٭ شخصية مستر مور استوقفت المعلم الشاب المكلف بتعليم أبناء الكبابيش مثلما استوقفته شخصية مستر ولي، وكانت وقفة حسن نجيلة دائماً تشكل عنده تساؤلاً حائراً لماذا يفعل هذان الخواجتان ما يفعلان.. ويقول عن زيارة مور: «وظل مور معنا نحو الأسبوع يأكل عند الشيخ وإخوته إذ كان بغير خادم للطبخ... وابنه أيضاً يحرص على شرب قدر كبير من اللبن أينما وجده وفي أي إناء يقدم له دون تأفف.. وحدثني عن حبه للبن، وكيف إنه إذا ما التقى بالرعاة في الوديان استوقفهم ليشرب «البيضاء» فيحلبون له اللبن في «الكبروش» وهو وعاء مستطيل من الخشب يحمله الرعاة معهم ليحلبوا فيه اللبن أو يتناولوا فيه طعامهم ويشبه الطربوش، إلا أن له يداً من الخشب، وهو الإناء الوحيد الذي يرافقهم في تجوالهم مع إبلهم اتباعاً للمرعى، وكان المستر مور يشرب من هذا الكبروش مباشرة على ما به من فقدان النظافة، بل كان كثير من الإداريين الإنجليز يرعون هذا التقليد، فإذا مروا على الرعاة في الوديان استوقفوهم ليشربوا البيضاء، ويعنون بذلك إكرامهم بقدر من اللبن. ٭ قلت إن مستر مور بقي معنا أياماً، «والكلام للأستاذ حسن نجيلة»، ولا طعام له غير ما كان يحمل من البلح وما يستضيفه به البدويون. وكان يزورنا كل يوم في المدرسة. وقد أضحكني تلامذتي الذين كانوا إذا رأوه قادماً من بعيد مصطحباً عصاه الغليظة، نبهوني ضاحكين قائلين: «المفتش أبو عكاز جانا». ٭ ومستر مور بالرغم من الاندماج في حياة الناس ومخالطتهم في أفراحهم وأتراحهم، إلا أنه جعل من مركز كتم سجناً كبيراً لا يسمح بالخروج منه أو الدخول فيه إلا لمن يشاء ممن يطمئن إليهم، وكان عدواً للتعليم والمدنية ولكل جديد، وكان يريد أن يعيش الناس في كتم كما هم بغير تطور مفيد.. وقد ظل يعمل مفتشاً في مركز كتم منذ بداية عهده بالخدمة حتى خرج منها مفارقاً السودان نهائياً. ولعل ذلك كان في الأربعينيات، ولعله ظل بكتم ما يقرب من العشرين عاماً لا يغادرها إلا للإجازة إن لم تخني الذاكرة. ٭ وقد كان هو صاحب الموقف المشهور من الصحافي الكبير المرحوم أحمد يوسف هاشم عندما زار دارفور وكان يحرر آنذاك جريدة «النيل» وقضى فترة في زيارة للمديرية، وقضى أياماً في الفاشر، ولعله كان في ضيافة ابن عمه المغفور له محمد حاج الأمين مأمور المركز، وحاج الأمين كغيره من الموظفين السودانيين في دارفور كان من الناقمين على تصرفات مور وعلى الحجر الذي فرضه على مركز كتم، ولعله أوعز لأحمد يوسف هاشم أن يقوم بزيارة لكتم ليكشف سيئات مور. وبالرغم من ترحيب سلطات مديرية دارفور بزيارة أحمد يوسف وتمهيد السبل له، إلا أن المستر مور أبى في عنجهية بالغة السماح لأحمد يوسف بأن يدخل مركز كتم، ورفض رفضاً باتاً رجاء السلطات أن يسمح له بالزيارة، وقيل إنه رد رداً عنيفاً. ٭ وعاد أحمد يوسف للعاصمة ولم يصمت، فأشهر قلمه الجريء يتحدث عن مور والسد الذي أقامه حول الناس في كتم، والأسلوب العنيف الذي يسير به في الحكم، وصب جام غضبه في عدة مقالات نارية.. هي التي سمى فيها حكومة السودان.. حكومة المفتشين». هذا مع تحياتي وشكري.