واحدة من النصائح التي قدمها المرحوم الدكتور عمر نور الدائم نائب رئيس حزب الأمة لقادة الجبهة الإسلامية بعد التغيير الذي قادوه في يونيو 1989م باسم ثورة الانقاذ الوطني، وأنهى الفترة الديمقراطية الثالثة أو حكم السيد الصادق المهدي، فقد قال نور الدائم لتلك القيادات الإسلامية: «لو صبرتوا شوية وأكملتم هذه الدورة الانتخابية التي لم يتبق منها إلا فترة قليلة لشكلتم أغلبية داخل البرلمان القادم»، خاصة أن الجبهة الإسلامية كانت تمثل القوى الثالثة في البرلمان بعد حزب الأمة «101» نائب والحزب الاتحادي الديمقراطي «64» نائباً والجبهة الإسلامية القومية «53» نائباً، وبالتالي تكون الحركة الاسلامية قد ساهمت في إكمال دورة برلمانية كاملة متجددة لم تحدث في السودان من قبل، خاصة أن دورهم في المعارضة قد زاد من رصيدهم الشعبي وسط أهل السودان، ولكن كما قال نور الدائم ان الجبهة الاسلامية القومية تعجلت وباغت الديمقراطية بهذا الانقلاب الذي حدث في وقت كان السودان فيه أحوج إلى تثبيت أركان تجربته الديمقراطية، ولكن الحيثيات التي قدمتها ثورة الانقاذ الوطني في ذراعيها السياسي «الجبهة الاسلامية» وذراعها العسكري ممثلة في مجلس قيادة ثورة الانقاذ الوطني، كانت مختلفة تماماً عما كان يدور في عقل وقلب الدكتور عمر نور الدائم من أمانٍ وأحلام في ذلك الوقت. ولكن يبدو أن النظرة السليمة لهؤلاء القادة في الحركة الاسلامية السودانية في ذلك الوقت قد سبقت كثيراً من التجارب التي جاءت لاحقاً بعد قيام الانقاذ الوطني في 30 يونيو 1989م. فقد تنبه هؤلاء إلى هذا الأمر واحتاطوا له بالقدر الذي يؤمن لهم تجربة حكم ممتدة لعدة سنوات وليس لدورة نيابية واحدة. وكان في بالهم أيضاً ما أشار إليه المرحوم الدكتور عمر نور الدائم وزيادة رصيدهم الشعبي وسط أهل السودان، الذي يمكن لهم زيادة عدد نوابهم داخل البرلمان في الدورة النيابية الجديدة، ولا داعي لتغيير الحكم بالقوة كما حدث في عام 1989م. وقد زادت قناعات الإسلاميين بهذا الأمر أنه لا بد من «قوة» تحرس مسيرتهم وتمكنهم من إنفاذ برنامجهم خاصة بعد إخراجهم من الحكم في فبراير 1989م عبر مذكرة الجيش، بعد ان كانوا جزءاً من حكومة قومية في عام 1988م. لهذه رأت الحركة الإسلامية السودانية وسط هذا الذي تم في فبراير 1989م واخراجهم من الحكومة بهذه الصورة المهينة، أنه لا بد من الاستفادة من هذا الأمر والتطور الذي حدث واخراجهم من الحكومة القومية. وتمت قراءة هذا الأمر مع اكتمال الدورة النيابية الحالية، ولكن هذا الأمر لا يستقيم مع الدورة الجديدة وان حققت فيها الحركة الإسلامية نجاحاً بزيادة عدد نوابها، وأصبحت القوة الأولى أو الثانية في البرلمان، لأن هذا لا يمنع عنها كيد الأعداء والتربص بها. وهذا الأمر يحمد لقائد الحركة الاسلامية السودانية في ذلك الوقت د. حسن عبد الله الترابي عندما تحسب لهذا الأمر مع اخوته، فكان لا بد من قوة ان كانت من داخل المؤسسة العسكرية أو غيرها لحماية الحكم بعد استقر الرأي على التغيير لحماية الشريعة، بعد أن استقرت القوى الأخرى لتغيير الدستور إلى شبه علماني وإلغاء الشريعة التي هي المصدر الأول للتشريع. ويبدو أنه ما تنبهت إليه الحركة الاسلامية السودانية في ذلك الوقت التي تجاوز ربع قرن من الزمان، فقد أكدت التجارب السياسية بعد ذلك صدق هذه الرؤية، وان كانت في مراحل مختلفة طوال تلك الفترة التي نفذت فيها الحركة الإسلامية رؤيتها في عام 1989م. وفي عام 1993م في الجزائر عندما حقق الإسلاميون هناك فوزاً كبيراً في تلك الانتخابات التي جرت في ذلك