كيف تغلغلت إسرائيل في الداخل الإيراني ؟!    أكثر من 8 الاف طالب وطالبة يجلسون لامتحانات الشهادة الابتدائية بسنار    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    أردوغان: الهجوم الإسرائيلي على إيران له أهداف خبيثة    المتّهم الخطير اعترف..السلطات في السودان تكشف خيوط الجريمة الغامضة    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    الحلقة رقم (3) من سلسلة إتصالاتي مع اللواء الركن متمرد مهدي الأمين كبة    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    التقى بروفيسور مبارك محمد علي مجذوب.. كامل ادريس يثمن دور الخبراء الوطنيين في مختلف المجالات واسهاماتهم في القضايا الوطنية    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صورة مجتمع السبعين في الرواية السودانية
نشر في الصحافة يوم 09 - 07 - 2013

: يقول الناقد الروسي ( تيودوروف ) : ( كل عمل أدبي , وكل رواية , تحكي من خلال مسيرة أحداثها حكاية تأليفها الخاصة . وحكايتها الخاصة . فالرواية العظيمة , هي التي تكشف عن الحقيقة الكامنة وراء تأليفها . وبذلك يظهر بطلان البحث عن المعني النهائي لهذه الرواية , أو تلك الدراما . لأن معني العمل الأدبي قائم في الحديث عن نفسه , وفي حديثه لنا عن وجوده الذاتي . وهدف الرواية , هو أن تستدرجنا الي ذاتها . ويمكن القول بأن تبدأ بحيث تنتهي . لأن وجود الرواية , هو الحلقة الأخيرة في حبكتها . وحيث تنتهي الحكاية المروية , حكاية الحياة . هنا تبدأ حكاية تاريخ الأدب .
وقد تأثرت الرواية السودانية , وما تزال بالمدرسة الواقعية , وبالأخص الواقعية الاجتماعية . لأن ما يحدث من تفاعل , وتطور في المجتمع السوداني , يتطلب هذه الكتابة الواقعية . خاصة عند جيل الستينات والسبعينات . وهي تمثل عصر التحولات الاجتماعية والسياسية والآيديولوجية الكبيرة في عالمنا العربي والأفريقي . وقد كتب الروائي الراحل ( ابو بكر خالد ) كل رواياته وقصصه تحت مظلة مدرسة الواقعية الاجتماعية . ومنها رواية ( كلاب القرية ) ورواية ( بداية الربيع ) و( النبع المر ) وأخيرا رواية ( القفز فوق الحائط الأخير ) والتي صدرت عن سلسلة روايات ( دار الهلال ) في العام 1976م .
موازاة العالم الفني للعالم الحقيقي : -
لقد استطاع الروائي أبوبكر خالد , في هذه الرواية أن يخلق عالما فنيا روائيا , به كل فنيات العمل الروائي الحداثوي , وأن ينقلنا به الي زمن الحدث في السبعينات , والروائي الراحل في هذه الرواية , لم ينقل الواقع نقلا توثيقيا , وتسجيليا , وانما أعطي النص من روحه , ومن خياله , ومن تجربته الكثير . وفي أحداثها تحكي عن مجتمع الأفندية والخدمة المدنية في ذلك الوقت . وللمرأة دور البطولة في هذه الرواية . شخصية ( نجلاء ) وهي فتاة جميلة فاتنة , ومتعلمة , وموظفة , جاءت من بيئة فقيرة وأسرة ليست متعلمة . وهذا الفقر كان سببا في تأخر زواجها , وكان جمالها ووجودها بين الرجال , سببا في صراعها المحموم للمحافظة علي أخلاق المجتمع الذي تربت فيه . ورغم تأثر أبو بكر خالد بواقعية نجيب محفوظ , إلا أنه استطاع أن ينقل روح المجتمع السوداني , والشخصية