: مشهد «2» سيلفيا تحب أن أحدثها عني «تود أن تعرف كل شيء!» (هزيمة روسيا)! تم إطلاق سراحي عند نهاية اليوم التالي بعد ان أصبحت حدث وحديث مطار أمستردام الدولي المسمى «إشخيبول». وأعطوني عنوان إقامة مؤقت خاص بمثل حالاتي ويسمى «أو سي دنهاخ» وكان في مدينة لاهاي في شارع «جون إسترات» رقم 35. مبنى ضخم به حوالي 400 شخص من كل أنحاء الدنيا «روسيا، الصين، اليمن، إكوادور، البوسنة والهرسك والخ» وعدد كبير من العراقيين و35 سوداني وسودانية. كان علي أن أقيم في ذاك المكان لفترة محددة وحتى تسوية أموري ومن بعدها ربما أدمج بشكل تلقائي في السستم. وتلك مرحلة هي من أخطر المراحل كونها تحتمل عدم قبول طلبك للإقامة في هولندا وطردك بشكل نهائي وترحيلك قسرآ إلى بلدك الأصلي في حالة أنك لم تستوف الشروط المطلوبة وهي شروط لا تخلو من القسوة. لم يرسلوني إلى ذاك المكان وحدي بل أرسلوا أمامي عبر الفاكس تقرير خاص يتحدث عني ويحكي ما فعلته بالطائرة ويأمر أجهزة الأمن والحماية في ال «أو سي» بمراقبتي والتعامل معي بالحذر اللازم كوني أستطيع أن أفاجي الناس بأشياء غير متوقعة ربما شكلت خطرآ على سكان وعمال وموظفي ال «أو سي». ذاك طبعآ مجرد إنطباع انبنى على خلفية ما حدث بالطائرة. في اليوم السابع حدثت مفاجأة صغيرة!. ذهبت للمدير «كانت إمرأة فاهمة ومتفهمة من حزب العمال». قلت لها: أريد أن أقيم يوم ثقافي سوداني في ال «أو سي». دهشت لبعض الوقت وتملكتها الحيرة كون كان هذا أول طلب من نوعه في مثل ذلك المكان ومن كائن قادم لتوه في المتصور من عالم ثالث هو عالم الحرب والدمار والموت واللاثقافة ويأتي عندها ويحدثها عن يوم ثقافي!. ليس ذلك فحسب بل الرجل نفسه «فيه كلام»: مختطف طائرة!. خطرت لي الفكرة قبل يوم واحد من ذهابي للمديرة المعنية. إذ حينما كنت أتلقى وجبة غداء دسمة في المطعم العام جلست بجانبي شابة في مقتبل العمر من روسيا البيضاء. وقليلآ وسألتني من باب حب الإستطلاع « من أين أنت»؟. أجبت بكل الفخر : «من السودان». قالت بكل هدوء: «أنها لم تسمع قط بمثل تلك البلاد». غضبت في دخيلتي غضبآ شديدآ لكنني لذت بالصمت ثم سألتها بدوري: من أين أنت؟. أجابت : «من روسيا البيضاء». فرددت عليها من باب الثأر: «لم أسمع أبداً بمثل تلك البلاد»!. في نهاية المطاف وافقت المديرة وأظنه من باب «أبعد عن الشر وغنيلو»!. ووفرت لي كل التسهيلات الضرورية لإنجاز اليوم الثقافي السوداني بشرط أن يكون مفتوحآ للجميع ودون شروط وأن يكون الدخول للقاعة مجانآ. وقد حدث. ووجدت في الحال شباباً سودانياً نيرآ وساخن الرؤى فأنجزوا العمل كله وتركوني أتفرج ... لله درهم. وذهبت أنا قبلها إلى مدينة هارلم وألتقيت بشابة سودانية جميلة ذات مواهب متعددة تسمى «إيمان هارلم» فغنت ورقصت رقصة العروس وعملت الحنة السودانية فتحننت الخواجيات مبتهجات وأنا حننت أحد أصابع يدي اليسرى. وعملنا عروض مسرحية وفلكورية والعاب شعبية وجئنا بمعرض يتحدث عن تاريخ السودان القديم أيام تهراقا وصحبه وما قبلهم. وجاء الناس من كل فج عميق. وهو ذاته اليوم الذي ألتقيت عنده من جديد بعدد من زملاء الدراسة الجامعية الذين تصادف ان سبقوني إلى هولندا . وكان هناك حضور صاخب لرواد ونجوم ذاك الزمان من السودانيين. كان حدثاً جميلا. كانت لفتة بارعة. ووقفت الجموع الحاشدة دهشة. و صفق لنا الناس طويلا. وكرمتني المديرة كما زملائي الأماجد بهدايا رمزية وأوشحة حمراء وشكرتنا على المبادرة الجميلة وقالت في ختامه: «أنتم فعلاً من شعب عظيم»!. فتعلمت الروسية ذاك اليوم أن الله واحد وأن السودان حين كان وكتب أهله الشعر وصادقوا النجوم روسيا لم تكن بشيء سوى قطعة ثلج كبيرة خاوية يلعب فوقها دب