التقى وزير الخارجية المصري.. رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يؤكد عمق العلاقات السودانية المصرية    الدعم السريع تحتجز (7) أسر قرب بابنوسة بتهمة انتماء ذويهم إلى الجيش    الهلال يفتتح الجولة الأولى لابطال افريقيا بروندا ويختتم الثانيه بالكونغو    نزار العقيلي: (كلام عجيب يا دبيب)    البرهان يؤكد حرص السودان على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع برنامج الغذاء العالمي    عطل في الخط الناقل مروي عطبرة تسبب بانقطاع التيار الكهربائي بولايتين    ميسي: لا أريد أن أكون عبئا على الأرجنتين.. وأشتاق للعودة إلى برشلونة    رونالدو: أنا سعودي وأحب وجودي هنا    مسؤول مصري يحط رحاله في بورتسودان    "فينيسيوس جونيور خط أحمر".. ريال مدريد يُحذر تشابي ألونسو    كُتّاب في "الشارقة للكتاب": الطيب صالح يحتاج إلى قراءة جديدة    عثمان ميرغني يكتب: إيقاف الحرب.. الآن..    مستشار رئيس الوزراء السوداني يفجّر المفاجأة الكبرى    مان سيتي يجتاز ليفربول    التحرير الشنداوي يواصل إعداده المكثف للموسم الجديد    دار العوضة والكفاح يتعادلان سلبيا في دوري الاولي بارقو    كلهم حلا و أبولولو..!!    السودان لا يركع .. والعدالة قادمة    شاهد.. إبراهيم الميرغني ينشر صورة لزوجته تسابيح خاطر من زيارتها للفاشر ويتغزل فيها:(إمرأة قوية وصادقة ومصادمة ولوحدها هزمت كل جيوشهم)    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية: حرب الأنهار أو «أنا وسيلفيا الهولندية»
نشر في الصحافة يوم 16 - 08 - 2013


: 1-5
طلب اللجوء السياسي في هولندا أمر مرير مشحون بالقلق وكبت قدر كبير من الحريات الشخصية بحكم الضرورات القانونية «التحقق من مسوغات طلب الحماية» كما هناك دوماً توقعات غير سارة. «أنت على الدوام في حالة تأهب كون الشرطة قد تأتي إلى غرفتك في أي لحظة بهدف ترحيلك قسراً إلى بلادك دون سابق إنذار كما قد يأتيك خبر في أي لحظة بإخلاء السكن كون طلبك قد رفض بشكل نهائي وفي كل الأحوال فأنت غير حر فعليك أن تتمم يومياً لدى إدارة المعسكر ما دمت تعيش به وإلا ستعاقب بسحب مصروفك الإسبوعي». كما أن طالب اللجوء غير مسموح له بالعمل كما عليه أن يتمم مرة واحدة في الإسبوع على الأقل لدى احدى نقاط شرطة الأجانب وإلا سيفقد حقه في طلب اللجوء وتسحب منه بطاقة الإقامة المؤقتة «الإنتظار». وإن حدثت مصادفة وهي ممكنة وأن حصلت على حق الإقامة الدائمة بناءاً على طلب اللجوء السياسي فليس من حقك أن تسافر إلى بلادك الأصل، غير منطقي، كون طلب اللجوء يقوم على الشك في أن هناك خطر على حرية أو/و كرامة أو/و حياة الإنسان في بلاده الإصل وإلا فهو من حيث المبدأ لا يستحق الإقامة بهولندا على ذاك الأساس. وإن إستطاع السفر إلى بلاده الأصل فذاك يعني أن ذاك الخطر قد زال وتزول معه تلقائياً الحوجة للإقامة بهولندا. ولكن بعد مرور السنوات فمن المحتمل أن يحصل اللاجيء على الجنسية الهولندية وعندها فقط يكون الإنسان حراً في السفر إلى أي مكان يريد وفق القوانين العامة والسارية.
