٭ قلت في حديث سابق، إن للديمقراطية، علاقة قوية بالماضي.. علاقة قوية و(حميمية) و(فوق الشبهات). ٭ الديمقراطية تدرك أن الماضي (الذي يقف على رجلين)، هو الذي يحملها (على أكتافه).. وأنه إذا ما سقط الماضي، سقطت في القاع، واستقرت في (مزبلة التاريخ). غير مأسوف عليها. ٭ في سياق (غير متصل)، حفظ التاريخ للراحل الشريف زين العابدين الهندي مقولته الشهيرة، أمام البرلمان (68 98م): الديمقراطية دي لو جاء جاريها كلب.. ما حتلقى اللي يقول ليهو: جر. ٭ وفي ذات السياق (غير المتصل)، لم تمنع ديمقراطية وستمنسر (المزركشة الجميلة، ذات العينين الخضراوين، والقد الأهيف، والأرداف المكتنزة)، مجتمع الشغيلة في أوربا وآسيا من عمال وفلاحين، من البحث عن رغيف الخبز الحار، ولا منعت حلقات الانتلجنسيا من التفكير في جناح جديد لطائر الحرية، الذي لا يمكن أن يحلق إلا بجناحين. ٭ نعود للسياق، ونؤكد أن الديمقراطية، تحترم الماضي، وتستند إليه، وهي إذ تأتي تأتي لمعالجة هذا الماضي وندوبه ودمامله، وجراحاته وتقيحاته وتقرحاته، ولا تأتي لاستئصال هذا الماضي، أو بتره أو (قطعه من خلاف). ٭ مواجهة الماضي، ومعالجته، من أجل المستقبل، هي مهمة الديمقراطية المقدسة، وشرط صحة قبولها، كمخترع بشري، يظل حتى كتابة هذه السطور، هو الخيار الأفضل قياساً بغيره من خيارات. ٭ ويظل الالتزام بها، هو بطاقة الدخول، لممارسة العمل السياسي، والالتزام بقواعد اللعبة، وعدم تغيير الحصان (أثناء السباق)، والقبول بنتائجها (على علاتها)، وبإفرازاتها (رغم مراراتها). ٭ الديمقراطية، ليست مبرأة من العيوب، ولا عارية من الأخطاء، أخطاؤها (يشيب لها الولدان)، وعيوبها (تقيم الدنيا ولا تقعدها). ومع ذلك، فتعديل عيوبها، وعلاج أخطائها، لا يكون إلا ب (مزيدٍ من الديمقراطية). ٭ بالمناسبة، الديمقراطية يمكن أن تفضي إلى (الأوليجارشية).. حماكم الله وبلادنا من شرور الأوليجارشية. ٭ الديمقراطية ليست (مصباح علاء الدين)، ولا تملك عصاً سحرية، لعلاج أمراض الماضي، ولهذا يستوجب على (الديمقراطيين)، حقيقة لا إدعاء، أن (يلزموا الجابرة)، وينتخبوا من بين روشتات عديدة أنجع العلاج. ٭ الروشتة التي تعيد ترتيب الماضي، بطريقة (تجعل ذكرياته ليست عبئاً على الحاضر). ٭ ومن حق الآراء والأطروحات أن تختلف، في كيفية ترتيب الماضي: هل تكون بعملية سريعة، تطول رموز الديكتاتورية؟ أم تجرى معالجات طويلة وهادئة، لمخلفات الديكتاتورية؟! هل نهتم بالذنب الفردي والمسؤولية الشخصية، عن الأفعال التي ارتكبت أم ننشغل بأخطاء وفظائع المؤسسات؟ ٭ هل ننزل (براءة) تتجاوز الفضيلة أم نثبت (ذنباً) يتجاوز الجريمة؟! كتبت حنة أرندت إلى كارل باسبرز عام 1946م في ألمانيا: (إن شنق غورنغ، كان ضرورياً، لكنه ليس العقوبة المكافئة للذنب)! ٭ هل ننتهج (النهج الثوري) في العلاج والمعالجات، أم نلتزم بالقانون، وآليات المحاسبة الشرعية، وعقلانية الإجراءات القضائية؟! ٭ بعد أكتوبر 1964م، هتف الشارع السياسي: التطهير واجب وطني، وبعد مارس/ أبريل هتف الشارع: لا للسدنة. وفي منتصف عام 1995م، برزت وجهة نظر جديدة، جديرة بالتأمل والاحترام. ٭ في منتصف عام 1995م، ألقى الزعيم الإفريقي نلسون مانديلا، خطابه الشهير، عند افتتاح أول برلمان، منتخب في بلاده. وطرح مانديلا في خطابه، ما عُرف ب (هيئة الحقيقة والمصالحة). ٭ (هيئة الحقيقة والمصالحة)، روشتة جديدة، ومعنى جديد في كيفية معالجة أمراض وأخطاء الماضي.. ٭ وفي 7 يناير 2004م، أعلنت المملكة المغربية على لسان زعيمها جلالة الملك محمد السادس، عن لجنة وطنية للحقيقة والإنصاف والمصالحة تحت اسم (هيئة الإنصاف والمصالحة). ٭ (هيئة الإنصاف والمصالحة) و(هيئة الحقيقة والمصالحة)، سطران جديدان وتجربتان في سياق (العدالة الانتقالية)، والعدالة الانتقالية مفهوم من مفاهيم الديمقراطية في التعامل مع الماضي. (ونواصل).