان لتلك المدينة شيء بل أشياء في نفس الإمام ، فقد شهدت انتكاساته كما شهدت انتصاراته.
* لقيت الأبيض على يد الدفتردار وهو يقود حملته الانتقامية ما لم تجده أي مدينة أخرى من الاضطهاد والتنكيل . فقد احتلها عام 1821م وغرس في نفوس أهلها الغضب الشديد على الحكم الأجنبي . وبشكل عام تعرضت قبائل كردفان خلال فترة التركية إلى أساليب عنيفة من البطش .. كان أعنفها كمية وطريقة جمع الضرائب التي أرهقتها إلى مدى بعيد . وقد فسر د. قدال ذلك : «بأن بعد كردفان عن مركز السلطة في الخرطوم وضعها تحت رحمة الحكام الإقليميين ونزوعهم القاسي للثراء على حساب الأهالي ، فأوسعوهم ضرباً ونهباً ما وسعهم إلى ذلك سبيل .. ولم يكن أمام الناس في حالة سخطهم إلا الاخذ بالفكرة القريبة إلى وجدانهم ن والتقاطها سهل عليهم دون تعقيد .. وهي فكرة المهدي المنتظر»
* أول حاكم وطني في العهد التركي هو الياس باشا أم برير ، حاكم إقليم كردفان كان من أبناء الأبيض ، وهو يمثل فئة التجار والتي كانت فئة فتية ومتطلعة للسلطة حماية لمصالحها من منافسة الشركات الأجنبية .
* في ليلة الجمعة 8 سبتمبر 1882م سقط أكثر من عشرة آلاف من جيش الثورة المهدية عند هجومهم على الأبيض . وشهدت المدينة جثث القتلى المتكدسة ، والأوصال المتقطعة والأجسام الممزقة والجماجم المبعثرة والدماء السائلة . مثل هذا المشهد لا بد من أن يراكم الغضب في النفوس والصدور وينتقل من جيل إلى آخر.
* بعد تلك الهزيمة بأربعة أشهر حققت الثورة المهدية أكبر انتصاراتها بتحرير الأبيض في التاسع عشر من يناير 1883م ، وكان الانتصار مفخرة وطنية ، وكانت له نتائج هامة . ومن الجدير بالذكر أن الانتصار تم عن طريق حصار المدينة فقط ، وبدون هجوم أو فقدان أي مقاتل.
* ثم جاءت شيكان أشرس وأضخم معارك المهدية .. وقد شارك في المعركة سكان مدينة الأبيض جميعهم رجالاً ونساء ، ولم يبق بالمدينة إلا العجزة .. خرجوا جميعهم بروح معنوية عالية إلى ( السهل المبارك ) وكان الانتصار الباهر . وهذه مفخرة وطنية كبرى لمدينة الأبيض . من هو المقاتل الذي أردى هكس باشا صريعا؟ لعله هو أحمد البدوي دفع الله الشويحي ? من أبناء الأبيض.
* بعد انتصارات الأبيض وشيكان تحولت الأبيض إلى عاصمة للدولة التي ولدت حديثاً .. وبدأت عملية وضع الأسس لإدارة هذه الدولة . ولقد قضت تلك الانتصارات على نفوذ الحكم التركي المصري في السودان قضاء مبرما.ً ووقفت الحكومة البريطانية في مصر عاجزة أمام الثورة .. فتمخضت دبلوماسيتها عن إخلاء السودان وسحب الحاميات منه .
* المهم هنا هو أن أسلوب الحصار الذي أدى إلى هذه الانتصارات كان من إبداع القيادات المحلية في الأبيض ، وهو الأسلوب الذي استخدمته الثورة المهدية في تحرير الخرطوم .
* هذه بعض الأحداث الهامة التي أسهمت في تكوين معالم شخصية مدينة الأبيض، إذا صح استخدام هذا التعبير ، وفي بلورة وجدان أهلها ومشاعرهم المشتركة ؛ وهي تقدم بعض التفسير لسر تفرد هذه المدينة الباسلة .
لمحة عن الحركة الوطنية
نرجئ البحث التفصيلي عن الحركة الوطنية حالياً ، وذلك توافقاً مع النسق العام لهذه الكتابات، ونكتفي بلمحة عن إسهام الأبيض في الحركة الوطنية . فلقد شاركت الأبيض في كل النشاط الوطني والسياسي والاجتماعي الذي عرفه السودان ؛ ولم يكن دورها مجرد انعكاس لما يجري في المركز ، بل كانت للأبيض مبادراتها ومساهماتها الأصيلة.