السودانية , في صراعها بين أخلاق الريف , وانفتاح المدينة علي مستجدات الحضارة الحديثة . وكل هذا الصراع الذي كان يدور في هذه الرواية , وإذا كان هيغل قد عرف الرواية بأنها ملحمة برجوازية , وكما قال لوكاتش في كتابه ( دراسات في الواقعية ) بأن الرواية تطورت مع تطور الطبقة الوسطي , فان رواية ( القفز فوق الحائط القصير ) تدور أحداثها في هذه الدائرة البرجوازية الضيقة , التي نشأت بعد رسوخ الخدمة المدنية , وقيام دولة الأفندية . وقد حاول الروائي أبو بكر خالد أن تكون شخصيات الرواية عادية في سلوكها وعاداتها وأفكارها , في قوتها وضعفها . في حبها وبغضها , وعلاقاتها الاجتماعية والانسانية . وموضوع الرواية ممكن حدوثه ماضيا وحاضرا . ويمكن أن تدخل هذه الرواية في عدة أهداف اجتماعية وانسانية , فقد يكون هدف الرواية , كشف الحياة الاجتماعية أو الانسانية , بغية معالجة مشكلة أو صراع , أو الكشف عن الصلات السببية بين المحيط الاجتماعي للإنسان ومصيره , أو التناقض بين قيم الطبيعة الخيرة وما يسود الحياة الاجتماعية من استغلال وقتل للبراءة والجمال , أو تصوير غني العالم الداخلي للإنسان وتناقضه , أو الطابع المأساوي لحياته في مجتمع ظروف الاستغلال , أو الطابع الانساني في علاقاته الاجتماعية . وهذه الرواية يمكن أن تكشف عن كل هذه المعاني والمضامين .
الفضاء المكاني في الرواية : -
تدور أحداث الرواية في العاصمة الخرطوم بفضاءاتها الثلاثة . ولأن الروائي يعرف المكان بتجربته الخاصة , فقد كان يعرفه جيدا . وحركة الشخصية في داخله كانت موزونة ومنطقية بحكم معرفة الكاتب المكانية . والكاتب يخل حتي المكان الخاص للشخصية , فيصفه وصفا رائعا وجريئا . حتي أن المتلقي يحس بالشخصية تتحرك فيه حقيقة وليس خيالا , أو مرورا سريعا عابرا . يقول في صفحة 31 : - ( الدجاج في فسحة المنزل . . ينبش الأرض , حبل الغسيل , الكانون , الطست , العنقريب المهتوك يرقد بصفحته علي الحائط . . وقد نقرته الأمطار . . باب الزنك القصير . . الحجرتان والبرندة التي تربط بينهما . . حجرة الوالد عنقريب وكرسي جلوس عتيق ومسامير علي الحائط تحمل الملابس المختلفة , دولاب عجوز علي رأسه حقيبة كبيرة لم تفتح من زمن طويل , صورة قديمة للسيد علي الميرغني ملصقة بالصمغ علي الحائط . . في الصالة سريران وأربعة كراسي من الخيزران . . ومنظر طبيعي . . حجرتها نظيفة أنيقة . . استطاعت أن تلمس بين عالمين , حجرة الوالد تمثل القديم الذي تسعي للخلاص منه , وحجرتها تمثل تباشير المستقبل الذي تهفو اليه , والصالة مرحلة وسطي من مراحل الخطة وبقيت فسحة المنزل امتدادا طبيعيا لحجرة الحاج . . ) وقد استفاد الكاتب من تقنية القصة القصيرة في التكثيف اللغوي في المزايا الجمالية للمكان . بدون تفصيل ممل . فالمكان في رواية ( القفز فوق الحائط القصير ) سوي كان المدينة في سطحها الخارجي , أزقتها , وحواريها , لم ينفصل أبدا من الزمان الذي تتحرك فيه الأحداث . ومعروف بأن العلاقة الجدلية بين الزمان والمكان من العلاقة الجدلية بين الكائن ووجوده . لأن عمر الكائن إنما هو طبقات زمنية متراكمة في ذاكرته . وذاكرته لا تنكشف إلا بتفعيل