في لحظة من لحظات الإنتظار المملة جاءني في غرفتي أحد الرفاق، سوداني الأصل «نادر كميل» الشهير ب»نادر حرفنة» نسبة لمقدرته الفائقة على المجازفة كما خداع «السيستم» كما عرف أيضاً بلقب آخر «نادر أوووس» فعندما تسأله سؤالاً لا يريد إجابته من قبيل «كيف وصلت إلى هولندا أو ما قصتك» فهو يضع اصبعه على شفتيه ويفتح عينيه الحمراوين إلى أقصاهما ويقول لك «أوووس» يأمرك بالصمت وإلا فهو دوماً جاهز للعراك يساعده طوله الفارع وعضلاته المفتولة وتهوره منقطع النظير مع أنه من ناحية أخرى رجل حساس وطيب القلب ويهب لنجدة المحتاج مهما كلفه من ثمن.
شرب نادر معي القهوة ثم أسرني بخبر سعيد «عمل». «عمل؟ أين وكيف»؟. « نحن لا يحق لنا قانونياً العمل مهما كان نوعه وحتى لو جمع القمامة من الشوارع، انت تعلم يا نادر». «أنا رتبت الأمر مع رجل سيرونامي من أصل هندي يعمل مدير قسم في مصنع لتعبئة الزهور». «أها». «سيتجاوز لنا مشكلة تصريح العمل عبر وسائله التي يعرف، وهو في المقابل سيأخذ ربع المبلغ الذي نحصل عليه مقابل عملنا في المصنع». خبر سعيد، أنا موافق». «سنذهب صباح الغد ومعنا عليم الجزائري و صبحي المصري وبرونو بيترسون اللايبيري».
لم اسأل نادر حرفنة لماذا إختارني أنا تحديداً دون الآخرين إذ لا مناسبة وقد أبدد فرصتي في العمل كما لم أسأله بالطبع عن لماذا عليم وصبحي و برونو بيترسون كوني لا أعرفهم من قبل وذاك بالطبع ليس شأني.. تكشف لي فيما بعد أنني بالإضافة إلى مهنتي الأساس في تعبئة الزهور أعمل بطريقة غير مباشرة في وظيفة مترجم ووسيط بين العمال الجدد والمدير التنفيذي للعمل كون الجميع بما في ذلك نادر حرفنة لا يجيدون أي لغة للتخاطب مع المدير التنفيذي للعمل.
كنا فرحين بمهنتنا الجديدة الأولى من نوعها «قص وترتيب وتعبأة الزهور» غير أن الحظ لم يحالفنا كثيراً بعد شهر واحد فقط من بداية عملنا هجمت علينا الشرطة وأخذت معها تلك اللحظة زملائنا صبحي وعليم و برونو بيترسون وألزمت صاحب المصنع بدفع غرامة مالية وفق النظام المتبع كونه ضبط وبمصنعه عمال وافدون وغير شرعيين لا يحق لهم العمل قانونياً. ورجعنا أنا ونادر إلى المعسكر ونحن نشعر بالغبن والمرارة والحزن على ضياع فرصتنا في العمل كما لا نعلم مصير زملائنا ولماذا أخذتهم دورية الشرطة معها، وأمرونا نحن الأثنين بالخروج من المصنع والذهاب إلى مكان سكنتنا وعدم العودة من جديد بعد أن شرح لنا أحد أفراد الشرطة الأمر الذي نعلمه جيداً وذاك أنه لا يحق لنا العمل في ظل أوضاعنا الحالية «إنتظار البت في طلب اللجوء السياسي» وتلك مرحلة قد تستمر إلى أشهر عديدة وربما عشرة سنوات أو أكثر في بعض الأحيان.
2-5
خلال أيام العمل بمصنع الزهور تعرف نادر حرفنة على السيدة «شوفينكا تاونفورت» إمرأة في منتصف العمر، تكبر نادر حرفنة بعشرة أعوام، إمراة بسيطة وطيبة القلب، أنيقة، برازيلية الجنسية ولو أن إصولها العرقية من احدى جزر الأنتيل، طليقة بحار هولندي، وتعيش منذ عدة أعوام وحدها بشقة مستأجرة في الناحية الجنوبية من حي «ميركاتوربورت» في أمستردام. الشقة مكونة من غرفتي نوم صغيرتين وغرفة جلوس كبيرة نسبياً، ستة أمتار مربعة، كانت كافية لخمسة وعشرين شخصاً يوم عيد ميلاد «سامنتا كورنيل».