نبدأ هذه اللمحة بتناول دور نادي الخريجين ونادي الأعمال الحرة . فقد تأسس نادي الخريجين عام 1936 تحت اسم نادي الضباط والموظفين ، ثم تحول إلى نادي الخريجين ، وضم إلى عضويته المثقفين والمتعلمين والمستنيرين من غير الموظفين الرسميين . وعندما تكون مؤتمر الخريجين أصبح النادي مقراً للجنته الفرعية بعاصمة الغرب . ولذلك اتخذ النادي مكانته كمصدر للإشعاع الثقافي والعمل القومي سواء كان اقتصادياً أو سياسياً أو ثقافياً . وكان ذلك قبل تكوين الأحزاب السياسية . وكما هو معروف ، كان من أهم أنشطة مؤتمر الخريجين التوعية القومية ، وإقامة المهرجانات الأدبية ؛ ولقد أقيم المهرجان في الأبيض في عام 1945 ؛ وكانت الأبيض بذلك أول مدينة يقام فيها المهرجان بعد العاصمة .
كذلك لعب نادي الأعمال الحرة دوراً مهماً في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية ? ليس في الأبيض وحدها بل في أنحاء مختلفة من غرب السودان . كما قدم نادي الأعمال الحرة مساندة ودعماً لحركة التعليم الأهلي . وقد كان من يعملون بالأعمال الحرة ( القطاع الخاص ) يتمتعون بقدر من الحرية أكبر من ما هو متاح لموظفي الحكومة ، الذين كانت حريتهم في العمل السياسي مقيدة . وقد سمحت هذه الحرية لنادي الأعمال الحرة أن ينطلق بنشاط وجسارة في مجالات سياسية ووطنية متنوعة . كذلك كان النادي رائداً في الحركة الرياضية ؛ كما كان مقراً لاتحاد طلاب كردفان.
ثم نشأت الأحزاب السياسية ، وقادت العمل الوطني ومعارك الاستقلال . وقد عرف عن الرواد من قادة الأحزاب السياسية بالأبيض أنهم يغلبون الاهتمام بالقضايا القومية؛ ورغم اختلافاتهم السياسية إلا أنهم يجمعون حول مطالب المدينة ? بل وكردفان كلها. لم يعرفوا الخصومات السياسية الحادة ؛ وكانوا رجالاً في منتهى الاحترام .. نذكر منهم العمدة الزين عبيد ، والشريف المليح ، وأحمد الفكي عبد الله ، وصلاح السيد طه ، ومحمد الحسن عبد الله يسن ، ومحمد أحمد سنهوري . وفي بداية الحياة النيابية أثناء مرحلة الحكم الذاتي قدمت مدينة الأبيض للبرلمان أثنين من أميز النواب الذين عرفتهم الساحة البرلمانية في السودان ، هما الناظر ميرغني حسين زاكي الدين ، وحسن عبد القادر حاج أحمد . كذلك أحسنت بارا الاختيار وقدمت للبرلمان الشاذلي الشيخ الريح ، الوطني الجسور والمتجرد . ومن الشخصيات المستقلة التي صادمت الاستعمار الشيخ الجليل محمد بخيت حبة.
ونجد أصداء الروح الوطنية التي طبعت تلك الفترة تتردد في أعمال الأدباء والشعراء من أمثال عزيز التوم منصور ، ومحمد علي عبد الله ( الشهير بالأمي)، ومحمد عوض الكريم القرشي . فإلى جانب شعره العاطفي ( عيون الصيد ? سالته عن فؤادي ? اسمعني واشجيني ? انت حكمة ولا آية ? عيونك علموا عيوني السهر) ، كتب الأمي العديد من القصائد الوطنية ( نداء إلى رجال المؤتمر ? قادة الرأي ? نشيد العمال ? حول مال الفداء ? حول سودنة الإدارة ? تحية بارا : بمناسبة جمع المال للمدرس الأهلية بالأبيض ) . كذلك كتب رائد تحديث الغناء السوداني محمد عوض الكريم القرشي (وطن الجدود ? جنود الوطن ? انهضي يا بلادي ? الشباب).