العام كما هو معروف، فإن تجربة الديمقراطية في الجزائر تم وأدها، قبل أن تنبت وتخرج من إلى سطح الأرض. وكان تعليق د. حسن الترابي في ذلك الوقت أن القوى الغربية تكفر بالديمقراطية إذا ولدت إسلاماً، ولم تمض على التجربة الجزائرية التي تم إجهاضها أعوام كثيرة حتى جاءت التجربة الفلسطينية والتي مكنت الحركة الاسلامية للمقاومة حماس من الأغلبية داخل البرلمان الفلسطيني، واعطت الحق لحماس لتشكيل الحكومة، ولكن قبل أن تتثبت أركان التجربة تم الانقلاب على هذه الديمقراطية التي ولدت إسلاماً، ولكن حماس استطاعت أن تحتفظ بقطاع غزة وتمارس فيه السلطة دون الضفة الغربية التي تآمرت مع القوى الغربية للإطاحة حكومة إسماعيل هنية، وكانت كتائب القسام العسكرية وحركة المجاهدين داخل القطاع كافية لحمايته من أي توغل من جانب الضفة الغربية للقضاء على حكم حماس داخل قطاع غزة، وتمكن الذراع العسكري «كتائب القسام» من حماية شرعية الإسلاميين في حكم قطاع غزة، وان لم يكن غير ذلك لكانت الضفة الغربية قد سيطرت على قطاع غزة. وغير بعيد عن ذلك فإن المشهد المصري الماثل أمام الجميع يؤكد هذه الحقيقة التي فطن إليها الإسلاميون في السودان منذ ربع قرن من الزمان، فبعد التطورات التي أطاحت حكم الرئيس المصري السابق حسني مبارك في ثورة الخامس والعشرين من يناير، وحققت الانتخابات التي جرت في مجلس الشعب وانتخابات الرئاسة بفوز كبير للإسلاميين، وحقق ومحمد مرسي فوزاً على كل منافسيه في الجولة الأولى والثانية للانتخابات وهذه المرة الثالثة في العالم العربي «الديمقراطية تلد إسلاماً»، لكن المؤامرة في مصر كانت أكبر حيث كان الهدف أولاً تفشيل حكم الاسلاميين واظهارهم بصورة الضعف، وعدم تمكنهم من ادارة شؤون البلاد بالقدر الذي يحل الأزمات التي تفاقمت وكانت جزءاً من المؤامرة عبر اتساع دائرة انتشار أعمال البلطجة والتلاعب في كميات البنزين والدولار، الأمر الذي يزيد من غضب الشعب المصري تجاه حكومة هشام قنديل التي رفض مرسي تغييرها بسبب ضغوط المعارضة، وكان مرسي قد اتخذ قراراً باقالة قادة الجيش المصري وهما المشير طنطاوي والفريق أول سامي عثمان، ودفع بقيادة جديدة للجيش المصري بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي والذي هاجمته القنوات الفضائية لموالية والمعارضة ووصفته برجل الاخوان داخل المؤسسة العسكرية، ولكن الفريق عبد الفتاح السيسي انقلب على الرئيس الذي عينه وقاد انقلاباً، ووضع قائده الأعلى داخل الاقامة الجبرية في استراحة الحرس الجمهوري. وهذا التطور الذي حدث في مصر بازالة الاسلاميين من الحكم بهذه الطريقة ومنها قبله حدث في الجزائر وحماس، يؤكد صدق رؤية الحركة الإسلامية السودانية على انه لا بد من «ذراع عسكري» لحماية حكم الإسلاميين، ان كان طريق الانتخابات أو غيرها، وهذا ما فطنت إليه الحركة الاسلامية السودانية قبل ربع قرن من الزمان، ولكن الذي فات على أمينها في ذلك الوقت حسن الترابي ان الذراع العسكري يمكن أن ينقلب عليه وان كان موالياً كما حدث في عام 1999م. وهذه التجارب التي حدثت في الجزائر وفلسطين وأخيراً مصر، تؤكد ان لا بد من ذراع عسكري لحماية حكم الاسلاميين، وأعتقد فعلاً إن كان عبد الفتاح السيسي القائد العام للجيش المصري من الإخوان أو الموالين لهم كما أشيع عندما عينه مرسي في هذا المنصب المهم، ما كان ليحدث هذا، وفعلاً لولا كتائب القسام في حماس ما كان يمكن لحكومة إسماعيل هنية ان تستمر في حكم القطاع. ولهذا السبب حكم الإسلاميون في السودان «24» عاماً ولم يستطع الآخرون الحكم عاماً واحداً.