فأقام نادر حرفنة مع شوفينكا تاونفورت في شقتها وفق إتفاق ودي بينهما وكان يجيء إلى معسكر اللجوء يوماً واحداً فقط في الإسبوع، يسجل حضور لدى قسم بوليس الأجانب وفق النظام العام المتبع في مثل تلك الأحوال. لقد ظهر نادر حرفنة تلك الأيام أكثر ثقة بنفسه وأكثر نظاماً من ذي قبل. غير أن هنائه لم يدم طويلاً. إذ بعد ثلاثة أشهر فقط من سكنتهما المشتركة ذهبت شوفينكا تاونفورت في زيارة عاجلة إلى أهلها قبالة ريو دي جانيرو، لكنها لم تعد أبداً، توفيت بعد ثلاثة إسابيع فقط من وصولها إلى هناك، لكن جاءت أخبار موتها إلى أصدقاء ومعارف نادر حرفنة متأخرة ستة أشهر، مأساة جديدة تضاف إلى مأساة قائمة، كان خلال كل تلك الفترة يحاول نادر حرفنة عبثاً التعرف على أخبارها وميعاد عودتها لكن دون جدوى حتى ألمت بنادر ذاته المأساة. خلال تلك المدة توجب على نادر حرفنة فعل ما بوسعه للحفاظ على الشقة بتسديد تكلفة الإجار عند نهاية كل شهر كما تكاليف الكهرباء والماء وكل شيء. كان عليه أن يثبت أنه رجل جدير بالأمانة، أمانة شريكته هذه المرة، في الحقيقة تلك كانت قناعته الذاتية وقد فعل المستحيل من أجل ذلك!.
3-5
بعد سفر السيدة شوفينكا تاونفورت بإسبوع واحد دعاني نادر حرفنة إلى زيارته في شقته بميركاتوربورت، ففعلت. عندما دخلت الشقة لأول مرة وجدتها محكمة النظام على النسق الهولندي التقليدي مع لمسات كاريبية لاتينية تتبدى هنا وهناك وكان نادر حرفنة حسن الهندام وتفوح منه روائح عطور نسوية.
الزيارة الثانية كانت بعد شهرين من سفر شوفينكا تاونفورت. هناك شيء تبدل في المكان وفي مزاج نادر حرفنة . هناك فوضى ورائحة التوليت تزكم الأنوف وأرضية المطبخ لزجة وتتخللها بقع سوداء. وكان هناك دستة من البشر يتجولون في المنزل ويحتلون أركانه الأربعة. بشر من جنسيات مختلفة منهم ثلاثة نساء يقمن بطريقة غير قانونية وفي الغالب يمتهن الدعارة غير الشرعية مع إدعائهن أنهن يعملن خادمات نظافة في بيوت بعض الأسر الهولندية، لكن عندما تنظر خلسة إلى أظافر اصابعهن الطويلة المطلية بمنكير فاقع اللون وتشتم نفحات العطور الباريسية تفوح من أجسادهن ربما أصبح الشك حقيقة واقعية. هناك تناقضات كبيرة في المكان وتناقضات في المزاج العام وتمايزات واضحة بين البشر الذين يقطنون شقة ميركاتوربورت. لم أسأل نادر حرفنة عماذا يجري هناك فالأمور واضحة. كل هولاء الناس يستأجرون منه فراشاً ولحافاً للنوم بدراهم صغيرة ثم ينهضون في أنصاف الليالي ينشدون غاياتهم الشتيتة في غابات أمستردام الليلية ومساءاتها الصاخبة البهية. تعرفت تلك المرة على سامنتا كورنيل، شابة في مقتبل العمر، كانت ضيفة ذاك اليوم قادمة من مدينة زاندام بالجوار، كانت ضد صخب المكان تبدو هادئة وربما خائفة، أقتربت مني رويداً رويداً، في الحقيقة أنا من دفعها إلى