مذكرات
الأبيض .. المدينة الرائعة (22)
عبد المنعم خليفة خوجلي:
إذا جاز لنا أن نختزل وصف مدينة الأبيض في كلمة واحدة فسنقول إنها رائعة .. وعندما يكتب عن الأبيض واحد من عشاقها الصوفيين يصعب عليه تحديد من أين يبدأ ؛ إذ أن الموضوعات تتزاحم .. والذكريات العذبة تتدافع شيقة وندية .. والتاريخ يطل مطالباً بحقه في أن يروى وأن يوثق .. وبالمثل الأصالة .. والبسالة.. والوطنية.. والقومية السودانية التي تجسدها تلك المدينة العظيمة . لكل ذلك فإن تناول مثل هذه الجوانب يغري بالاسترسال والإطالة ؛ وهو ذو شجون ومتعة .
لا أهدف من وراء هذه السلسلة من الموضوعات فقط إلى إشباع أبناء الأبيض ، بل أيضاً إلى إضفاء أجواء الإلفة والدفء لأبناء السودان جميعاً ، وخاصة من هم بعيدون عن أرض الوطن ، وذلك بالكتابة عن إحدى مدن السودان التي تحمل سماته القومية . وأنا واثق -أو هكذا آمل - أن ما نتناوله سوف يشيع أجواء عامرة من المشاعر الوطنية ، نود أن يتشبع بها الجيل الجديد من الأبناء ؛ كما نرجو كذلك أن يعيد ذكريات عزيزة لأبناء الجيل القديم ( جيل البطولات وجيل التضحيات .. أم تلك مسألة فيها نظر؟ !) تجعلهم يستعيدون نكهة فترة خصبة من تاريخ السودان عاشوها وتنسموا عبيرها .. والذكريات كما يقول شاعرنا محمد عوض الكريم القرشي «نهضت بجيلها» نحن في مباهاتنا بمدينتنا لا ندخل في منافسة مع عاشقي المدن والقرى الأخرى في السودان ? بل على عكس ذلك نرى أن حبنا جميعاً لمدننا وقرانا هو أساس حبنا لوطننا الكبير السودان . وسوف أحرص على أن ينصب التركيز في ما سوف أتناوله على الجوانب ذات الأهمية العامة ، حتى لا يكون مجرد نوستالجيا لمتعة أبناء الأبيض .
الحلقات التي أزمع موافاتكم بها تتضمن :
عروس الرمال - اقتصاديات المدينة- أنظمة المواصلات - العراقة التاريخية للمدينة ? الأبيض عاصمة المهدية - الحركة الوطنية ? حركة الوعي والتنوير- الأبيض عاصمة الغرب ? ( بعض هذه الموضوعات سبق أن تم تناولها في إحدى أمسيات السمر في النادي الاجتماعي للجالية السودانية بسلطنة عمان ؛ شارك في تقديمها معي الأخ الزاكي جمعة ؛ ونوجه له الدعوة بإمتاع قراء المنبر بمساهماته الشيقة ، وخاصة ما يتعلق بالحركة الفنية ) . كذلك سوف نلقي الضوء على منظمة الأبيض الطوعية للتنمية والتعمير والجهود المخلصة التي يبذلها الإخوة القائمون عليها للنهوض بالخدمات الطبية والتعليمية في المدينة . وبالطبع لن ننسى خورطقت التي لها في نفوسنا مكانة خاصة.
وسوف أحرص على أن لا تأتي الموضوعات جافة وعسيرة الهضم .. فمدينتنا لم تعرف بالعسر والإثقال ؛ بل إن أبرز ما عرف عنها جاذبيتها وبساطتها المحببة التي جعلت أفئدة الناس تهفو إليها .. كما أنها مدينة ذاخرة بالظرفاء من أمثال المرحوم الشيخ الكجيك والمرحوم خضر المبارك وعثمان الشيخ وود الزين والسفاح ! وبما أنني جديد على المنبر آمل أن تكون الموضوعات منسجمة مع طبيعة المنبر وروحه .
حركة الوعي والتنوير
لقد لعبت مؤسسة كردفان دوراً عظيما في بث الوعي في غرب السودان .. ونعني بمؤسسة كردفان لمؤسسها الدكتور الفاتح النور : جريدة كردفان ومطبعة كردفان ومكتبة كردفان وصالون كردفان.