ذاكرة المكان فيها , وبالتالي لا يمكننا أن نعزل المكان عن أثر الزمن في تشكيله وفي إضفاء الملامح التي تجعلنا نقرأ مجتمع السبعين في تحولاته العميقة وصراعه في أن يكون مجتمعا ريفيا محافظا , وأن يعيش في الزمن المديني المنفتح علي كل المستجدات الحياتية والأخلاقية . فوالد البطلة ( نجلاء ) ومعه والدتها يمثلان مجتمع الفرية والريف . وهي تمثل التحول الزماني والمكاني الجديد في مجتمع السبعينات . ( فحتي حجرتها في ديكورها ومحتوياتها تختلف عن حجرة أمها وأبيها ) . وهذه الرواية ليست رصدا عاديا , وانما تعتبر ذاكرة الخرطوم عامة كعاصمة , وذاكرة أم درمان كمدينة لها خصوصيتها الزمانية , والمكانية . وقد استطاع الرحل أبو بكر خالد أن يجعل زمكانية البيت , تختلف عن الزمكانية خارج البيت . فهناك مفردات البيت , ومفردات خارج البيت . فشخصية ( الحاج عمر ) والد نجلاء , يختلف خطابه في المنزل , عن خطابه خارج المنزل . وهذا الخطاب يجعل شخصيته أيضا مختلفة , مثل شخصية ( السيد عبد الجواد ) في ثلاثية نجيب محفوظ . ان هذه الرواية والتي تمثل بشكل من الأشكال تفعيلا قويا لذاكرة الكاتب المبدع , فهي أيضا تعتبر تفعيلا لذاكرة المتلقي , والذي يمكن أن يستعيد , صورا وملامح , تشكلت في ذاته من خلال ما يتركه هذا العمل الابداعي من أثر زمكاني في نفسه . ويمكن أن نعتبر أن الثلاثي ( خليل عبد الله الحاج , وعيسي الحلو , وأبو بكر خالد ) هم الذين كتبوا المدينة السودانية في قصصهم ورواياتهم . ولكن ثلاثة روائيين فقط , لا يمكن لا يمكن أن يوفوا المدينة السودانية حقها الروائي كاملا . لأنهم أبناء مكان وثقافة مكانية واحدة . وهو المكان الأمدرماني .
تماسك البنية الاجتماعية في المكان : -
كان الاستهلال الروائي في النص , محفزا جدا للقارئ . وهو يمثل ذكاء الكتابة الروائية عند الراحل أبو بكر خالد . وهو يفتح باب المكان الواقعي الذي تعيش فيه الشخصية المحورية في الرواية (شخصية نجلاء الحاج عمر ) يقول في المقطع الأول للرواية ( صوت . . ينفجر بالبكاء قبل مطلع الشمس , أبواب البيوت في الزقاق بدأت تفتح . . خرجت أولا بنت الشيخ , ووقفت أمام بيتها الذي يسد مؤخرة الزقاق . . ظلت فترة تسمع وتنظر , ثم تقدمت حتي التصقت بحائط التوم , ظهر وجه التوم فوق الحائط وهو يسأل بنت الشيخ : ماذا حدث يا بنت الشيخ ؟ قبل أن تجيبه , يفتح باب زنك قصير , يخرج منه حاج عمر , وهو يقبض علي عصاه بعصبية . . وينظر شزرا تجاه بيت مرحوم الذي كان ينبعث منه البكاء . . استغرقهم جميعا الصمت لفترة قصيرة . . كان صوت مرحوم أجش موجعا . . ثم يلتفت الحاج لبنت الشيخ : - ماذا حدث يا بنت الشيخ ؟ بنت الشيخ تتحرك معتمدة علي عصاها وهي تغمز للحاج وتقول : - مرحوم يبكي لشيئي واحد . . دعوني أذهب اليه . امتلأ الزقاق بالرجال والنساء والأطفال , وصوت الشيخ يقوي ويشتد . . وتخرج بنت . . الشيخ من بيت مرحوم وهي تخبط كفا بآخر . . وسرعان ما يلتف حولها أهل الزقاق , وهي تمط شفتيها في قرف واضح وتقول : - لعنة الله حلت عليكم أهل الزقاق . . لقد هربت ميمونة . . هبط صمت ثقيل . . وماتت الأسئلة علي الشفاه . . ) . ففي هذا المقطع