الطمأنينة وفق خطة غير معنية بالكامل. إذ كنت في تلك اللحظة أود التخلص من أحد سكان الشقة الذي أخذ معي كثيراً من الوقت يحكي أشياء خيالية وغير واقعية ومملة عن حياته وتاريخه الذاتي وعظمة أسرته في الماضي السحيق حينما كان جده مناضلاً ضد الإحتلال الفرنسي. فأخذت سامنتا كورنيل إلى احدى الغرف والتي تصادف أن كانت شاغرة، معتذراً بالخلوة معها، ألوذ من وعثاء الملل. كانت سامنتا كورنيل هشة وقابلة لكل شيء بما في ذلك مضاجعتها في الحال، لكني لم أفعل في تلك اللحظة، لم أستطع. فعلتها في مساء اليوم التالي. كانت سامنتا كورنيل سعيدة و شديدة الإحساس بلمساتي بالرغم من أنني لا أهتم وكنت في البدء أعاملها كعاهرة. كانت تلك هي الحقيقة أم لا، لا يهم، كان هو شعوري الذي ربما لم تستطع حركتي الفيزيائية ترجمته في الواقع. كنت أعاملها كجسد رث وربما موبوء بأمراض الأرض كلها، كنت أشك في كل شيء فيها حتى أنفاسها. كل الأمر أنني ظننتها عاهرة، فقط أحتاجتني جسدياً في لحظة محددة ليس إلا.
ظهر جلياً في مستقبل الأيام أن سامنتا كورنيل مغرمة بهيئتي الفيزيائية: «جسدك منظم، لم أرى أبداً مثل هذا الجسد الرفيع المرتب، انت وسيم»، رددت سامنتا كورنيل مثل تلك الكلمات ثم إنحشرت في صدري ونامت تلك الليلة كقطة وديعة هامدة. عندما صحوت عند الصباح الباكر كنت أشعر بالقرف والملل. لم أكن بالضرورة محقاً بالكامل في تصوراتي لرفيقة ليلتي لكن تلك كانت تهيآت الليلة التي أنقضت وقد فعلتها عدة مرات أخر في غضون شهرين تاليين ثم أنقضى الأمر بالحادثة المؤسفة.
4-5
قبل أن تكتمل فصول الكارثة بإسبوع واحد فقط تكشف لي بمحض الصدفة أن وضع رفيقي نادر حرفنة حرج، في الحقيقة هو في خطر. كان هناك عدد غير محدد من الغرامات المالية من بلدية أمستردام، شركة الكهرباء، مصلحة القطارات، الترام، البص، الضرائب، البقالات القائمة بالجوار و أشياء أخرى. ظهر نادر حرفنة مؤخراً مهموماً، قلقاُ وعصبي المزاج.
الكارثة حدثت ليلة عيد ميلاد سامتنا كورنيل. عيد ميلاد سامتنا كورنيل يصادف رأس السنة من كل عام. وكان ذاك عيد ميلادها الثاني والعشرين. كان حدثاً فريداً كونه صادف أيضاً الإحتفاء بي كعارض أزياء وفق المؤشرات الأولية التي جرت وكانت سامتنا كورنيل مخترعة الفكرة والمشرفة عليها بكل جدارة. الكل يعلم تلك الحقيقة. كنا نبدو جميعنا سعداء تلك الليلة بطريقة متجاوزة لواقعنا الصعب وظروفنا الحرجة. كان الإحتفال في شقة ميركاتوربورت صاخب والضوضاء تملأ المكان وزجاجات الواين الأحر الرخيص تزحم أركان البيت والبعض يخبي في جيوبه فتائل خاصة من الفودكا والويسكي بعضها مسروق من محلات «الخال خال» و البقالات الليلية. وهناك هدايا من عطور فاخرة باهظة الأثمان وصلت إلى سامنتا كورنيل لكنها غير مغلفة كما جرت العادة مما قد يدل على شبهة ما!.
