د. نوال حسين عبدالله : الخبرة والمعرفة والفن، هو الذي يقف خلف تشييد المدن، وحينما تعود بنا الذاكرة التأريخية، الى الوراء آلاف السنوات، و نري اثار مدن الحضارة المروية او البابلية، والسومرية، والآشورية، واهرامات الفراعنة، وسور الصين العظيم، وتاج محل، والحدائق المعلقة، وما الى ذلك من رموز مدنية عمرانية، برع الإنسان في بنائها وتشييدها، استنادا الى خبراته الهندسية في التخطيط العمراني المتوارَث. يتملكنا الاندهاش في أننا في الألفية الثالثة نبني مدنا كرتونية قابلة للزوال في سنوات بسيطة بفعل العوامل الطبيعية تفتقد الي التخطيط الهندسى السليم و الي الخدمات التي تجعلك تطلق عليها مدن، وهي اقرب الي القرى الريفية من المدن الحديثة، ويتملكك العجب والاستغراب اذا علمت انها مدن ذات تكلفة مادية عالية بسعر ابسط منازلها يمكنك شراء منزل في نيويورك او لندن او باريس!!!!! لا شك في أننا نمر بفوضى معمارية لاشبيه لها، سواء في تجاربنا الماضية أو تجارب غيرنا في هذا المجال ،والسبب كما هو واضح، غياب شبه كلي للتخطيط العمراني، العلمي المدروس. الذي جعل مدننا تتحول الي بناءات عشوائية ليس بها نصيب من الخدمات العصرية ومتطلبات العيش العصري!!! نعم لتوسيع المدن، ولكن ضمن الأطر العمرانية المعاصرة والمقننة، على أن يرافق هذا التوسع المدروس اهتمام واضح ومخطَط له. هنالك فشل كبير ومخجل في مقدرة الحكومة في عمل مشروعات حضرية علي أسس هندسية . أن الهندسة علم واضح لا مجال للخطأ فيه الا حينما يحصل التلاعب والفساد، في كل الدنيا لا يوجد شارع زلط يتم اعادة ترميمه في كل عام !!!!!! هنالك طرق بنيت في الستينات والخمسينات ولا زالت بعيدة من ترميم الشباب الصغار، شارع مدني رغم الضغط عليه لم يذهب به السيل اكيد ان هذه الشوارع تسخر من مهندسي اخر الزمن الذين يتخرجون ويجدون ان الشركات في انتظارهم ولم يبق لهم سوي الحلاقة الانيقة والكرفتات!!! كل عام نرى شباب الشركات الهندسية الصغار بعد استلام كوتاتهم في كيكة التوزيع يغلقون الشوارع ويزيلون الزلط القديم ويبدأون في عمل الزلط الجديد، وفي هذا تحضرني طرفة رواها احدهم يعمل في احد البلدان العربية بأنه قدر له السكن مع معلمين من جنسيات عربية اخري ،وكان احدهم يقوم بعمل دروس خصوصية في مادة اللغة العربية لتلاميذ البلد المعني، وفي يوم لاحظ راوي القصة ان التلميذ من جنسية البلد العربي يخطئ في القراءة وكان الأستاذ يقول له ممتاز.. جيد، مما اثار استغراب هذا الشخص الذي ما أن ذهب الطفل حتي سأل هذا المعلم: لماذا لم تقل له هذا خطأ وتشرح له الصحيح؟ فرمقه المعلم بنظرة ساخرة وقال: اذا اوضحت له الخطأ اين سيعمل اولادي واولادك في المستقبل يا سوداني يا طيب!!!!! مما يحيرني أن اول كلية للهندسة انشئت في الثلاثينات من القرن الماضي وان هيئة المساحة والتخطيط لها خبرات متراكمة وتجارب ناجحة في كل مدن السودان القديمة ، ولها صلات اقليمية ودولية ممتدة، ومثال لذلك في عهد عبود تم بخبراء اجانب ذوي معرفة في تخطيط المدن ولا زالت مدن الشعبية بحري والامتدادات الثلاثة بالخرطوم شاهدة علي حسن التخطيط والتنظيم!!! ولا زالت مدن امدرمان القديمة تقاوم الزمن والتقلبات رغم افتقارها الي الصيانة والاهتمام لضيق ذات اليد والرزق عن اهل المدينة القديمة وتعففهم من دخول موائد السلاطين!!!! ولم يحدث سوء تخطيط للمدن الي بداية التسعينات، فاذا افترضنا بأن الخبرات القديمة والأفراد الاكفاء تم الاستغناء عنهم للصالح العام او الخراب العام !!!! لست ادري! لكن هل اختفت المعلومات من حواسيب وسجلات هذه المؤسسات!!! كيف عمرت هذه المدن المهددة دون معرفة بطبوغرافية أرضها!!!! هل كانت هيئة تخطيط المدن تكتفي بختم تصاريح البناء وتصديق رخص المدن السكنية دون معرفة حقيقية بطبيعة الأرض، هل بنيت المدن دون تخطيط؟ تحقيقا لاهداف الحكومة الاجتماعية المتمثلة في توفير السكن للجميع دون الشروط اللازمة لبناء المدن!!! هل يفهم من ذلك ان الحكومة حاولت علي عجل استيعاب سيول البشر المنهمرة من الريف الي المدينة بعد أن تم افقار اهل الريف وبعد ان اشتعلت الحروب والنزاعات فعملت علي زيادة المدن السكنية فاجتمع اهل السودان في الخرطوم علي عجل فكانت الكارثة علي عجل ايضاً وذابت مدن الانقاذ كما تذوب الزبدة في النار!!! Top of Form Bottom of Form Top of Form Bottom of Form ان السيول الاخيرة اوضحت هشاشة مشاريعنا الحضرية وفساد هندسي وجيولوجي في عمل الجسور وتركيب المصدات التي تحول دون مجاري السيول الي الشوارع ومنازل المواطنين. فهنالك أودية كانت تحتاج الي كباري عملاقة تحتوي السيول وليس لكباري البسكويت التي ذابت مع أول القطرات من المطر!!!! وايضاً هنا تحضرني طرفة سيد اللبن الذي اتي راكبا علي حماره في ولاية نهر النيل وشاهد الشباب الصغار يعملون علي انشاء كبري صغير عند احد مجاري السيول فصرخ فيهم بأن هذا درب السيل لا تغلقوه وأن هذا الكبري سيروح شمار في مرقة، وقد اثبتت الايام صدق كلام سيد اللبن الذي مع اول مطرة انهار الجسر ولم ينتظر الجسر ليري سيول 2013 !!!! الجميع الآن، يتحدث عن استراتيجية لتصريف مياه الأمطار، نعم حماية المدن من أخطار السيول أمر هام، لكنه كان من الممكن الاستفادة من هذه المياه، كان نظام الحفائر التقليدي ليستوعب كل كميات المياه النازلة من السماء قبل ان تصبح سلاحا للهدم والتكسير والموت وقبل عامين شهدنا أكبر نفرة لمشروع حصاد المياه الذي كان تحت رعاية النائب الاول الأستاذ علي عثمان ووظفت له كل الامكانيات من الاموال و آلة الاعلام !! ثم بعد ذلك عم صمت مطبق لا ندري ماذا حقق هذا المشروع وفي كميات المياه المهولة فرص ذهبية لنجاح هذا المشروع لقد وقعت الكارثة ودفع الجميع الثمن ولكن هل حصدنا المياه!!! هبة الله الواجب علينا المحافظة عليها لا التخلص منها!!!!! ان التركيز بعد احتواء الكارثة يجب أن ينصب على اعادة النظر في القوانين التي تنظم المدن والقرى ونظام المباني واعادة النظر بعمل الجهات التي تشرف على مراحل ترخيص المباني واشتراط تضمين التخطيط الحضري للمدن كمتطلب للترخيص، وضبط استعمالاته وفق المعايير التخطيطية العالمية. نحن في حاجة الي مدن قادرة علي الصمود خاصة مع التغيرات المناخية المتواترة من ازدياد في معدلات الامطار والعواصف الرعدية، مدن تعد خططاً للحد من مخاطر الكوارث، وتبني البنى التحتية التي يمكن أن تحمل الكوارث الطبيعية، وتنفذ حملات لرفع الوعي حول التعرض للكوارث ككارثة السيول الحالية وكيفية التصرف اثنائها من فصل التيار والابتعاد عن المنازل الآيلة للسقوط ، واهمية توفر خرائط رقمية ونظام معلومات جغرافية. مدن توفر لها بنية تحتية وخدمات على سبيل المثال« المياه الجارية، والرعاية الصحية، وخدمات الطوارئ، والطرق الصالحة لجميع الأجواء». وهنالك مخاوف كبيرة من كارثة بيئية في المناطق التي ضربتها السيول، فتحت تلك المياه توجد نفايات متراكمة ،وآبار صرف صحي ،وخزانات وقود ومبيدات حشرية واسمدة، من المزارع التي تم جرفها، مما يزيد من نسبة تلوث عالية تضرب تلك المناطق، وخاصة مدن الفتح امدرمان حيث توجد مرادم المخلفات، وولاية الجزيرة ،وشرق النيل من جرف المزارع محملة بالحيوانات النافقة ،والكيماويات والاسمدة مما قد يؤدي الي ظهور عديد من الامراض والاوبئة وخطورة تسرب تلك السموم الي المياه الجوفية، وخلق بيئة مسمومة لا يمكن زوال اثارها بعد عشرات السنين!!! وللأسف لا توجد جهات متخصصة لمعالجة تلك المشاكل البيئية في السودان وبالتالي يجب الاستعانة بشركات ذات خبرة ومعرفة في معالجة المشكلات البيئية لتلافي الاسوأ!!! وفي هذا يتوقع أن يكون هنالك دور ملموس لوزارة البيئة التي لم نسمع منها بعد!!!!!!