جاءتني رسالة من خدمة أخبار في تلفوني تقول إن أحذية ذهبية تباع هذه الأيام في خمس عواصم عالمية منها دبي!! ولم ينته الخبر إلى هنا بل مضى يقول إن مادة الأحذية هي الذهب الخالص عيار أربعة وعشرين!! ونظرت مباشرة إلى رجلي وإلى حذائي المصنوع من جلد البقر المدبوغ.. نظرت إلى مركوب الجنينة الذي كنت أنتعله طيلة أيام العيد، وأنا سعيد به غاية السعادة وذلك لأنه مريح في القدم وصحي وسعره مقبول، ولأنه منتج سوداني مصنوع بأيدٍ ماهرة وتقية في الجنينة بغرب دارفور. وتذكرت كلام أخي الدكتور عبد المجيد الذي نسميه «الحكيم» الذي نظر مرة إلى مركوب الجنينة الذي ألبسه وأثنى على اختياري قائلاً: يكفي أن قدميك تعرقان في مادة القرظ الذي دبغ بها جلد ذلك الحذاء، وليتك تدري ما يستفيده جسمك وهو يمتص القرظ، وليت الناس يعرفون فائدة انتعال الجلد الطبيعي بدلاً من هذه الجلود الصناعية والبلاستيك والمواد المصنوعة من نفايات البترول. وقد كتبت مرة في جريدة «الأزمنة» حينما كان رئيس تحريرها أخونا الدكتور عبد اللطيف البوني.. كتبت مرة مقالاً سميته «باقة ورد لمركوب الجنينة»، وكنت متأثراً في ذلك العنوان بكتاب مكتوب باللغة الانجليزية اسمه (flowers for mrs.harris) «باقة ورد للسيدة هارس» وقد كان الكتاب مقرراً دهراً على طلاب المدارس الثانوية في السودان. وهو يحتوي على قصة امرأة غسالة لندنية سمعت بالمتجر الفاخر الراقي «كريستيان ديور» في باريس، وهو متجر لا تشتري منه إلا الملكات والنبيلات وسيدات المجتمع فأصرت مسز هارس على أن تشتري منه فستاناً، وخرجت في رحلة أقل ما يقال عنها إنها مغامرة قاسية يعجب فيها القارئ بالمرأة المسكينة الطموحة ويشفق عليها.. ثم إنها في النهاية تحصل على مرادها من كريستيان ديور والقراء يلهثون معها من صفحة إلى صفحة في مخاطرتها الشرسة المحفوفة بالآلام والسخرية!! ولما كتبت مقالي «باقة ورد لمركوب الجنينة» ومدحته، علق بعض القراء قائلاً إنني ما فعلت ذلك إلا دعاية لهذه البضاعة التي أتاجر فيها!! أقول لكن المقارنة هذه المرة ليست بين حذاء من جلد طبيعي وحذاء معمول من جلد مصنع أو من بلاستيك.. ولكنها بين حذاء عادي وحذاء من الذهب الخالص عيار أربعة وعشرين. ولا أظن أن المقصود من الحذاء الذهبي هذا أن يلبس لأنه من المعدن، وما أظن المعادن تصلح أن تحتذى لأنها جارحة غلت تلك المعادن أو رخصت، وفي قصيدة «الطين» لإيلياء أبو ماضي فكرة مدهشة حول هذه النقطة فهو يقول: نسي الطين ساعة أنه ٭٭٭ طين حقير فصال تيها وعربد وكسا الخز جسمه فتباهى ٭٭٭ وحوى المال كيسه فتمرد يا أخي لا تمل بوجهك عني ٭٭٭ ما أنا فحمة ولا أنت فرقد أنت لا تأكل النضار إذا ٭٭٭ جعت ولا تشرب الحرير المنضد أنت في البردة الموشاة مثلي ٭٭٭ في ردائي القديم تشقى وتسعد ووقع إيليا الفيلسوف على جوهر الموضوع: «أنت لا تأكل النضار إذا جعت» وكأنى به يقول: «ولا تلبسه حذاءً إذا حفيت»!! وهذه فلسفة نصرانية تشربت بروح الإسلام، فقد كان إيليا أبو ماضي مسيحي العقيدة مسلم الثقافة ككل المسيحيين في الشرق، قبل أن يوسوس لهم شيطان فكرة «الأقليات» الجديد. فالحذاء إذن سيكون تحفة ذهبية غالية مصاغة في شكل حذاء للاقتناء وليس للبس! لكن ما الذي جعل الحذاء يكون تحفة في الشرق العربي المسلم والمسلمون والعرب لا ينظرون إلى الحذاء إلا على أنه أدنى شيء...أما سمعتهم يقول الواحد منهم للآخر إذا أراد إهانته: «حأديلك بالجزمة»..أو «فلان تحت مداسي»!! ويكفي أن القرآن قد قال: «اخلع نعليك انك بالوادي المقدس طوى وان اخترتك فاستمع لما يوحى». والتحف كانت في العالم العربي والاسلامي هي: إما على أشكال الزهور والورود أو الطيور أو ثمار الفاكهة أو الحيوانات الجميلة كالغزلان والظباء أو على أشكال النساء الحسناوات، لماذا فجأة انتقلوا إلى إكرام الحذاء الذي لم يكونوا يكرمونه تاريخياً ولا حتى إلى عهد قريب، حيث قذفوا به «جورج دبليو بوش» في بغداد.. لا بد أن جهة ما أرادت أن تغير فكرة أن الحذاء أداة إهانة وأرادت أن تجعله أداة زينة راقية. كم يا ترى يزن هذا الحذاء الذهبي بالجرامات التي صار سعر الواحد منها فوق الثلاثمائة ألف جنيه سوداني «بالقديم»؟.. وكم حذاء منها يمكن أن يحل مشكلة من سقطت بيوتهم وضاعت ممتلكاتهم في الأمطار والسيول الأخيرة في السودان؟! وهل يأبه تجار الأحذية الذهبية بفقراء المسلمين في السودان وغير السودان؟ نفسي أن أحصل على جوز من هذا الحذاء الذهبي.. فمن سيشتريه لي؟ أقول ذلك وأعلم أن لا أحد سيفعل.. ألم يقل أبو الطيب: إذا عظم المطلوب قل المساعد؟