4-5
عملت سامنتا كورنيل كل جهدها لأقناعي بأنني أصلح عارض أزياء. لم ترقني الفكرة، لم تكن واضحة، لم تخطر على بالي من قبل، لم أثق بكلام سامنتا كورنيل وكنت أشك في كل شيء. لكن على أي حال سامنتا كورنيل لم تيأس مني أبداً. وتحت مثابرتها الملحاحة قررت أن أجرب حظي، في الحقيقة حظ سامنتا كورنيل. سامنتا كورنيل دائماً ما تنتهز أسهل السبل وأقلها كلفة في جلب المال وعبر الوسائل التي لا تحتاج كفاءات او مهارات ذهنية أو أكاديمية. سامنتا جربت بنفسها من قبل لكنها فشلت في الإمتحانات الأولية مع عدة مكاتب متخصصة أهما «أؤلا وببارازي وماكس». في معظم المرات كان هناك عاملين يقفان حائلاً دون إختيارها كموديل وهما حجم أردافها الكبيرة وطولها أقل من مئة وسبعين سنتمترا، تلك عيوب حاسمة بالنسبة لمثل تلك المهنة الدقيقة. ما دون ذلك فلونها وملامح وجهها ليس في غاية الأهمية بالنسبة لتك المهنة. فكل الناس من كل الأعمار والأشكال والألوان والأمكنة تقتني بالضرورة الثياب والأحذية والإكسسوارات، وذاك ما يهم الشركات التجارية ولا شيء آخر.
صورتني سامنتا كورنيل مئات الصور، وأخذت مقاسات جسدي كلها بما في ذلك مواضع حساسة وليست ضرورية للمهمة المعلنة، وكتبت كل الممكن من مواصفات جسدي ولوني وبالغت في وصف شخصيتي وطبائعي. ومهرت الرسائل بإسمي وعنوان شقة ميركاتوربورت وأرسلتها في ظرف كبير مشحون بالصور والوثائق إلى خمسة من مكاتب الموديلات بأمستردام. كانت سامنتا كورنيل من تجاربها السابقة تعلم أن كل المقاسات تناسب المعايير وتفيض. .
بعد عدة أيام جاءتني ردود في شكل رسائل كثيرة التفاصيل من ثلاثة مكاتب بالإجاب يشكرونني على مبادرتي و يخبرونني بمكان وزمان لقائنا، بغرض المعاينة الأولية لوظيفة »عارض أزياء تجاري«. كما تحدثت الرسائل عن الشروط الضرورية والمؤهلات، كما ناقشت الحوافز المالية التي ربما أحصل عليها في حالة اجتيازي الفحص النهائي.
ذهبت للمعاينات الأولية وكانت سامنتا كورنيل بصحبتي في كل مرة من المرات الثلاثة. وكاد ان يغشى على سامنتا كورنيل من شدة الفرح عندما جاء الخبر بالموافقة من كل المكاتب «الثلاثة» وبشدة. فقط كان علينا خيار أفضلها بالنسبة لنا. .
أصبحت سامنتا بعدها لا تنام الليل، وإن لم تكن معي فإنها تهاتفني في اليوم الواحد عشرة مرات وأحياناً عند منتصف الليل. وتذكرني على الدوام بأنها لمدة عام كامل ستحصل على ربع المبلغ الذي ربما أتحصل عليه من وظيفتي المتوقعة كعارض أزياء تجاري كونها مديرة أعمالي.
وبدأت سامنتا على حين غرة تتغير وتتبدل وتشعر بذاتها إنساناً مهماً، وتحلم وتهيم وتسرح في البعيد، وابتاعت فساتين وأحذية جديدة كي تواكب واقعها الجديد بوصفها مديرة أعمال لعارض أزياء له حاضر ومستقبل باهران. وكانت سامنتا مفرطة الثقة في جدارتي وكفاءتي. ومرة من المرات فاض بها الخيال لتتوقع نفسها معي في ساحات هوليود. وأصبحت تدفعني كلما تجدني لأخلع ثيابي كي تمسج لي جسدي بالزيوت العطرة وتحثني على الرياضة كلما حانت الفرص. وكان عندها خطط بعيدة الأمد وأخرى قريبة الأمد، من ضمن خططها قريبة الأمد القيام برحلات سياحية إلى البرتقال وإبيدزا وفينيسيا.
