: هي مدينة ليست ككل المدن.. تتدفق شباباً وتتثنى رواء، ترفل في أردية الطبيعة القشيبة، تتهادى في أثوابها المزركشة.. يرافقها دوماً ايقاع مزاميرها الطروب التي تتردد أصداؤها بين كهوف جبالها الشماء وشعاب أطوادها المشرئبة أبداً إلى عنان السماء.. ما أدهشها في أصائلها الهادئة.. وما أروعها في صباحاتها الوادعة وهي تخطر في ثوبها الأخضر، المبللة الأطراف بقطرات الندى المتحدرة من بين أردان أزهار فصل الخريف الغارق في الخضرة.. أجل! هي عروس الجبال، عندما تمس أقدامك أرضها البكر في فصل الخريف تشعر وكأنك داخل حديقة غناء لكثرة الأشجار التي تلفها من كل صوب، وشقشقة الأطيار وزقزقتها التي تنساب إلى مسامعك من كل حدب.. إذ قلما يخلو منزل من شجرة أو زهرة أو طنين نحلة وعربدة فراشة.. إذ لا ينقطع بصرك عن غابات المهوقني التي تنداح على مد البصر، وكذا أشجار اللالوب (الهجليج) المنبثة في ساحات المدينة وطرقاتها.. انها لوحة للطبيعة افاء بها المولى عز وجل على أهلها الطيبين، كيف لم تكن كذلك وهي ترقد في طمأنينة وأمان تحت سفح جبل الدش (جبال أبو زمام)، ذاك التل العملاق المطل بقوة على مشهد المدينة بل بات يشكل دوماً ملمحها الطاغي.. إذ يبدو في هيئته وانتصابه وكأنه ما خلق إلا ليكون حارساً أميناً، ومصاداً ضد كل الأهوال والنوائب التي يمكن أن تحل بخباء تلك العروس أو تنال من كبريائها.. ولا يغيب عن بصر كل زائر للمدينة كذلك منظر وادي أبو حبل الذي يقع شرق المدينة، ويعتبر أكبر مجرى مائي بكردفان الكبرى بل يعد من أكبر الوديان في العالم، ذاك الخور العظيم الذي ينشط في جريانه في بداية موسم الخريف، ويبلغ عنفوانه في شهري يوليو وأغسطس، ويهدأ ويذهب في سبات عميق في فصل الصيف، إذ يشكل أحد معالم المدينة البارزة، وذلك من خلال الخضرة الداكنة التي تتميز بها أشجاره الضخمة الباسقة الظلال طول العام.. والمصطفة حول ضفافه المعشوشبة.. ويمثل كذلك الشريان الرئيس لتردة الرهد بشمال كردفان، وذلك من خلال رفدها بمياه الخريف الغزيرة المنحدرة من مرتفعات وقمم الجبال الجنوبية لولاية جنوب كردفان، التي تشق طريقها بقوة كذلك حتى إلى تخوم النيل الأبيض بمدينة تندلتي لتلقي عصا ترحالها بها، أجل! تلك هي حفنة مقتبسات لبعض المشاهد الطبيعية لمدينة الدلنج التي تقع في ولاية جنوب كردفان، وتبعد عن مدينة الأبيض حاضرة ولاية شمال كردفان ب160 كيلو متر جنوباً، وحوالي 115 كيلو متر شمال مدينة كادقلي حاضرة ولاية جنوب كردفان، وتربطها بين الحاضرتين طريق مسفلت رئيس يبدأ بالأبيض وينتهي بكادقلي.. قيل ان اسمها قد اشتق من اسم قبيلة عريقة بالمنطقة تسمى الدلنج وهي احدى قبائل النوبة التي تسكن المنطقة التي تتكون أي قبائل النوبة من النيمانغ والأجانق، علاوة على قبيلة الحوازمة الرعوية التي تسكن المنطقة أيضاً منذ أمد ليس بالقصير، وتعتبر من أكبر القبائل العربية بالمنطقة.. حيث استطاعت ان ترسم مع النوبة وبعض الأقليات الأخرى الوافدة كالفلاتة وبعض قبائل شمال السودان وغربه، لوحة زاهية للتعايش السلمي والتلاقح الاجتماعي والثقافي، أفضى في نهاية المطاف إلى خلق مجتمع متوافق في ايقاعه الحياتي ومنسجم في تقاليده وأعرافه الاجتماعية والثقافية التي تعتبر امتداداً طبيعياً للثقافة السودانية المتميزة بالتعدد الاثني والتنوع الثقافي، لاسيما