تركيا: حسن عبد الحميد: لم يكن العالم العربي والإسلامي المعاصر يأبه كثيرا بتركيا قبل أردوغان، لكن الزعيم الشاب الذي أثبت جدارة عالية في القيادة السياسية للجمهورية التركية قبل أكثر من عقد من الزمان، جعل أنظار المسلمين والعالم تتجه لتركيا في محاولة لدراسة أسباب النجاح واستخراج الدروس والعبر. صحيح أن المهندس أربكان حقق شهرة واسعة من قبل باعتباره أبرز قادة العمل الإسلامي السياسي في تركيا الحديثة، لكن أردوغان انطبق عليه المثل السوداني (الحوار الغلب شيخه)، فقد انطلق أردوغان مع مجموعة من شباب حزب العدالة والتنمية أشواطا بعيدة في العمل السياسي الإسلامي في تركيا الحديثة، وكانت ولا زالت بصماته واضحة في الحياة التركية. هذا عن المجال السياسي، لكن هذا المجال لم يكن ليحقق تلك القفزات دون جهود رجل يُعتبر بحق من المجددين خلال القرن السابق، وذلك بتحديه لعلمانية أتاتورك وحرصه على تثبيت هوية تركيا الإسلامية أمام المحاولات الهوجاء للعلمانية الحمقاء التي سعت لطمس تلك الهوية؛ ذلكم هو الإمام بديع الزمان سعيد النورسي، فقد بذل الإمام النورسي جهودا فكرية ودعوية وعلمية مضنية جدد من خلالها الإسلام خلال القرن الماضي، ووضع بصمات واضحة على مسيرة الشعب التركي لاحقا، وتحمل في سبيل ذلك ألوانا من المتاعب وصنوفا من المشقة والعناء، لكن جهوده أثمرت بعون الله خيرا وفيرا لتركيا المعاصرة، ويتأهب طلاب الإمام النورسي لنشر ذلك النور في أنحاء المعمورة من خلال ترجمة رسائله المسماة رسائل النور إلى أكثر من ثلاثين من لغات العالم الحية. أتاحت لنا منظمة (وقف الخيرات) التركية التي أسسها ويشرف عليه تلاميذ الإمام النورسي فرصة طيبة لزيارة تركيا لحضور المؤتمر العالمي السادس حول رسائل النور والاتحاد الإسلامي الذي نظمه وقف الخيرات في الفترة من السادس والعشرين إلى السابع والعشرين من مايو الماضي 2013م بأنقرة، بحضور وفود من خمس وثلاثين دولة من أنحاء العالم مثلوا قارات الدنيا الخمس، وفي قاعة اتسعت لاثنين وعشرين ألفا من الحضور. الجلسة الافتتاحية للمؤتمر جمعت كلا من الشيخ سعيد النوري الخليفة الثاني للإمام النورسي والمشرف على وقف الخيرات، ونائب رئيس الوزراء التركي بكر بوز داق، والشيخ رائد صلاح أحد أبرز قادة الحركة الإسلامية في فلسطين، والشيخ الدكتور الزبير أحمد حسن الأمين العام للحركة الإسلامية السودانية، والدكتور جمال عبد الستار وكيل وزارة الأوقاف المصرية، والأستاذ علي كُرت الأمين العام لاتحاد المنظمات الأهلية في العالم الإسلامي، والأستاذ بولاند كونر القيادي بوقف الخيرات، وعددا من قادة العمل الإسلامي من دول آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا والولايات المتحدة وإفريقيا والعالم العربي. طلاب رسائل النور وشباب وقف الخيرات كانوا على درجة عالية من الترتيب والتنظيم واستطاعوا الإشراف على هذا الكم الهائل من الحضور بسلاسة عالية وكفاءة كبيرة،وقدموا خدمات الضيافة والسكرتارية والترجمة والمرافقة للوفود بدرجة عالية من المهنية، وأخبرني مرافقي التركي أن هناك أكثر من خمسمائة من طلاب رسائل النور قدّموا خدماتهم تطوعا دون أن يتقاضوا مليما واحدا، والمثير للإعجاب أن معظمهم من الطلاب الذين سيجلسون للامتحانات بعد أيام قليلة، وقد تركوا كل همومهم الخاصة ليساعدوا في نجاح المؤتمر ويقفوا على راحة الضيوف، وفكرة الوقف والتطوع هذه تحتاج لدراسة كاملة للاستفادة منها في عالمنا العربي، وقد أشرت لذلك في اليوم الثاني عندما أتيحت لي فرصة التحدث للمؤتمرين. معظم المتحدثين من الوفود العربية أشادوا بالتجربة التركية وجهود الإمام النورسي، ثم ركزوا على قضية المسلمين الأولى وهي قضية القدس الشريف والمسجد الأقصى، وبشروا بقرب النصر على اليهود على خلفية ثورات الربيع العربي التي أعادت الأمور إلى نصابها في معظم الدول التي