كانت الأمور تسير بطريقة سلسة وفق ما خططت له وحلمت به سامنتا كورنيل. كان نجاحاً باهراً. وكانت برفقتي في الجولات التدريبة كلها، اخضعوني لتدريبات قاسية كثيراً ما أستمرت ساعات طويلة من ضمنها كورسات نظرية ودورات رياضية مكثفة. لمدة ثلاثة أسابيع، وكان في الجولة الأخيرة من التدريبات تركيز أكبر على تعلم الوقوف والمشي والنظر والابتسام بطريقة احترافية. وكان هناك عدد من المختصين يجلسون أمامي يخبرون المدير التنفيذي بماذا شعروا من حركاتي وسكناتي، حتى إذا ما اطمأن قلب المدير التنفيذي ضرب لي موعداً للجولة الحاسمة في الإسبوع الأول من السنة الميلادية الجديدة. .
انها مناسبة في غاية الأهمية، وهي عرض أزياء مصور الغرض منه اختيار الصور المناسبة لتنشر ضمن مئات الصور الأخرى لأناس من خلفيات وأعمار مختلفة في الكتاب الإعلاني الدوري لشركة نيكارمان وشركات أخرى لم أتعرف عليها ذاك الحين، كتاب نيكرمان الإعلاني يوزع مجاناً عبر البريد لملايين الناس من سكان الاتحاد الأوروبي.
كل صورة ستنشر تعادل مبلغاً ما من المال. سامنتا كورنيل تملك مقدماً ربع ذاك المبلغً. كان ذاك هو الإتفاق. غير أن ما حدث في نهاية المطاف كان امراً مختلفاً عما حلمت وخططت له سامنتا كورنيل.
5-5
في خضم المهرجان فوجئت بوجود زملاء مصنع الزهور «عليم وصبحي وبرونو بيترسون». لكن لا أحد يهتم تلك الساعة، فقط تصافحنا على عجل وقلنا ببعض كلمات المجاملة في وجوه بعضنا البعض دون أن يسمع أحد منا ماذا قال الآخر ونحن في خضم ضوضاء الكلام المتشابك والموسيقى الصاخبة وارتطام الأقدام على الأرض وتلاقي الأكف بالسلام وطقطقة «اللبان» في الأسنان وخبط الكؤوس ببعضها البعض وصرير السيارات في الشارع المجاور.
عندما انتهت مراسم إحتفال عيد ميلاد سامنتا كورنيل بدأت المشاعر تتهيأ للإحتفال برأس السنة الميلادية، لكن لا أحد كان عنده خطة محددة، فقط كان هناك عدد من الألعاب النارية مغلفة بالورق الملون كانت ملقاة على الركن الأيمن من الصالون، لا أحد يعرف من هو صاحبها على وجه التحديد، ذاك غير مهم، ففي شقة ميركاتوربورت إشتراكية مطلقة وحرية مطلقة وتضامن مطلق وكل شيء مطلق.