فلقد أسهمت جريدة كردفان (والتي كانت تصدر صباح الجمعة ومساء الاثنين ) في تغذية الشعور الوطني ومكافحة الخرافة والدفاع عن حقوق المواطنين في غرب السودان ، مثل حقهم في التنمية الإقليمية المتوازنة ? وحقهم في الماء والتعليم والخدمات الصحية . كما كانت جريدة كردفان تتفاعل مع القضايا العربية والإفريقية. ومن أبرز إسهامات جريدة كردفان مناصرتها لمزارعي جبال النوبة . . وبسبب ذلك تعرضت الجريدة للاحتكاك مع الحكومة قبل الاستقلال ؛ بل وتعرض رئيس التحرير إلى السجن . وبسبب استقلاليتها ودفاعها الصلب عن حقوق جماهير الغرب احتكت جريدة كردفان مع الحكومات الوطنية كذلك .. ومع الأحزاب التي تناصرها ؛ خاصة في فترة كان الشعار المرفوع هو تحرير لا تعمير .. وتوقفت جريدة كردفان للأسف في ظل الحكم العسكري الثاني .. بعد أن تعرضت للتأميم والتبعية للاتحاد الاشتراكي! . ولقد خرجت جريدة كردفان أجيالاً من الكتاب والصحفيين الممتازين .. فقد عمل بها الأستاذ عبد الله رجب قبل أن يؤسس جريدته الصراحة .. وكان سكرتير تحريها المثقف الوطني محمد عبد الرحمن بلال .. وتخرج من مدرستها الصحفي البارز حسن الرضي.
أما صالون كردفان فقد كان منارة ثقافية عامرة ، حيث كان يضم صفوة المفكرين والأدباء والشعراء في المدينة . وكانت مكتبة كردفان ذاخرة بالمجلات والكتب من مختلف دور النشر في مصر ولبنان .. كنا نقرأ بانتظام الرسالة وروزاليوسف والمصور والهلال والأديب والآداب والثقافة الوطنية . وقد تأسست في منتصف الخمسينيات مكتبة الجماهير .. وأسهمت في بث الوعي والفكر، وحفلت بالكتب من الصين والاتحاد السوفيتي ولبنان ودار الفكر بمصر . وكانت هناك مكتبة الجيل لصاحبها الأخ / الفاضل عبد الرحمن أحمد عيسى ، ومكتبة الثقافة الإسلامية وصاحبها الأخ محمد علي طاهر . كما كانت هناك مكتبة عامة للإطلاع والتسليف يشرف عليها مجلس بلدية الأبيض .. وهي في موقع هادي وجميل إذ أنه يطل على فولة الأبيض الرئيسية! (ربما تكون كلمة فولة محتاجة إلى شرح !!). نواصل حول الوعي والتنوير .
حركة الوعي والتنوير (مواصلة(
كانت حركة الوعي والتنوير في عنفوانها في نهاية الأربعينيات وبداية عقد الخمسينيات ، حيث كانت تلك فترة التطلع إلى بناء السودان المستقل ، وما يتطلبه ذلك من بعث ثقافي ، وانفتاح على الفكر الإنساني ، وزرع الثقة في النفوس ، ومجابهة قضايا الوحدة الوطنية ، والتنمية ، ومكانة المرأة في المجتمع ، وغيرها من القضايا والتحديات الجديدة..
وبرز في مجتمع المدينة قادة من الجيل الجديد ? جيل ما بعد مؤتمر الخريجين ? نذكر منهم الحاج الطاهر أحمد ، وحسنين حسن ، ويوسف عبد المجيد ، وعلي التوم ، وأنور أدهم ، وعبد القادر خليفة ، وأحمد وعبد الرحيم علي بقادي ، ومعتصم عبد الله مالك، وعبد الوهاب عبد الرحيم المبارك ، وكامل وعكاشة حسن محمود . وإن كانت الرؤى المتقاربة تجمع بين من ذكرت ، فقد كان هناك أيضاً قادة من هذا الجيل الجديد يحملون رؤى سياسية واجتماعية مختلفة لمستقبل السودان .. نذكر منهم التيجاني أبوجديري ، وإبراهيم أبو حسنين ، وعبد القادر حسين جعفر ، والتيجاني محمد علي البشير ، ومجذوب سالم البر . ورغم الاختلاف في الرؤى إلا أن الصداقة والاحترام المتبادل كانت تربط بينهم جميعاً برابطة وثيقة.