زارتها. وبشروا بقرب عودة الخلافة الإسلامية لترفرف على العالم من جديد وعاصمتها القدس الشريف. أما نائب رئيس الوزراء التركي بعد أن أشار إلى جهود النورسي ونوّه بفضله، تناول الأحداث المعاصرة وأهمها ما يحدث في سوريا، وشن هجوما عنيفا على نظام الأسد واصفا إياه بالفرعون، كما نال حزب الله حيزا وفيرا من كلمته وطالب الحزب بتغيير اسمه إلى حزب الشيطان بعد الجرائم التي ارتكبها بحق المسلمين إثر قتاله إلى جانب النظام السوري وتقتيله للنساء والأطفال. بعد مؤتمر الاتحاد الإسلامي بأنقرة، أتاح لنا وقف الخيرات زيارة مدينة إسبرطة، وهي تقع إلى جنوب استانبول حوالي ثماني ساعات، وفيها يسكن الأستاذ سعيد نوري الخليفة الثاني للإمام النورسي، وبها أيضا منزل الخليفة الأول للإمام النورسي الأستاذ خسرو أفندي، وقد تحول المنزل إلى مسجد صلينا فيه صلاة الجمعة يوم الحادي والثلاثين من مايو 2013م، وهو مسجد صغير لكنه أنيق وجميل، بعد صلاة الجمعة طلب الأستاذ سعيد نوري من الزوار العرب أن يلقوا كلمات على المصلين، ومعظم رواد المسجد كانوا من طلاب رسائل النور، فلم يخرج من المسجد أحد حتى فرغ الزاور العرب من كلماتهم، ولاحظت أن معظم رواد المسجد من الشباب، مع قلة تحتل الصف الأول من المسجد من المسنين، قيل لنا إنهم ممن عاصروا الإمام النورسي وجاهدوا معه مجاهداته إبان الصلف العلماني الحاكم في تركيا آنذاك. مدينة بارلا تقع على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا من إسبرطة، وتكمن أهميتها عند طلاب النور في أنها كانت المنفى الأول للإمام النورسي، وفيها ألف مؤلفاته الأولى من رسائل النور، وحكى لنا طلاب النور بالمدينة عن تاريخ الدعوة هناك، كيف أن الإمام النورسي عندما نُفي إلى بارلا حذرت الحكومة التركية الأهالي من الاقتراب منه أو مساعدته، فكان وهو الشيخ المسن يترنح في الشتاء القارس ليجمع حطبا يتدفأ به أو يصنع طعاما من ناره، وكان الأهالي ينظرون إليه في البداية بإشفاق دون أن يجرؤا على مساعدته أو الاقتراب منه. لكن مجموعة من أهالي بارلا وكانوا حوالى عشرة رجال كسروا هذا الحظر وتحدوا السلطات الحاكمة وتقدموا لمساعدة الإمام النورسي، ويطلق طلاب النور على هؤلاء العشرة لقب (أبطال بارلا)، ثم هيأوا له مكانا يستطيع أن يستريح فيه، وفيه كتب مؤلفاته الأولى من رسائل النور. وقد زرنا هذا المكان الذي تحول الآن إلى حديقة كبيرة أقام وقف الخيرات مركزا بجانبها وأسمها حديقة الجنة، والحديقة مفتوحة للأهالي من سكان بارلا، كما أن المركز المجهز يستقبل طلاب رسائل النور من كافة الأنحاء لإقامة المخيمات والدروس والمحاضرات، وهو مجهز تماما لهذه المهمة. تطل بارلا على بحيرة رائعة الجمال اسمها اقردير، وهي بحيرة عذبة وكبيرة جدا، أخبرني مرافقي التركي أن طولها حوالي خمسين كيلومترا، ومساحتها حوالي أربعمائة وخمسة وستين كيلومترا، انتقلنا إلى إحدى جزر بحيرة اقردير في اليوم الثالث لإقامتنا في بارلا، وهي الآن جزيرة سياحية، كانت من قبل يصل إليها الناس بواسطة القوارب، لكن الآن قد تم ردم الطريق المؤدي إليها فأصبح الوصول إليها متيسرا بالسيارات، وهذه الجزيرة هي أول منفى للإمام النورسي في ناحية بارلا. وفي إسبرطة أقام وقف الخيرات ثاني أكبر مطبعة في العالم لطباعة المصحف الشريف، وهي تأتي في المرتبة الثانية على مستوى العالم بعد مطبعة المدينةالمنورة لطباعة المصحف الشريف، وهي مطبعة ضخمة تقوم في مبنى ضخم، وتطبع أكثر من مائة وعشرين حجما ونوعا من المصحف الشريف. تركيا الحديثة سياسيا بقيادة رجب الطيب أردوغان، وفكريا بقيادة طلاب الإمام النورسي ورسائل النور، تتأهب لدور ريادي مستحق في العالم الإسلامي، وتدفع مستحقات هذا الدور دون منّ ولا أذى، وفي التجربة التركية بشقيها الفكري والسياسي كثير من الدروس والعبر التي يجب أن نستفيد منها في عالمنا العربي.