«أنا على قناعة تامة بأن الصراع بين دولة السودان ودولة جنوب السودان ليس سوى مرحلة عابرة سيتم تجاوزها إن عاجلاً أو آجلاً بالوصول الى علاقة مستقرة على قاعدة التعايش وحسن الجوار والاعتماد المتبادل والمنافع المشتركة، فكلا الدولتين لا يستطيع أن يقفز فوق التاريخ ولا أن يلغي الجوار الجغرافي أو يمنع التواصل الشعبي الحميم عبر حدود تتجاوز الألفي كيلومتر. انقسام دولة ما الى دولتين ليس بدعة مستحدثة انما هو تجربة خاضتها دول من قبل، وهي ابداً تجربة قاسية لأنها تنطوي على حساسيات وعواطف متناقضة فما نعتبره نحن «انفصالاً» وتشظياً وتفتيتاً يسبب لنا إحباطاً وحزناً وانفعالاً هو بالنسبة للآخر تحقيق حلم عزيز «استقلالاً» و «تحريراً» واسترداداً للسيادة يملأ القلب بهجة وفرحاً. وهذا التناقض يخلق مواجهة كامنة او متفجرة بين مشاعر متناقضة، مما يهيئ الأجواء لمثل الصراعات التي شهدناها أخيراً والتي هي أشبه بأمراض التسنين للدولة الجديدة وانفجار عواطف مكبوتة في الدولة القديمة. إن الدولة الوليدة بعد الانفصال أكثر حساسية وأكثر اندفاعاً لأنها تريد «اثبات الذات» وينتابها إحساس بضرورة أن تقف «ديدبان» لحماية هذه «السيادة» المكتسبة حديثاً، ويسودها شعور بأن تلك السيادة عرضة للتهديد من جانب الدولة الأم خاصة في ظروف انعدام الثقة السائدة .. تلك مرحلة عشناها مع مصر قبل أكثر من نصف قرن، واحتجنا لوقت لكي نتجاوزها. والدولة السلف من جانبها تحس بالمرارة وخيبة الأمل، وترى في الانفصال تنكراً «للوطن» ونكراناً لجمائله وخيانة للولاء الذي ينبغي أن يكون ثابتاً للوحدة الوطنية، ومهما حاولت الدولة الأم أن تخفي هذه المشاعر فإن تصرفاتها تعكس هذه المرارة والانفعال وردود الفعل الغاضبة، وبين توجس الطرف الأول وخيبة أمل الطرف الثاني ينفلت العيار». هذه الكلمات المبصرة هي بعض ما جاء فى مقال قيم كتبه أستاذنا محجوب محمد صالح بعنوان «الجنوب والشمال .. فى السودان الكبير» خصّ به العدد الثانى من مجلة «خطاب» التى تصدر من معهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم. ويمسك «محجوب» بقلمه الذى هو كالمبضع فى يد جراح حاذق ليقول: «لقد وقع الانفصال السياسي ولا ينبغي أن نسمح له بأن يتحول الى انفصال وجداني، فعندنا من أسباب التوحد الكثير لو أحسنا استغلاله، وعندنا من مصادر «القوة الناعمة» ما يمهد السبيل لعلاقة متميزة ومتطورة تحافظ على إرث السودان الكبير، وعندنا من المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة ما يمكننا من إنجاز مشروع رائد للتكامل والتعايش بما يتجاوز الانفصال السياسي ويحافظ على الوحدة الوجدانية». ويركز الأستاذ محجوب على مجموعة من الحقائق التى توجب الحرص على علاقة صحية بين الشمال والجنوب، ومن بين تلك الحقائق كما يقول: «هناك جوار مباشر بين خمس من ولايات الشمال «جنوب دارفور، جنوب كردفان، النيل الأبيض، سنار والنيل الأزرق»، وثلاث من ولايات الجنوب «الوحدة، اعالي النيل وشمال بحر الغزال»، ويعيش في هذه الولايات ما يقارب ربع سكان السودان الكبير، وهي قبائل رعوية تتحرك موسمياً شمالاً وجنوباً بحثاً عن الكلأ والماء لمواشيها، وتنشط بينهم التجارة وتبادل السلع والمنافع وقد ظلت حركتهم دائبة وأسواقهم مفتوحة حتى في أشد أيام الحرب الأهلية قسوة،لأن حياتهم رهينة بهذه الحركة الموسمية التي يجب المحافظة عليها وأن نرعاها وأن نطورها لنشاط تكاملي». ويخلص الأستاذ محجوب الى القول: «إذا كانت مصر هي «هبة النيل» فإن جمهورية جنوب السودان هي «هبة النفط» لأنها حالياً لا تملك من مصادر الايرادات سواه، وحكومة الجنوب تحصل على ثمانية وتسعين في المائة من دخلها منه، وحين تغلق آباره فهي تغلق مصدر حياتها الأوحد، ولا يمكن أن يتواصل هذا النهج الانتحاري لمجرد النكاية بالسودان، وبالمقابل فإن السودان لا ينبغي أن يعتمد على أنه يملك اليوم الوسيلة الوحيدة لتصدير نفط الجنوب فيبالغ في تقدير رسومه لدرجة تعتبر ابتزازاً. والعقل الراشد إذا توفر سيقود الطرفين الى التخلي عن سياسة «عض الأصابع» والبحث عن نقطة التقاء لمصلحة الطرفين». أستاذنا محجوب.. متعك الله بالصحة والعافية وحفظ الله لنا قلمك المبصر فى زمن العتمة والمحاق، فقد ختمت هذا المقال بقولك: «ليست هذه مجرد أماني وأمنيات، بل هي قراءة متأنية لواقع ملتبس غابت عنه الحكمة وسادته ردود الأفعال المنفلتة».