وكان للحركة الطلابية والحركة النسوية في الأبيض دور بارز في الإسهام في بث الوعي ، تجلت في مهرجان كردفان الثقافي ( 1952م ) والذي تغنى فيه الفنان أحمد المصطفى لأول مرة ب «نشيد الاتحاد» تحية لقيام الاتحاد النسائي :
يا فتاة هجرت طول الرقاد
يوم أن قامت تنادي الاتحاد
ولقد نظم اتحاد طلاب كردفان في تلك الحقبة حملات ناجحة لمحو الأمية شملت جنود القيادة الوسطى (بمساعدة وتفهم وتقدير من قائدها الأميرلاي أحمد عبد الله حامد ) ، كما شملت أيضاً مواطني الأحياء الشعبية في الأبيض ( فريق الميرم وحي أمير ). وإثر نجاح تلك الحملات على مستوى مدينة الأبيض ، نظم اتحاد طلاب كردفان مع الاتحاد العام للطلاب السودانيين حملة محو أمية موسعة لفائدة مزارعي جبال النوبة .. وبقي المئات من الطلاب في الدلنج وكادوقلي وتالودي وهيبان والليري وغيرها من مدن وقرى جبال النوبة لمدة ثلاث أشهر يحاربون الأمية وينيرون الطريق أمام آلاف المواطنين. وكانت تلك من أعظم الأعمال التي لا تزال ذكراها تبعث في نفوس من شاركوا فيها الكثير من الفخر والرضاء.
الأبيض عاصمة الغرب
كون الأبيض عاصمة الغرب .. هذه حقيقة وليس ادعاء ، حيث أن أهل غرب السودان أسهموا تاريخياً في تأسيس هذه المدينة ، وامتزجت قبائلهم فيها . ومن أقوى الروابط بينهم أنهم رفقاء سلاح كما يشهد بذلك تاريخ الثورة المهدية ؛ كما ازدهرت في الأبيض علاقات المصاهرة والصداقة بين سكان غرب السودان .
ومن الروابط الهامة التي زادت من عمق تلك الصلات أن الرعيل الأول من المتعلمين في غرب السودان عاشوا سنوات من صباهم الباكر في الأبيض تشربوا فيها حب هذه المدينة ورجعوا منها بذكريات عذبة ؛ حيث أنهم تلقوا تعليمهم في مدرسة الأبيض الأميرية الوسطى ، والتي كانت منذ تأسيسها في مطلع القرن الماضي وحتى الاستقلال هي المدرسة الوسطى الوحيدة التي أنشأتها حكومة السودان في كل غرب السودان . وكان لمدرسة خورطقت الثانوية فيما بعد أيضاً دورها في تعزيز الصداقات وتوحيد الرؤى وبلورة الوجدان المشترك للمتعلمين من أبناء غرب السودان.
سكان غرب السودان يكنون للأبيض كل الحب والتقدير .. وهم لا يحسون بأنهم غرباء فيها ، فلكل منهم في الأبيض منزلة وأصدقاء . عند زيارة أي من زعماء قبائل الغرب للأبيض يتبارى أهل الأبيض في تكريمهم والاحتفاء بهم .. ونفس التكريم والاحتفاء يجده أعيان مدينة الأبيض عند زيارتهم لأي من مناطق الغرب .
نجد في الفولكلور الكردفاني التعبير عن التطلع لزيارة الأبيض ، والتي هي بمثابة الأمنية والعيد:
زولاً سرب سربة وخلى الديار غربه
أدوني لي شربة خلوني النقص دربه
« الشيخ إسماعيل الولي»
قدم الأخ والصديق الأستاذ مكي حاج عربي محاضرة بالنادي الاجتماعي للجالية السودانية بمسقط ، بعنوان « الشيخ إسماعيل الولي» ، وذلك في إطار البرنامج الثقافي الحافل والمتنوع للنادي. تركزت المحاضرة حول جوهر الفكر الصوفي للشيخ الأستاذ السيد إسماعيل بن عبد الله ? قنديل كردفان . وقد وعد الأستاذ المحاضر مشكوراً بتقديم ملخص لها للنشر. لهذا سوف أترك جانب التصوف، وأتناول في هذه النبذة الموجزة عن الأستاذ قنديل كردفان بعضاً من الجوانب التاريخية والاجتماعية.
