أ. د. أحمد عبد الرحمن العاقب: لولا أن سخر الله سبحانه وتعالى الطاقة الهائلة في المياه المنحدرة من الهضبة الإثيوبية إلى النيل لما وصل النيل البحر الأبيض المتوسط ولا استمر جريانه كل هذه الآلاف من السنين!! انني لم أتمكن من المشاركة في المناقشات التي تمت عن موضوع سد النهضة، نسبة لأنني كنت في فترة نقاهة من عملية عيون، ولكن بعض الأخوان، بارك الله فيهم، حفظوا لي بعض الصحف التي نشرت تلك المناقشات في اللجان والندوات، ولكنني ذهلت أن موضوع الطاقة التي يعتمد عليها النهر في جريانه قد أُغفلت تماماً. إننا يجب أن نقر ولا نستنكر حق إثيوبيا في استغلال الطاقة المائية التي أنعمهم بها الله سبحانه وتعالى، ولكن في حدود الأعراف والمبادئ والتشريعات المتفق عليها في حالة الأنهار المشتركة، ولقد عجبتُ أن بعض المناقشين نفوا تأثير سدود الطاقة على مسيرة النهر لأن الماء يرجع من التوربينات إلى النهر، ولكن نسوا أنه يرجع بدون طاقة كافية تساعد في دفع الجريان إلى المناطق في أسفل النهر، ومن هؤلاء المهندس سيمنيو بيكيلي مدير مشروع السد الذي بشر بتوفير الكهرباء للبلاد الأخرى بأسعار زهيدة، كما ذُكر في صحيفة «المجهر» عدد 9 يونيو 2013م، فإذا لم يصل الماء فلن تفيد الكهرباء. إن أغلب الهضبة الإثيوبية وبحيرة تانا يبلغ ارتفاعها أكثر من «1800» متر من سطح البحر، وسد النهضة أُقيم على حدود السودان الشرقية ومجرى النيل الأزرق الذي يبلغ ارتفاعه في الحدود حوالى «500» متر فوق سطح البحر. وسعة السد «74» مليار متر مكعب، وذلك يقارب حصة مصر والسودان من مياه النيل البالغة «84» مليار متر مكعب، وتأثيره بنسبة ما يراد حجزه أو استغلاله سنوياً. إن إقامة سد النهضة في أسفل الهضبة الإثيوبية يعني أن توربينات التوليد الكهربائي ستمتص كل الطاقة التي في المياه المنحدرة التي يسعها الخزان وتدخل التوربينات (أي 74 مليار) إلا إذا اتفق على غير ذلك، ومعروف ان التوربينات الحديثة والمولدات ذات كفاءة عالية تفوق 90% إلى 96%، فإذا تم ذلك في كل المشروعات الطموحة التي تخطط لها اثيوبيا في المياه المنحدرة من الهضبة، فلن يتبقى للنيل الأزرق بل لكل النيل إلا ارتفاع «500» متر من ارتفاع الهضبة البالغ أكثر من «1800» متر ليساهم بها في دفع مياه إلى داخل السودان وإلى مصر. أما النيل الأبيض فإن مصدره في بحيرة فكتوريا يرتفع حوالى «1100» متر فوق سطح البحر، ويقل هذا الارتفاع عند مرور المياه بالبحيرات الأخرى وفي سد أوين، وغيرها من المشروعات التي (أقامتها) أو تقيمها يوغندا ودولة جنوب السودان. والنيل الأبيض نهر بطئ بالنسبة للنيل الأزرق ومساهمته تقل عن 20% من مياه النيل، وعندما يصل النيل الأبيض منطقة السدود يعيق التوج جريانه فيركد في مستنقعات كبيرة وتنقذه الأمطار الغزيرة التي تهطل في المنطقة كما ينقذه نهر سوباط الذي ينحدر من إثيوبيا ولذلك فُكِّر في قناة جونقلي، ومعروف أن