نواصل ما بدأناه بالأمس من تقليب في الصفحات الباسمة التي حواها كتاب السفير أحمد دياب بعنوان «خواطر وذكريات دبلوماسية».. وقد ضحكت واستمتعت وربما دمعت عيناي وهي تجري على الأسطر في الفصل الذي تخير له عنوان «حتى لو تكون نميري».. ولعل متعتي إلى جانب تأثري بهذا الفصل الذي تقاسم البطولة فيه الراحل الأديب جمال محمد أحمد مع والدة الكاتب الحاجة فاطمة عبد الرحمن «رحمها الله رحمة واسعة» فقد عرفتها عن قرب، وكانت تجسد ذاك النمط من أمهاتنا الذي يفيض حنواً ولهفةً والتصاقاً حميماً ب «الأولاد» وإن كبروا وطالت عمائمهم وعلت مراتبهم، ذاك الحنو الذي أدركه وأمسك به جمال محمد أحمد بروحه الشفيفة ومشاعره الإنسانية. كتب السفير أحمد دياب يقول «في عام 76م كنت أتولى منصب مدير الشؤون السياسية برئاسة الوزارة، وكان وزير الخارجية آنذاك المرحوم العم جمال محمد أحمد، وفي ذلك الوقت كان هنالك تقليد بأن يعود الوزير والوكيل ومديرو الإدارات إلى العمل في المساء، خاصةً أعضاء المكتب التنفيذي لوزير الخارجية، لإعداد التقرير اليومي الذي كان يوقعه وزير الخارجية أو وكيل الوزارة عند غياب الوزير، ويرسل للرئيس نميري أينما كان. وفي إحدى الأمسيات طلب الوزير جمال من عامل التلفون أن يتصل بالمنزل ويطلب مني الحضور، وكنت أسكن بمنزل الأسرة بأم درمان، وكانت والدتي الحاجة فاطمة عبد الرحمن رحمها الله تحبني كثيراً ككل الأمهات، ولكنها بالإضافة إلى ذلك كانت تعتقد أن النوم وخاصة نوم أحد أبنائها عبادة لا تريد أن توقظهم منه أو تدع أحداً يقوم بذلك. وعندما اتصل عامل التلفون بالمنزل ردت عليه والدتي، وعندما سأل عني أخبرته بأنني نائم، فطلب منها أن توقظني، فردت عليه بأنها لا تريد أن توقظني، فنقل ذلك إلى العم جمال، فطلب العم جمال منه أن يوصله بمنزلنا، فردت عليه الوالدة أيضاً، وسأل عني، فردت عليه بأنني نائم، فطلب منها أن توقظني فرفضت.. قال لها أنا جمال محمد أحمد وزير الخارجية أريد أحمد في شغل مهم فردت عليه بأنها لن توقظني حتى ولو كان المتحدث نميري شخصيا..!! وعندما استيقظت متأخراً قليلاً أخبرتني الوالدة بأن ناس الوزارة اتصلوا عندما كنت نائماً، وطلب الوزير إيقاظي من النوم لكنها رفضت.. عاتبتها برقة، وذكرت لها أنها كان يجب أن توقظني لأن هذا عملي، ولكنها أبدت عدم موافقتها على ذلك، وبسرعة ارتديت ملابسي وهممت بمغادرة المنزل إلى الوزارة، وفجأة سمعت طرقاً على الباب فأسرعت لأرى من الطارق، فإذا به السيد جمال محمد أحمد الوزير شخصياً. وعند ذلك أدركت فداحة الموقف الذي اتخذته والدتي بعدم إيقاظي، وتيقنت أن الوزير جاء ليعاتبني على التأخير وعدم الرد على مكالمته، وبدأت في إبداء الاعتذار والأسف عما بدر من والدتي ورفضها إيقاظي من النوم، وذكرت له بأنني على استعداد للذهاب للوزارة إذا كان هناك ما يتطلب ذلك، خاصة أن الوقت لم يتجاوز بعد الساعة التاسعة مساءً. وكنت أتحدث الى العم جمال، ولكنه كان يبدو عليه عدم الاهتمام بما كنت أقوله، وعندما توقفت عن الكلام التفت إليَّ وقال لي أريد أن أهنئك بهذه الأم العظيمة، وأنا حضرت خصيصاً إلى المنزل لأقدم لك التهنئة بهذه الأم التي لا يهمها في هذا العالم خلاف أن تطمئن على راحة ابنها، ولا يهمها بعد ذلك وزير أو رئيس.. ولذلك حضرت لأتشرف بمقابلتها وأن أشرب معها فنجان قهوة. في البداية اعتقدت أن العم جمال كان يمزح أو يمارس أسلوبه المعروف في الكتابة التصويرية لإخراج هذه الكوميديا بالصورة التي تليق بالحبكة الروائية التي كان العم جمال يجيدها، ولكن بعد فترة بدا لي واضحاً أنه كان جاداً، وفعلاً عدت إلى داخل المنزل وطلبت من الوالدة أن تحضر للسلام على العم جمال، وأن تبدأ في تحضير قهوة أم درمانية لكي نشربها معاً. وهذه القصة في اعتقادي لوحة تعبيرية تركز على شخصية العم جمال وتقديره للأم ودورها في إسعاد أبنائها، وعلى مقدرته في الفصل بين العمل والعلاقات الإنسانية، وعلى أسلوبه الواقعي في التعامل مع الأشياء والوصول إلى غاياتها وأبعادها المختلفة، وعلى روح المودة والدعابة التي كانت جزءاً مهماً من شخصيته تجعله قريباً من القلب كما كانت كتاباته».