الشيخ الأستاذ السيد إسماعيل مثقف وطني ومفكر واسع المعرفة ، حيث له أكثر من سبعين مؤلفاً في التصوف والفقه وفروع المعارف المختلفة ، وفي التاريخ والأدب والشعر.
ولقد اتسم فكره بالأصالة والالتصاق بالبيئة الثقافية والاجتماعية المحلية. وكما هو معروف فإن الطريقة الإسماعيلية التي أسسها السيد إسماعيل هي الطريقة الصوفية الوحيدة السودانية الخالصة ، منشأ وقيادة.
ارتبط السيد إسماعيل وأبناؤه وأحفاده من بعده بالحياة العامة ، وظلوا مشاركين للمواطنين في اهتماماتهم المعيشية ، وفي عمليات الزراعة وحفر الآبار ، وتأسيس معاصر الزيوت وغير ذلك من النشاطات الإنتاجية.
وكانت حلقات الدراسة التي يقيمها السيد إسماعيل تضم تلاميذ من مختلف أنحاء غرب السودان بما في ذلك جبال النوبة ودارفور . وقد كان سلاطين دار مساليت يرسلون له أبناءهم للتعليم.
قدم السيد إسماعيل السند الروحي لمواطني كردفان في مقاومتهم لتجاوزات وقسوة الحكام في بدايات التركية.. وقد واصل ذلك الدور ابنه السيد المكي ، بل قاد معارضة إيجابية مباشرة . وقد كان السيد المكي يستضيف الإمام المهدي بداره بالأبيض أثناء زيارات الإمام لها في مرحلة العمل السري والإعداد للثورة ( د. محمد سعيد القدال - الإمام المهدي- لوحة لثائر سوداني ) ؛ وقد أسهم السيد المكي في إزكاء روح المقاومة حتى توجت بتحرير الأبيض وانتصارات الثورة المهدية الباهرة في شيكان ؛ ومن ثم إخلاء الحاميات المصرية من السودان وتأسيس الدولة المستقلة وعاصمتها الأبيض ؛ وكانت تلك الانطلاقة الكبرى نحو تحرير الخرطوم .
تفهم السيد إسماعيل بعمق طبيعة التنوع العرقي والديني لبانوراما الجنسيات الأجنبية (مصريون ? شوام ? مغاربة ? إغريق ? أرمن - فلاتة ? هوسا ? هنود ? يهود ? إثيوبيون ? إريتريون.) ، وكذلك القبائل السودانية المختلفة من كردفان ودارفور وجبال النوبة ومن الشمال النيلي ، التي عاشت في الأبيض ؛ فلقد كانت الأبيض مركزاً اقتصادياً واجتماعياً جاذباً آنذاك . ولقد أسهم السيد إسماعيل في تعميق أسس التسامح والتعايش والمحبة وسط ذلك المجتمع.
مع مواصلة أحفاد السيد إسماعيل الاهتمام بالجوانب الدينية والدعوة إلى تهذيب النفوس ، ارتبطوا بالعمل الوطني العريض ، وحافظوا على استقلاليتهم ، ولم يناصروا الأنظمة الشمولية؛ كما أسهموا في النشاط الثقافي والأدبي والاجتماعي الحافل الذي عرفت به مدينة الأبيض.
من أحفاد السيد إسماعيل الرئيس إسماعيل الأزهري ، والأديب والشاعر محمد المكي إبراهيم ، والأستاذ مكي حاج عربي (مقدم المحاضرة) .
النهود
النهود واحدة من أحب المدن إلى نفسي ؛ وهي من المدن التي تترك في الذاكرة انطباعات قوية، لما يمتاز به أهلها من أصالة وحسن معشر، ولبيئتها الاجتماعية الصحية المستمدة من التمازج القومي البديع الذي ازدهر فيها تحت ظل الحيوية الاقتصادية للمدينة، وأثمر أنشطة وطنية وثقافية ثرية. تثير فينا هذه الذكريات ، كما كتب أحد الأصدقاء « الأشواق للأرض والناس والدعاش «.