قطبي سمين. وأنا من بعدها أصبحت «ود حلو» في نظر الإدارة فتركوني بدون مراقبة. بل محبوب شوية إلى أن تترت أحداث أخر في زمكان آخر!. كما أصبحت بعد عدة أيام مترجم معتمد «عربي- إنجليزي» لدي إدارة ال «أو سي» . وقالت مرة أحدي الموظفات في حضوري: «لقد أثبت أنه رجل موجب». فأنبتها على سوء ظنها السابق بي ثم سامحتها. تلك المرأة في المستقبل القريب أصبحت صديقتي اللصيقة وأعطتني بشكل سري نسخة من التقرير الذي كتب عني على خلفية حادثة الطائرة وكان فكهاً جدا. مشهد «3» سيلفيا تحب أن أحدثها عني «تود أن تعرف كل شيء !» بعد أن رويت لسيلفيا حادثة الطائرة وقصة الروسية التي لم تسمع بالسودان ومحاولتي تعريفها ببلادي عبر يوم ثقافي في لحظة واحدة رويت لها حادثة قرية «إسباوبيك» التي وقعت في جنوبهولندا والصراع الحامي الذي صحب ترحيلي قسراً من مكان لمكان جديد لم يرقني وأنا في بداية حياتي بهولندا. فانتفضت مكلفآ الإدارة في المجمع الجديد (إيه زد سي) إسباوبيك 150 ألف دولار (على حد زعمهم) وعبر خطأ صغير ارتكبه مدير ال (إيه زد سي) في حقي وكان يساندني في تلك العملية العصيبة كل السودانيين بالمكان (سبعة رجال) ما عدا واحد منهم كما عدد من اليمنيين والروس والجزائريين وإيراني واحد فقط من عدد الإيرانيين البالغ 25 بالمكان إذ أنهم جميعهم تآمروا علي مع مدير ال (إيه زد سي) بلجيكي الجنسية وليس ذلك فحسب بل الرجل الذي يقيم معي في ذات الغرفة «راستا سوداني» كان يتجسس علي لمصلحة الطرف الآخر وكان يعمل في البقالة التابعة للإدراة. وعرفت لاحقآ أن الرجل تعرض لإبتزاز لم يستطع مقاومته بواسطة الإدارة الهولندية التي يترأسها البلجيكي فما كان منه غير أن أنصاع لمنطق الأمر الواقع!. وأعتذر لي لاحقآ فقبلت عذره. وهو فنان سوداني وعازف جتار يغني باللغة الإنجليزية وقد حدث أن كتبت له أغنية خاصة في المستقبل أي كلام بعنوان «أوه بيبي» فلحنها وغناها وهو رجل طريف ومتعدد المواهب. وكل الحكاية أنني شرحت بكل هدوء لإدارة المجمع (إيه زد سي) في قرية إسباوببيك في جنوبهولندا أنني لا اشعر بالراحة هناك لظروفي الخاصة وأريد أن أذهب إلى مكان آخر في المدن الرئيسية في هولندا. فرفضت الإدارة طلبي رفضآ باتآ وليس ذلك فحسب بل أظهروا لي قدرآ من الإحتقار والمهانة. فلجأت للجماهير «سكان المجمع» فوجدتهم يمورون غضبآ من الإدارة وإتهموها بكل ذميم. وحدثوني عن قصص سيئة جدآ وعن سوء الخدمات وعن رداءة الطعام وعن التكدس في الغرف وعن تهريء المبني من الداخل والخارج. والمجمع المعني كان عبارة عن كنيسة قديمة في قمة تلة صغيرة تحيطها الأشجار في مكان معزول عن العالم بجنوبهولندا. وكان عدد كبير من سكان المكان مصابون من جراء كل ذلك بأمراض نفسية. فكونا في الحال تيم وشكلنا غرفة عمليات بها ممثل لكل جنسية فكتبنا للإدارة رسالة ضافية نتحدث فيها عن مأساتنا ونطالب بإصلاحات فورية ومعاملة عادلة في عشرة نقاط. فرفضت الإدارة إستلامها. فأرسلنا الشكوى إلى وزارة العدل الهولندية. غير أنه لم يصلنا رد في الحال. فلجأنا إلى التظاهر في الشوارع ولفتنا نظر الإعلام الهولندي فجاء عدد من الصحفيين يصوروننا ويجروا معنا لقاءات حية. فلفت كل ذاك نظر بلدية إسباوبيك فجاء وفد من البلدية وأقر بحقنا في جميع النقاط التي قلنا بها وأصدروا أمرآ رسميآ يلزم الإدارة بعمل اللازم في غضون شهر من تاريخه. وقال لي المدير وهو يودعني بكل أسى وهو يوافق على ترحيلي إلى المكان الذي أحب، قال لي أتعرف كم كلفتمونا؟. 