الاستهلالي نكتشف بنية المكان الاجتماعية , حيث الكل يتعاطف مع الفرد . ومنذ بداية الرواية نكتشف البنية المتماسكة لهذا المجتمع . فهروب ميمونة يعتبر وصمة عار علي كل أهل ( الزقاق والحي ) . والكاتب يمثل جزءا من الوعي الجمعي لهذ المجتمع . ولكن كان الكاتب واعيا وموازنا بين الشكل والتقني للرواية والمدرسة التي يكتب بها , ووعيه الفردي داخل وعيه الجمعي , وبين الوظيفة الاجتماعية للرواية الواقعية . والتي يري البعض من الروائيين العرب , أن تكون هذه الوظيفة الاجتماعية , مفضلة علي الشكل الفني ومتقدمة عليه . ولهذا لا يعيبون التقريرية والشعارت , والتصنيف المسبق للشخصيات , وسيطرة الروائي وما الي ذلك من الأمور , لأنهم يرون فيها ضرورة تفرضها طبيعة التطور التاريخي لمجتمعنا العربي . وفي هذه البنية الاجتماعية لهذا النص الروائي , نعرف دور الأب في المجتمع , بسلبياته وإيجابياته , وله وعيه وذكائه الاجتماعي حتي ولو كان أميا جاهلا . فهو يمارس حريته الشخصية كاملة خارج المكان والدائرة الاجتماعية التي يعيش فيها . فالبطلة ( نجلاء ) تتذكر دائما أقوال والدها , وتستشهد بها . ( العالم قسمان , فوق وتحت , ولا جسر يربط بينهما . ) والحاج عمر تتمثل فيه حكمة المجتمع , وخلاصة التجربة الحياتية المعيشة حقيقة , وليست شفاهية وتنظيرا . ودائما كان يقول لابنته ( أنت من تحت . . لأنك ولدت في هذا البيت ولأن أمك واباك ايضا من تحت . . وتعليمي ووظيفتي ؟ هذه سلالم تتيح لك أن تصعدي عليها لتتسلقي لفوق . . وكنك كيفما حدث لت تتخلصي من تحت . . لماذا ؟ لأن الدنيا التي تصلين اليها , تعرف أنك من تحت ولن تغفر لك أبدا ولادتك في هذا البيت . . ) . وهذا الأب رغم سهره , وسكره , وعربدته , فهو رجل الكلمة والمسؤولية تجاه اسرته التي لم يتخل أو يقصر تجاهها أبدا . حتي بعد أن توظفت ابنته . وهو نموذج الأب المسؤول في مجتمع السبعين . ورغم فقر الأب وأميته فان ابنته كانت فخورة به وبعمله وسعيه من أجل منزله . .
صورة الموظف الأفندي في النص الروائي : -
كانت شخصية حسين تمثل صورة الموظف الأفندي الذي يأمر وينهي .وهي شخصية كانت في مجتمع الستين والسبعين ونهاية الثمانين , تمثل قوة وسلطة ومهابة , بوضعها الاجتماعي والمعرفي والمادي . وهي طبقة في رأي الحاج عمر والد نجلاء يعتبرها صنيعة انجليزية استعمارية ( والخلاف يا بنتي ليس في المبني الفاخر , والملبس الأنيق الاختلاف حتي في التفكير والاحساس والشعور , الفقر في ظنهم سلب الناس كل شيء , ونحن لا نساوي عندهم شيئا , بالقروش يشترون ذممنا , ويريقون ماء وجوهنا , ويزنون مقام نسائنا وبناتنا . . ) ( وشخصية حسين أفندي ) مكروهة من الرجال محبوبة من النساء , لأنه النموذج الذي تتطلع اليه الفتاة في ذلك الوقت . ( هل تحبين حسين أفندي ؟ ومن التي لا تحبه في الشركة . . حتي المتزوجات ؟ نعم حتي المتزوجات . . ) ولعله يعتبر الجسر الذي يريد أن يعبر به من هم تحت الي الفوق . وقد كانت عاطفته نحو ( نجلاء ) سكرتيرته الجميلة والفقيرة , عاطفة مضطربة , فيها النظرة الاستعلائية والفوقية . فهي لا تصلح زوجة بمقاييسه الاجتماعية , وانما تصلح عشيقة , وخليلة .