الرحلة من الأبيض إلى النهود لا تزال حية في ذاكرتي رغم السنين، بل العقود العديدة منذ ذلك الزمن الجميل الذي كنا نقوم فيه بتلك الرحلة بانتظام ولمرات عديدة كل عام . فلكل واحدة من القرى أو المحطات التي تمر بها اللواري في الرحلة من الأبيض إلى النهود نكهة خاصة.. ..وصفها الأخ هميم في إيجاز بديع « الكثبان .. وجمال السماء .. والنيران التي تلوح وتخبو..» العيارة .. الدودية .. أم صميمة .. الخوي .. عيال بخيت .. ثم يلوح جبل حيدوب مبشراً بأننا على مشارف النهود.... وهل تدرون ما النهود؟ قديماً قال أحد الشعراء :
الناس مرقدها النهود وأنت مرقدك الخوي
لو كنت تدري ما النهود لكنت تطوي الأرض طي !
كتب أحد الاصدقاء عن أهمية المساعدين (مساعد الحلة والمساعد الكبير).. والعمل كمساعد هو أحد مراحل ما يعرف الآن بالتدريب على رأس العمل ، حيث يتأهل المساعد ليصبح سائق لوري) ، ولقد اكتسب سائقو اللواري بالغرب مهاراتهم من العمل لسنوات طويلة كمساعدين .. وبعضهم أتيحت له فرصة التدريب في قراشات رئيسية في الأبيض. وبفضل هذه المهارة يجابهون باقتدار وثقة مصاعب ومفاجآت السفرية من وحل وسيول وأعطال ميكانيكية وكهربائية. ومن الصفات المميزة لهؤلاء السواقين تمتعهم بالأمانة والغيرة على سلامة البضائع التي يؤتمنون على ترحيلها.. وبروح عالية من الزمالةً.
موقف اللواري بالنهود تحفه أشجار اللبخ الظليلة.. مما يجعله مكاناً مناسبا لراحة اللواري وأصحابها سواء تلك التي تعمل ما بين الأبيض والنهود، أو تلك التي لا تزال تنتظرها الرحلة إلى الفاشر أبو زكريا مروراً بالدم جمد وأم كدادة.. عبر 17 قوز، والتي تحتاج إلى صاجات ومهارات خاصة ؛ وإلى لواري وسواقين يأنسون في نفسهم الكفاءة ! ومرة أخرى نتذكر عدم قيام طريق الإنقاذ الغربي !
ويمور موقف اللواري في النهود بالحركة والحيوية، حيث يعج بجمهرة المستقبلين والمودعين .. والباعة المتجولين والمشترين للمنتجات الكردفانية، ومن يقصدونه لتلقي الأخبار التي يأتي بها القادمون من دار صباح ودار غرب (وذلك قبل أن تكون للشمارات مواقع دوت كوم !)، ومن يحضروا للموقف ليستقبلوا جريدة كردفان ليستمتعوا بها وهي طازجة.
موقف النهود يثير في النفس ذكريات عزيزة .. فهو مجاور لنادي السلام.. هذه المنارة الثقافية العريقة ( تأسس عام 1917م ) . وكان مقراً لنشاطاتنا في اتحاد طلاب كردفان ( فرع النهود ) في الإجازات الصيفية (محاضرات ? ندوات ? مسرحيات ? محو أمية)، تماماً مثل نادي الأعمال الحرة بالأبيض الذي كان يستضيف نشاطات الاتحاد الرئيسي. ومن الناحية الجنوبية يطل موقف اللواري على دكان الأخ دبوجة !
وهذه مناسبة لكي أذكر بعضاً من أبناء جيلي من أبناء النهود الكرام:
يوسف مختار أبو عاقلة - التيجاني علي التوم - مكي حاج عربي ? حامد رشوان - محمد احمد حسن جحا ? الحسين الحسن وشقيقه عباس - عمر عباس عجبنا وشقيقه علي - الأمين التيجاني وشقيقه عبد القادر - حسن البلاع ? دفع الله احمد دفع الله ? أحمد عبد الرحمن عبد الحفيظ (حريكة) ? عبد الله إسحق - صديق إدر - علي ضيف الله - محمد عبد القادر شبور- محمد البدوي عبد الساتر ? الصافي جمعة وشقيقه آدم جمعة ? عمر بلال ? عبيد صالح.
عبد المنعم خليفة خوجلي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.