تناولت فى الاسبوع الماضى أو فلنقل اجتهدت فى تناول موضوع أراه يحتاج للدراسة والمناقشة من اهل العلم والتمكن فى المجال وتطرقنا الى مرحلة الدعوة والدولة، حيث وفق الله رسوله بابلاغ الدعوة ونشرها في مجتمع مكة، ثم كانت الهجرة الى المدينة. وأستمّرت الدعوة بالتركيز على جانب التعامل الحياتي والدنيوي في شأن إدارة حياة الناس وإدارة شؤونهم، أو بمعنى آخر كانت المدينةالمنورة بداية الدولة، حيث هاجر اليها الرسول «ص» واستقر فيها، وهي تجمع بين المسلمين وغير المسلمين، ثم بدأ بالتخطيط لاقامة الدولة التي تحتاج لنظام مرجعي لتنظيم الحياة وتحديد السلطات والصلاحيات بلغة اليوم، يعني «دستور»، وكتب هذا الدستور بتوجيهه وأوامره ويقال بإملائه شخصياً، وتم اعداد الوثيقة الاولى او صحيفة المدينة او دستور المدينة. ونواصل فى مضمون مداخلة الاسبوع الماضى او فلنقل «فلنجتهد».. إن أضفنا شيئاً فخير وبركة وألّا فأجر الاجتهاد. 1 من المسلمات عندنا في العالم الذي يطلق عليه الثالث تفادياً لحرج الوصف الحقيقي لاهل هذا الجزء من العالم، بالاضافة لمصطلحات اخرى كلها ترمى الى التخلف وسوء ادارة شؤون الناس وغياب الحكم الراشد.. فإن شعوب هذه المناطق من العالم مغرمون بتبني كل شيء واي شيء يأتى من العالم المتقدم حتى ولو كان ما عندهم افضل وافيد من الوافد، وأخطرها على الإطلاق ما يتعلق بالفكر الإنساني والتوجهات الأساسية.. مثلاً الديمقراطية، حرية التعبير، احترام الرأي والرأي الآخر، حقوق الإنسان معاملة اسرى الحرب، الأمن الغذائي، حقوق المرأة والطفل.. وحفظنا ودرسنا اقوال فلاسفة الغرب واساتذة علم الاجتماع «مع أن اهل الغرب «ذاتهم» يعتبرون ابن خلدون «ابو علم الاجتماع».. الصدق والامانة «الكذب عندنا اكبر الكبائر»، أو..أو...أو يكذب المؤمن فقال: لا .. ففي حكم الشعب نفسه بنفسه.. نقول انه نبع في اثينا.. وفي حرية الرأي والتعبير نرجع الى فولتير و «حريتي تنتهي عند بداية حرية الآخرين» وشكسبير «حريتك تنتهي عند أرنبة انفك» .. وننسى أو نتناسى «منذ متى أستعبدتم الناس».. نعم استفاد المسلمون الاوائل من ثقافة العباسيين.. ثم محاولة العلماء والفقهاء تنقية الفكر الإسلامي من الشوائب التي دخلته من أفكار الفلاسفة، وفي هذا يعتبر الإمام الشافعي رضي الله عنه مجدد القرن الثالث للإسلام كما يذهب الى ذلك بعض العلماء. 2 إن الإسلام سبق الدنيا في ترسيخ الكرامة بل وفرض كرامة الإنسان «ولقد كرمنا بني آدم» طالما انه لم يخرج الى الناس داعياً لفكره المخالف «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرة».. ولكن الله سبحانه وتعالى لم يترك الامر هكذا بدون عواقب «إنا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها»، وهل هناك ظلم اكثر من ظلم النفس «فذكر انما انت مذكر لست عليهم بمسيطر» «وجادلهم بالتي هي أحسن». والآيات القرآنية التي توجه بل تأمر بالشورى وحرية الإنسان كثيرة وواضحة، ثم أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله رسخت ووضحت وانزلت على ارض الواقع ما جاء به القرآن الكريم. 3 حين وفق الله نبيه الكريم للهجرة الى المدينةالمنورة والاستقرار فيها، وعندما شعر عليه السلام أن المدينة تجمع بين المسلمين وغير المسلمين في دولة إسلامية بدأ بالتخطيط لإقامة الدولة التي تحتاج الى نظام مرجعي ينظم حياتهم وينظم السلطات والصلاحيات.. يعنى «دستور».. وكتب هذا الدستور بأمره، ويقال في الغالب بأمره شخصياً.. فتم إعداد الوثيقة الإسلامية الاولى التي عرفت بوثيقة المدينة أو صحيفة المدينة أو كما يسميها المعاصرون «دستور المدينة». 4 تلك الوثيقة هي ما اوجبها اكتمال عناصر الدولة الارض، الشعب، القانون، القيادة. ومن ثم فقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم انه قد آن الأوان لوضع البرنامج الذي يحكم تماسك البناء الاجتماعي والسياسي وبسط الأمن والسلام، وكان لا بد للناس أن ينتقلوا من الفكر القبلي والجهوي الى فكر الدولة والمجتمع المدني، وتحويل العلاقات من القبلية الى العلاقات الإنسانية والروحية «العقيدة» والقانونية «تنظيم وضبط المجتمع»، وفي اتجاه ترتيب المسائل السياسية والسلمية كان وضع ميثاق السلام وعدم الاعتداء، وحدد الحقوق والواجبات بين المسلمين وبينهم وبين اليهود «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس.. إن كل قبيلة من قبائل المهاجرين والأنصار يتعاملون بينهم بالمعروف والقسط»، وتقرر الوثيقة النبوية أن بين المسلمين واليهود النصح على من حارب أهل هذه الوثيقة، وان بينهم النصر والنصيحة والبر دون الإثم .. ويختم الوثيقة بأن الله سبحانه وتعالى شاهد ووكيل على ما تم الاتفاق عليه.. إن القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم يحثّ المسلمين ويوجههم لاحترام المواثيق والتعايش والسلام مع الآخر.. وقد أثنى القرآن الكريم على الذين يوفون بالعهد والأمانة «والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون»، كما أمرنا بتوخي العدل والإحسان في حياتنا وعلاقاتنا «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» ، «إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فاتموا اليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين»، اما من نكثوا العهد فعلى المسلمين أن يتصدوا لهم وقتالهم «وإن نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون ٭ ألا تقاتلون قوما نكثوا ايمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة». وهكذا يعلمنا القرآن الكريم أن نحترم العهود والمواثيق، وأن نلتزم بها، وهذا من أهم أسس الحياة الحضارية والعصرية والتعايش بين الناس جميعاً، وهذا سبق آخر لما درج عليه العالم من المواثيق الكثيرة.. وكذلك فإن الاسلام قد سبق وكانت له الريادة في تحديد وتنظيم وتقنين حقوق الإنسان وأسرى الحرب والبيئة والجودة والإخلاص في العمل واتقانه، وكوننا لا نعمل بهذه التعاليم يؤخذ علينا نحن المسلمين، ولا ينتقص ذلك من الرسالة الأساسية والتوجيه العقدي. وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحت الشجرة، ضرب المسلمون الأوائل أروع مثال للشورى والديمقراطية، وهما في المحصلة النهائية يقودان لنفس النتيجة، فالأصل والفكرة واحدة ولو تعددت المصطلحات واختلفت الطرق.. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى السبيل.