واقع المرأة وحقيقتها في المكان والزمان : -
لقد كانت البطولة , والشخصية المحورية في الرواية للمرأة , ( شخصية نجلاء ) تلك الفتاة الجميلة والمتعلمة , والتي كانت تريد ثمنا لهذا الجمال وهذا التعليم , أي أنها كانت تريد لجمالها أن يكون جسرا للفوق , ومنذ فترة المراهقة , وهي طالبة في المرحلة الثانوية , كانت تبحث عن الشخصية الفوقية العالية , والتي تري بأنها تستحق فعلا جمالها . وكانت مشكلتها الكبيرة أنها جميلة بشهادة الجميع . وقد كانت امها وابيها والمكان الذي تربت فيه يمثلان العاصم الأخلاقي لها من الوقوع والسقوط والزلل . لقد تربت في المكان لتكون العروس وليس غير ذلك . ( لقد كانت نجلاء في هذا الحي العروس التي تحلم بها كل أم لابنها ) . ولكن كانت مشكلتها أن ليس كل عريس يستحقها . لذلك رفضت جارها ( التوم ) الذي طلق زوجته من أجلها . ورغم وجود نماذجا نسائية أخري في الرواية , كشخصية الموظفة ( سكينة ) والتي تدير منزلا سريا للدعارة , فقد أرادها الكاتب رغم هذا السقوط الاخلاقي أن تكون في تفكيرها , داخل دائرة التفكير الأخلاقي الجمعي للمكان . فالمرأة في هذا المجتمع حتي القوادة والعاهرة فيه . تريد أن لا تقع الأخريات من اللائي يهمهن أمرهن أن لا يقعن فيما وقعن هن فيه . ( وقالت سكينة في انفعال شديد وهي تحبس صوتها بطرف الملاءة . . لم يكن لي خيار . . لو لم أجد قروشا , لذهبت شقيقاتي لبيوت الليل . . الخيار صعب , أم شقيقاتي أو بنات الشركة . . فعلت أهون الامور مع نفسي ) .
بين النموذج والشخصية : -
يقول الدكتور سمر روحي الفيصل , في كتابه ( التطور الفني للاتجاه الواقعي في الرواية العربية السورية ) , ( تنطلق الواقعية ضمن نظرية الانعكاس من أن النموذج خلق فني للبطل الروائي وليس محاكاة لإنسان محدد في الواقع المحيط بالروائي . والمراد بالخلق الفني العملية الجدلية بين الملامح الفردية الخاصة والعوامل الموضوعية التي تحدد بعض الملامح الاساسية في تطور المجتمع . وبهذا المعني يختلف النموذج عن الشخصية . فالنموذج تطرف في العناصر الفردية والنوعية , وهذا التطرف ينبع كما قال الدكتور صلاح فضل في كتابه ( منهج الواقعية في الابداع الأدبي ) ( ينبع من ضرورة عرض أعمق ما في الشخصيات الانسانية , وأبعد مضمونات الحياة بكل ما فيها من تناقضات . ) . ولذلك لم يرد الروائي أبو بكر خالد في هذه الرواية من أن تكون رواية شخصيات عادية , واقعية , لان روايته لا تحتاج أكثر من ذلك . ولا يسمح المكان لأكثر من هذه الشخصيات .
لقد كتب روايته هذه بمستوي حداثوي متقدم , مما يدل علي انفتاح الروائي السوداني في عهد السبعينات بكل تقنيات الكتابة الروائية الحديثة . فقد استخدم الراوي العليم , والذي يمثل الوعي بما يدور في المجتمع , والمكان الذي تدور فيه الأحداث . وقد كان التحفيز الواقعي لكل سير الاحداث مشوقا , ومحفزا لمتابعة الرواية واحداثها حتي النهاية . وكان الحوار بالفصحي ولكنك تحس بان الكاتب قد طوعها لتكون سلسة ومفهومة حتي علي مستوي الشخصيات المتحاورة . ولأن الحياة الاجتماعية وسيرها الأفقي لا يسمح للشخصيات أن تنفرد بنفسها , وأن تعيش بعيدا مكانيا وزمانيا , فقد تخلص الكاتب ابو بكر خالد من عقدة الكتابة بتيار الوعي والتي سادت كثيرا في العالم العربي في تلك الفترة . ولو أنها قد جعلت لغة الكاتب أقرب الي لغة الواقع الذي يتحدث عنه . انها رواية تستحق إعادة طباعتها مرة أخري لكي تعرف الأجيال الجديدة , هؤلاء الرواد الكبار الذين فتحوا الطريق واسعا لكي تكون للرواية السودانية وضعها المميز .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.