150 ألف دولار. فرددت عليه بأن ذاك أمرآ كان وجب أن يحدث في كل الأحوال. وهو الحق. وأعتذر لي المدير عما فعله نائبه بي خلال مرحلة الصراع إذ أن نائبه حاول ضربي وإذائي جسديآ وهو أمر غير متعارف عليه في الثقافة الهولندية وقد خنقني للحظات وهجرني على الحائط فهرع جمع من الناس لخلاصي منه كان في مقدمتهم السودانيون. فلم أرد عليه بالمثل ولم أتقدم بشكوى رسمية وتركت الأمر وذهبت في حال سبيلي. بل أوقفت الناس الذين حاولوا الرد عليه من باب الثأر. هو شأني أنا وحدي!. وذهبت إلى مكان جديد أفضل من إسباوبيك وتركت الناس من خلفي يتمتعون بخدمات أفضل ومعاملة أكرم . وصلت مساءآ للمكان الجديد وهو (إيه زد سي) ماركلو في شرق هولندا وهي قرية بالقرب من مدينة هانقلو مسقط رأس سيلفيا لكني لم ألتقيها بعد «سيحدث حتمآ في المستقبل». وعند صباح اليوم التالي طلبني مدير المجمع الجديد في مكتبه وهو يقرأ التقرير الذي أرسل إليه وكتب ضمن ما كتب فيه تزييفآ للواقع أنني «رجل مشاكس». كان المدير حكيمآ وهو هولندي من أصول يهودية. لم يحدثني عن أي شيء فقط قال: «لي من فايلك أنا علمت أن لك علاقة بالصحافة». أجبته: «بعض الشيء». قال لي: «نريد أن تصدر لنا إصدارة شهرية صغيرة تتحدث عن شئون المجمع وتفعل فيها ما تشاء من الأدب والثقافة». وقال لي أنا أوفر لك جميع التسهيلات اللازمة. وقد فعل ما وعد به. وكان هدفه فيما أعتقد إشغالي بشيء موجب ظناً منه أنني ربما أكون بالفعل «مشاكس». وقبل أن أغادره أعطاني إصدارة صغيرة ملونة من عدة صفحات وقال لي خذ هذه كإنموذج فهي تصدر في ظروف مشابهة بواسطة أناس في حالتك. وعندما ذهبت إلى غرفتي الخاصة وفتحت غلاف الإصدارة المعنية صعقت بمفاجأة عجيبة صدمتني لبعض الوقت!. إذ وجدت أن هيئة تحرير تلك الإصدارة الإنموذج تتكون من شخصين لا غير، هما: أبو ذر عمر النور وعبد الرحيم حلاج. أصدقاء وزملاء الجامعة وكانت تلك أول مرة أعرف بوجودهما بهولندا في ظروف مطابقة تمامآ لظروفي فسعدت أيما سعادة وفاجئتهما بعد عدة أيام بزيارة غير معلنة وكانا يقيمان في (إيه زد سي) زيفولا. فشكلنا في المستقبل القريب أنا وأبوذر والحلاج تيم صلد لكل الوقت وحاولنا إنجاز كثير من الأعمال نجحنا في بعضها وفشلنا في البعض الآخر. وكنا يدآ واحدة ونحن لا نفترق حتى هذه اللحظة نعمل مع بعض كل الممكن ونتعاون مع الآخرين من زملائنا . وكان السودان كل الوقت في حدقات عيوننا ومركز كوننا وكينونتنا. وفي مشهد آخر حاول أبو ذر النور بحماسه المعهود تطبيق العملية التي صدف انها ناجحة و التي قمت أنا بها في إسبابوبيك وساعدني الناس والأقدار لكن جاءت عملية أبو ذر درامية كلفت أحد الزملاء قدمه اليمنى بواسطة الكلاب البوليسية وهو رجل ثوري وشهم وأخذت مسألة تعويضه سنوات عديدة أمام المحاكم الهولندية دون أن ينال الكثير مما أراد وعلى كل حال فهو قد فعل ما كان يجب أن يفعله الرجال من أمثاله برغم فداحة المأساة . وفي العدد الرابع من جريدتي التي اسميتها (كلومب كرانت) أي صحيفة الحذاء الخشبي «فلكلور هولندي» نشرت مقالاً للزميل خالد الطاهر يتحدث عن الأصولية الإسلامية وعندما قرأه بعض الصوماليين الذين يقيمون بالمكان فسروا المقال على طريقتهم الخاصة بوضع مشكلة عدم إجادتهم لغة المقال في الحسبان وإتهموني عندها بالهرطقة وأرادوا إذائي وكنت قد حصلت لتوي على الإقامة الدائمة بهولندا فأخرجتني الإدارة الهولندية تحت حماية البوليس وقد تصادف أن تكون معي ذلك اليوم صديقة هولندية تعرفت عليها للتو وهي «ميفراو إسخادي» وقد أخذتني إلى بيتها الواقع في مدينة نايميخين حلآ للأزمة وأقمت هناك لبعض الوقت ثم ذهبت بي الحياة إلى اقدار جديدة. وقد أصبحت «ميفراو إسخادي» في المستقبل صديقة حميمة للجالية السودانية بهولندا لكل الوقت وهي إمرأة مثقفة وتهب لنجدة كل صاحب حاجة ولا يمكن وصفها إلا بأنها عظيمة ومرهفة الحس والشعور .