وعلى أي حال عندما جاءت الساعة الحادية عشر كان تقريباً كل من بشقة ميركاتوربورت ثمل ووجدت احدى الفتيات نائمة في التوليت. وكثير من الناس في تلك الأثناء نسي رأس السنة وأصبح يتمتم ويتلعثم ويهيم في خيالاته وحده والبعض لا يستطيع الوصول إلى التوليت دون الإستعانة بالحيطان. في تلك الأثناء وجدت أنا سامنتا كورنيل تجذبني بغتة من يدي بقوة إلى غرفة العمليات «هكذا يسمي نادر حرفنة احدى غرف المنزل» المخصصة للعناق واللحظات الرومانسية. كانت عقارب الساعة تحبو على مشارف العام الجديد. أذكر أن سامنتا كورنيل ذكرت لي خطتها من قبل أنها ترغبني داخلها لحظة التحول إلى السنة الجديدة، ذاك عندها من دواعي جلب الحظ والسعادة في العام الجديد. بدأت سامنتا كورنيل تخلع قميصي وعيناها في عيني تظهر عمداً تلذذها في وقاحة ودية بفتح الزراير حين تفعلها بهدو ورقة وعناية. كانت النافذة مفتوحة ومشرعة على الأفاق الملتهبة بينما سامنتا كورنيل منكبة على تجريدي من أشياء فائضة لا قيمة لها تلك اللحظة وهي «الثياب»، هناك أضواء كثيفة وأصوات الألعاب النارية تصم الآذان. وفي اللحظة التي كادت سامنتا كورنيل أن تجردني من آخر قطعة قماش على عجيزتى، شهدت على حين غرة في قلب بؤرة الضوء المتفجر كالبركان وجه فتاة جميلة وكأنها الملاك تحلق في الأفق وتسبح وسط خيوط النار تؤشر ناحيتي بكفها اليمنى بينما تمد لي اليسرى آمرة «اقرأ لي الكف يا ساحر النيل» ثم شرعت تصيح في صوت الطلقات النارية غاضبة «تعال إلى هنا، إلى بؤبؤ الضوء» تأمرني أمراً حاسماً ونهائياً « امنع تلك الفتاة عما تود أن تفعله بك». فأصبت بقشعريرة صادمة وتملكني الرعب، فخرجت كالممسوس من الغرفة أهرع إلى الصالون، مذعوراً وشبه عار تاركاً سامنتا كورنيل في دهشتها محبطة وتشعر بالبؤس.
عندما ألتقيت سيلفيا لأول مرة في قطار الراين بعد عدة أشهر من تلك الواقعة شعرت بأنني أعرف هذا الوجه الملائكي من قبل وإنني رأيت حتماً تلك الكف التي مسها سحري فسحرتني. بعد تلك الواقعة الغريبة خرجت سامنتا كورنيل يكللها الإحباط الشديد إلى الشارع حيث نادر حرفنة وعليم الجزائري كانوا هناك بالقرب من باب الشقة في الخارج يحدقون في الفضاء المتقد و يشعلون بين الفينة والأخرى القليل من الألعاب النارية التي كانت بحوزتهم . وعلى حين غلفة جاءت شعلة نارية كأنها طلقة حية أصابت جسد نادر حرفنة مخترقة الجهة اليسرى من صدره، فسمع الناس آهته تكدر المسافات ثم سقط ميتاً في الحال والنار تشعل ثيابه حتى أصبح بقطعة قماش واحدة على عجيزته. فدخل بعدها عليم الجزائري إلى المنزل وأخذ سكيناً من المطبخ وأتجه ناحية جماعة من الرجال والنساء البيض كانوا يتجمهرون ناحية الركن الأقصى من الشارع ويطلقون ألعاب نارية شديدة الإنفجار. جرى عليم الجزائري ناحيتهم وهو يصيح غضباً ويشهر السكين من أمامه فصادفته دورية للشرطة قادمة في الإتجاه العكسي من الشارع ففتح فيه أحدهم النار فأرداه قتيلاً برصاصة في رأسه.
وعلى أثر تلك الواقعة المؤسفة والحزينة انتهت شقة ميركاتوربورت وانتهت علاقتي المريبة مع سامنتا كورنيل وانتهت حكاية عرض الأزياء. وعندما طلبني متعهد وزارة العدل الهولندية ليبلغني خبر حصولي على حق اللجوء السياسي بهولندا لم أفرح وكنت أشعر بالحزن والبؤس بالذات عندما علمت أن القرار صدر قبل موت نادر حرفنة وعليم الجزائري بعدة أيام وأنهما بدورهما قد حصلا على الإقامة الدائمة لأسباب إنسانية. ثم علمت فيما بعد أن شوفينكا تاونفورت قد ماتت بدورها قبل ستة أشهر خلت بذبحة صدرية بأحدى ضواحي ريو دي جانيرو . كان حزن. لكن من هنا بدأت حياة جديدة مختلفة. إنه من طبيعة الأشياء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.