وانها أي الثقافة السودانية خلاصة لتلاقح المكون الثقافي الافريقي والثقافة العربية الاسلامية عبر التاريخ، والذي يبدو جلياً في الملمح العام لمجتمع الدلنج الموسوم بالتسامح.. يذكر ان مدينة الدلنج قد ظهرت لأول مرة كقرية صغيرة على بساط خارطة الدولة السودانية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.. خاصة بعدما اتخذ منها المهديون أي اتباع الامام محمد المهدي قاعدة للانطلاق ابان بدايات الثورة المهدية لتوجيه ضربات موجعة للمستعمر التركي المصري، وذلك من خلال مهاجمة بعض النقاط الصغيرة المبثوثة بين تلال وشعاب جبال النوبة، لا سيما بعد ما احتمى المهدي بالمك آدم أم دبالو مك مملكة تقلي بجبل ماسا بجبال النوبة في عام 1881م، أجل! هي قلعة للوطنية.. إذ لم تنحصر نضالاتها وذودها عن الوطن من خلال عمليات اتباع المهدي الموجهة ضد قواعد المستعمر بالجبال فقط، وانما تجلت أيضاً في ثورة السلطان عجبنا، سلطان الأما (النيمانغ) ضد ظلم المستعمر ومن خلفه ابنته الثائرة والمقاتلة الجسورة (مندي) التي احتقبت السلاح مثلها وفرسان النيمانغ وقاتلت بشراسة إلى جانب والدها الذي وقع في نهاية المطاف أسيراً لدى المستعمر الذي قام بإعدامه رمياً بالرصاص في عام 1917م، انتقاماً لكبريائه الذي داس عليه ومرغه بالتراب ثوار النيمانغ الذين قدموا درساً بليغاً للمستعمر عن كيفية الدفاع والذود عن كبرياء الوطن وعزته.. نعم! هي عروس الجبال الفاتنة.. ومدينة موحية للفنانين ومدغدغة لأخيلة الشعراء والأدباء، وما أدل على ذلك شاعر الطبيعة البكر، وابن الشمال.. الشاعر الفذ/ جعفر محمد عثمان صاحب قصيدة التبلدية الذي استفزه سحر الطبيعة وبهجتها فسكب بدوره كل تهويماته وتبريحاته في شجرة التبلدية النابتة في داره بمعهد المعلمين بالدلنج آنذاك، وبثها كل شوقه وحنينه، فضلاً عن نجم نجوم فناني كردفان الكبرى الفنان/ عبد القادر سالم الذي ولد وترعرع بين أحضان تلك الطبيعة الساحرة فتشرب من سحرها وعب من فتنتها الطاغية فأحالته إلى صناجة للأغنية الكردفانية ذات النكهة والمسحة الخاصة.. إذ كانت تشكل مدينة الدلنج في السابق مصدراً مهماً لاقتصاديات الولاية قبل أن يصيبها داء التمرد.. حيث يوجد بها أكبر مشاريع للزراعة المطرية الآلية بمنطقة هبيلا التي كانت تؤمن كل احتياجات الولاية من الذرة ويتم تصدير ما فاض منها لدعم خزينة الدولة بالعملات الصعبة، وبما ان لسوقها نفس ملامح أسواق المدن السودانية الأخرى، إلا انها مازالت تحتفظ بسمتها التقليدي والريفي في بعض جوانبها، خاصة فيما يتعلق بأسواق أهل القرى.. التي تنعقد فعالياتها مرتين في كل أسبوع أي في يومي الاثنين والخميس.. حيث يؤمها الريفيون، ويتوافد عليها القرويون من كل فج عميق، محملين بمنتجاتهم المحلية من التبلدي والكركدي والويكة والفول السوداني والسمسم والفواكه كالمانجو والجوافة وغيرها، علاوة على الخضروات بمختلف أصنافها والحبوب والدجاج والمواشي، الأمر الذي يرفع من وتيرة حركة البيع والشراء بالسوق، ويضفي على المدينة كذلك زخماً من الحركة والحيوية.. لذا نأمل أن تدق أجراس السلام في ربوعها وشعابها في القريب العاجل حتى يعود لها ألقها الاقتصادي من خلال عودة مشاريع الزراعة الآلية بهبيلا والأنشطة الاقتصادية الأخرى التي كانت تسهم في اقتصاديات المنطقة.