النيل الأبيض بطيء في جريانه، فعندما يصل إلى الخرطوم يدفع به النيل الأزرق إلى الوراء بضعة كيلو مترات خاصةً في وقت فيضان النيل الأزرق، لذلك فإن مساهمته في دفع مياه النيل ضعيفة ولكنه ترياق في حالة الجفاف الحاد في الهضبة الإثيوبية. إن مصر معذورة في قلقها وانفعالها الشديد نحو فكرة سد الألفية، وخاصة شعورها بالتغير السياسي العالمي والحراك من جهات معادية كبيرة للترويج عن حرب المياه، وتخطيط وتبني مشروعات كبيرة في الهضبة الإثيوبية تهدف لاستنزاف طاقة المياه المنحدرة من الهضبة، وهذا أيضاً قد يؤثر على الأمن المائي للسودان. إن نهر النيل من أطول الأنهار ويجري في أراضٍ قاحلة تقل فيها الأمطار، وزاد تغير المناخ الطين بلة (بل جفافاً)، كما أن قلة المياه وقلة الطاقة التي تدفعها تجعلها تبطئ فيجد الماء الوقت للتسرب والغور والتبخر فينضب ويجف النهر أو يصير موسمياً. إن هذا ليس سيناريو مبالغاً فيه، فهنالك عدد من الوديان في غرب النيل كانت تجري لوقت طويل مثل وادي الملك ووادي المقدم، وكان وادي المقدم يعتبر شرياناً للنقل النهري بين مملكتي علوة (سوبا) والمغرة (دنقلا)، ولكنه الآن نضب وجف إلا لفترات قصيرة في زمن الأمطار، ومثل ذلك في شرق السودان نهر بركة ونهر القاش الذي تبتلعه الرمال بعد كسلا. وقد عرف التاريخ الكثير من الأنهار الكبيرة التي جفت مثل النهر الذي كان يجري من حوض نهر الكونغو وبحيرة تشاد إلى البحر الأبيض المتوسط، وكذلك الأنهار الثلاثة التي كانت تجري من غرب الجزيرة العربية (السعودية)، وتدل المراجع أن النهر الأول كان يصب في الخليج في الكويت والثاني في قطر والثالث في وادي الدواسر في الربع الخالي، وعندما يتحكم الجفاف تبتلع الرمال النهر ومجراه تحت الأرض. وقد كان هذا يحدث في عصور طويلة، وحدث في سد مأرب وكاد أن يحدث في أرض النهرين في العراق. ولكن الآن فإن تطور العلوم والتكنولوجيا مكن الإنسان من امتلاك قدرات وامكانات هائلة يؤثر بها سريعاً في البيئات والبنيات والنعم الطبيعية التي خلقها سبحانه وتعالى على الأرض، وأهم تلك النعم الثروة المائية والثروة الغابية والثروة المعدنية. ولذلك كان من أهم التشريعات التي أصدرها مؤتمر قمة الأرض عن الحفاظ على البيئة عام 1992م، هو مبدأ التنمية المستدامة، وخلاصة مفهوم التنمية المستدامة هو ضرورة وأهمية التنمية، ولكن في حدود ألا تؤثر على قدرة الأجيال القادمة على التنمية بسبب استنزاف الموارد والنعم التي خلقها سبحانه وتعالى على الأرض. إن مصر والسودان وإثيوبيا بلاد صديقة وجيران ويمكن الوصول للتوافق بالحوار والمناقشة. وإنني أقترح أن يهتم المخططون لتصميم الخزانات لعمل ميزانية للطاقة التي يحتاج إليها جريان النهر، وأن يكون ذلك من الفصول المهمة في دراسات الهيدرولوجيا وبحوثها، خاصة أنه كما ذكرتُ قد تضاعفت القدرات والإمكانات لبناء الخزانات. إلكترونياً بواسطة: [email protected]